Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

روبرت مردوخ... "عمدة القرية العالمية"

سيرة متعرجة لأحد رجالات "الطبقة النافذة" التي انبثقت من النخبة الإعلامية الأميركية ومارست تأثيرها في المجتمع السياسي ومكامن السيطرة المالية والاقتصادية

روبرت مردوخ وقوة الكلمة والصورة والمعلومة والفكرة (غيتي)

ملخص

سيرة متعرجة لأحد رجالات "الطبقة النافذة" التي انبثقت من النخبة الإعلامية الأميركية ومارست تأثيرها في المجتمع السياسي ومكامن السيطرة المالية والاقتصادية

قبل أيام قليلة أعلن إمبراطور الصحافة الأميركية، الأسترالي الأصل روبرت مردوخ، تخليه عن منصبه في إدارة الإمبراطورية الإعلامية وتسليمها لابنه لوكلان.

بعد سبعة عقود من العمل الإعلامي الجاد والشاق، "لم يختبئ فيها وراء محرر"، كما وصفته هيئة الإذاعة البريطانية، يأخذ مردوخ خطوة للخلف، ويدفع ابنه إلى الأمام.

يمكن للمرء أن ينظر إلى مرودخ من عدسات مختلفة، فهو المكافح الذي بنى إمبراطورية من خلال صحيفة صغيرة ورثها عن والده عام 1952، ويراه البعض الآخر أحد أقطاب الحكومة السرية العالمية التي تدير العالم من وراء الستار، وفي كل الأحوال، فقد بدا مردوخ رقماً صعباً في الحياة السياسية والإعلامية الأميركية، وترك بصمات واضحة على كل من اقترب منها، سواء في قلب أميركا الرسمية الحكومية، أو أميركا الشعبوية.

مع تقاعده، نشرت "نيويورك تايمز" تقريراً مطولاً عن الرجل الذي أطاحت إمبراطوريته الإعلامية بحكومات في قارتين، وزعزعت استقرار أهم ديمقراطية على وجه الأرض أي الولايات المتحدة الأميركية.

من أين تبدأ قصة الفتى مردوخ، الذي يغادر اليوم مكتبه، تاركا إياه لنجله، وهو يمتلك إمبراطورية تتكون من أكثر من 800 شركة في أكثر من 50 دولة، وتقدر أصولها بمليارات الدولارات؟

المؤكد أنها واحدة من قصص أميركا التي يأتيك منها كل غريب وعجيب.

الإعلام إرث مردوخ من أبيه

والده كيث مردوخ، الصحافي الأسترالي الذي اكتسب شهرة إعلامية من خلال تغطيته للمذابح التي قادتها بريطانيا في الحرب العالمية الأولى، والذي بدأ حياته بالعمل بأجر زهيد، وقد قدر له الزواج من إليزابيث غرين، ابنة الثري اليهودي روبرت غرين، وقد كان ذلك عام 1928.

نجح كيث الأب في أن يتحول من مجرد مراسل صحافي، إلى مالك لصحيفة صغيرة، سيرثها من بعده ابنه البكر روبرت، الذي سيجعل منها حجر الزاوية في إمبراطوريته الإعلامية في التاريخ الحديث.

ولأن بريطانيا في ذلك الوقت كانت تشكل قبلة الباحثين عن العلم، فقد ابتعثه والده إلى جامعة أكسفورد، غير أنه بعد وفاة والده عام 1953، ترك الدراسة وعاد ليتولى إدارة شركة "ذا نيوز" في مدينة "إدبليد" بأستراليا.

لم تمض ثلاث سنوات، إلا وكان مردوخ قد بدأ في نشر أول وأنجح مجلة تلفزيونية أسبوعية في بلده، مجلة "تي في ويك"، ومع حلول عام 1964 أطلق صحيفة "ذا أستراليان"، أول صحيفة على مستوى البلاد، ومن هنا كانت بداية الانطلاقة نحو الإمبراطورية الإعلامية.

في عام 1969، وبعد أن رسخت صحيفته الأسترالية حضورها على مستوى القارة البعيدة بأكملها، بدأت مرحلة التطلع إلى الآفاق الرحبة خارج الحدود، وقد كانت بريطانيا، حيث اشترى صحيفة "ذا صن"، الشعبية الشهيرة.

وبحلول عام 1970، كان مردوخ قد اشترى حصة في مجلة "لندن ويك"، وبعدها بعامين استحوذ على صحيفة "ذا ديلي تليغراف" الشعبية في سيدني بأستراليا أيضاً.

في ذلك الوقت كانت الولايات المتحدة الأميركية، القطب المناوئ للاتحاد السوفياتي الذي اعتبره الكثيرون القوة الموازنة.

غير أن مردوخ وبعين فاحصة أدرك أن السبق سيكون لواشنطن في صراعها مع موسكو على قيادة العالم، ومن هنا بدأ تفكير الفتى الأسترالي الذي اشتد عوده، بعد أن بلغ الأربعينات من عمره، في مد أطراف إمبراطوريته للداخل الأميركي وما وراء الأطلسي، لذا نراه في عام 1973 يدخل لأسواق الولايات المتحدة لشراء ما يعرف بـ"سان أنطونيو إكسبريس نيوز".

كانت تلك هي البدايات التي أعقبتها صفقة شراء صحيفة "نيويورك بوست"، مقابل 30 مليون دولار، ليعرج من بعدها إلى بريطانيا ثانية، وهنا يشتري عام 1976 صحيفتي "ذا تايمز" و"صنداي تايمز"، البريطانيتين الشهيرتين.

كان المشهد متجاوزاً لشراء مؤسسة هنا أو هناك، إذ بدت ملامح  إمبراطورية "نيوز كورب"، تتخلق في الرحم الأميركي، وهذا ما تأكد بعد شرائه لصحيفتي "هيرالد" و"شيكاغو تايمز" في الأعوام 1982 و1983 على التوالي.

الطريق إلى الإعلام المتلفز

ولأن الشاشة الناطقة، هي الجزء المتمم والمكمل للصحافة المكتوبة، عطفاً على الشاشة الفضية، حيث السينما تبلور وتكون الرأي العام الأميركي، فقد عمد مرودخ عام 1985 إلى شراء شركة "تي سي أف هولدنغز"، وهي الشركة الأم لشركة "تونتيث سنشري فوكس" لإنتاج الأفلام، ثم دفعة واحدة يمضي في طريق شراء سبع محطات تلفزيونية أميركية من شركة "ميتروميديا" مقابل ملياري دولار، ليؤسس شبكة "فوكس نيوز".

ظهر عائق في الطريق، إذ لم يكن مردوخ وقتها أميركي الجنسية، وعليه كان لا بد له من الحصول على الجنسية الأميركية، وهو أمر يسير لمستثمر بحجم مردوخ، في بلد رأسمالي بامتياز، بل قلعة الرأسمالية حول العالم.

أدرج مرودخ شركة "نيوز كورب" في بورصة نيويورك، وأطلق من ثم شبكة "سكاي نيوز" في سوق البث التلفزيوني عبر الأقمار الاصطناعية من بريطانيا، وتلاها باستحواذه على قناة "ستار تي في" الآسيوية وإطلاق قناة "فوكس نيوز" عبر الكابلات الفضائية.

ولأن النجاح معدي، على كافة الأصعدة، لذا وجدنا مردوخ وخلال ستة أعوام، وتحديداً من 2001 إلى 2007، يستحوذ على حصة نسبتها 34 في المئة في شركة "هوغس إلكترونكس" المشغلة لشبكة "داير كت تي في"، أكبر شركة تلفزيونية عبر الأقمار الاصطناعية في الولايات المتحدة، وذلك من شركة "جنرال موتورز"، مقابل 6 مليارات دولار.

لم تتوقف شهية المستثمر الذي صار أميركياً، عند هذا الحد، فقد أغرته شركة "أنترميكس ميديا" مالكة الموقع الإلكتروني الشهير، "ماي سبيس" ليضمها لمجموعته في مقابل 580 مليار دولار.

لاحقاً توجت الانتصارات المردوخية بالسيطرة على صحيفة المصداقية والثقة المالية في أميركا بل والعالم، "وول ستريت جورنال" بعد أن دفع في المقابل 5 مليارات دولار، وهي الصفقة التي كثر الحديث حولها لا سيما أنها تمثل المصدر الرئيسي للمهتمين بالأسواق المالية في الولايات المتحدة، وفي العالم، والمنبر الرئيس للرأسماليين الأميركيين، وبالتحديد لقطاعي المصارف والأسواق المالية.

لم يكن فوز مردوخ بصفقة "وول ستريت جورنال" يسيراً، فقد عارضها أفراد بارزون في أسرة "بانكروفت" المهيمنة على الصحيفة، وذلك خوفاً من أن يضعف الملياردير الكبير استقلالها التحريري الذي تشتهر به، وبمعنى آخر خوفاً من أن تكون مطية لتوجهات مردوخ المالية، لكنه انتصر في نهاية الأمر.

يعن للقارئ أن يتساءل عن أبعاد القوة والنفوذ لرجل يمتلك كل هذه الأدوات الإعلامية في جمهورية أقرب ما تكون إلى الإمبراطورية، ومن يقدم فيها الرأي والخبر، نظيراً للخبز الذي كانت تقدمه الإمبراطورية الرومانية في زمن "الباكسا رومانا"، والذي حاولت الولايات المتحدة، ولا تزال تحاول، أن تخلق مثيلاً له بعنوان "الباكسا أميركانا"؟

سلطة إعلامية ذات توجهات سياسية

في مؤلفه الشيق "الطبقة الخارقة... نخبة التسلط العالمي وأي عالم تبني"، يخبرنا البروفيسور والكاتب أستاذ العلاقات الدولية الأميركي دافيد .ج. روثكوبف، عن مؤسسة مردوخ الإعلامية "نيوز كورب" بقوله: "قد تكون هناك مؤسسات إعلامية عملاقة أخرى، تعتبر أضخم وأكثر ربحاً من "نيوزكوربوريشن"، ولكن قلة من هذه المؤسسات تضاهيها نفوذاً، لأن مرودخ يسعى إلى استخدام سلطته لتقديم آرائه السياسية".

هل يتشابه مردوخ في قوته الإعلامية مع النخب العسكرية الوازنة على الجانب الآخر؟

هذا ما يقطع به روثكوبوف، والذي يقر بأن هناك وجه شبه مع النخب العسكرية، ذلك أن امتلاك القدرة على فرض القوة شيء، ولكن امتلاك الإرادة لاستخدامها شيء آخر.

يمتلك مرودخ الإرادة لاستخدام نفوذه وغالباً ما يفعل.

تبدت خطورة مردوخ الفعلية من قدرته على التأثير في آراء المحررين في صحفه، وبالقطع المذيعين في محطاته ذات النهج اليميني الواضح، كما الحال في "فوكس نيوز" على سبيل التحديد.

خذ إليك ما ذكرته صحيفة "غارديان" البريطانية على سبيل المثال بشأن توجهات صحف "نيوزكوربوريشن" خلال عملية غزو العراق من قبل الولايات المتحدة في مارس (آذار) 2003.

تقول "غارديان": "لم تقم أي صحيفة من المئات النافذة والمؤثرة التي يمتلكها مردوخ، بمعارضة اجتياح العراق".

كان تدخل مردوخ في إصدارات وسائله الإعلامية نقطة انتقاد أساسية من قبل مجلس "ذا وول ستريت جورنال"، وتحقق المخاوف التي كادت أن تمنع شراءه لها.

تقارير أخرى تشير إلى أن مردوخ وحينما عمد إلى ضم شركة "وورنر" للاتصالات خلال منتصف الثمانينيات، طلب من المراسلين الصحافيين في "نيويورك بوست" التنقيب في ماضي صاحب "وورنر"، ستيف روس، لإعانته في العملية القانونية التي ستمر فيها محاولة ضم الشركة.

واصل مردوخ تقديم قصص من شأنها أن تساعده، وأعاق مشاريع أحس أنها ستؤذي مصالحه التجارية أو مصالح حلفائه السياسيين.

وحينما يصل الأمر إلى السياسة، يتسم مردوخ بأنه عملي بشأن من سيدعم في الانتخابات، وهو لا ينتمي إلى أي من الحزبين الكبيرين في الولايات المتحدة الأميركية، الجمهوري أو الديمقراطي. فعلى رغم تحفظ كثير من وسائله الإعلامية (محطة "فوكس نيوز"، وصحيفة "نيويورك بوست" هما على الأرجح أبرز مثالين)، قام باستضافة حفل جمع تبرعات لمرشحة الرئاسة الديمقراطية السيناتور هيلاري كلينتون، إضافة إلى حفلة خاصة حضرها بيل كلينتون وآل غور.

تلفت سطور روثكوبف إلى النفوذ الطاغي الذي مثله مردوخ في الحياة السياسية الأميركية، الأمر الذي يبطل القول بالحيادية التامة لوسائل الإعلام هناك.

عرف مردوخ كيف يؤثر في حكومات الولايات المتحدة المتعاقبة بقوة، بقدر أكبر من أي مجموعة إعلامية أخرى.

يذكر عمدة مدينة نيويورك السابق إد كوش أنه تلقى مكالمة هاتفية شخصية من مردوخ حينما كان مرشحاً لمنصب العمدة عام 1977.

في المكالمة أطلعه مردوخ بأن صحيفة "نيويورك بوست" ستتبنى ترشيحه صباح اليوم التالي.

كان جواب إد كوش: "روبرت لقد حققت لي الفوز في الانتخابات للتو"، وقد فعل، والمؤكد أن هناك العديد من القصص المشابهة، وربما لعب دوراً معاكساً في حياة بعض كبار السياسيين الأميركيين، والتساؤل: هل تدخل مردوخ في صراعات البيت الأبيض، وعلى وجه خاص في أزمات الرئيس السابق دونالد ترمب؟

لماذا تخلى عن دعم ترمب؟

ولأن مردوخ قد أجاد البحث والتنقيب في سيرة ومسيرة منافسيه، لهذا لم يكن من الغريب والمثير أن يفتش الآخرون وينقبون في تاريخه وعلاقاته، التي تبدو براغماتية بدرجة أكثر خطورة من الأميركيين الأصليين قولاً واحداً.

في مسيرة مردوخ يلاحظ الباحث حالة من حالات الانقلاب 180 درجة على من كانوا أصدقاءه بالأمس، إن لم تمض مصالحه مع رياح توجهاتهم، والدليل الأول على ذلك الذي ذكرته مراسلة "بي بي سي" في واشنطن، جود شيرين، في تقرير لها خلال تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، هو تلك الرسالة السرية التي أرسلها مردوخ لرؤساء التحرير لديه.

كانت الرسالة مكونة من كلمتين: "اقتل ويتلام "... ما الذي تعنيه تلك الشفرة السرية؟

في منتصف السبعينيات كان رئيس الوزراء الأسترالي كوف ويتلام، على رأس حكومة بلاده، وقد شغل من قبل منصب زعيم حزب العمال في موطن مردوخ الأصلي، وكثيراً ما كان يتردد على مزرعة مردوخ للأغنام خارج كانبيرا، وكان يحظى بتغطية إيجابية من صحيفة "ذا أستراليان" المملوكة لمردوخ.

لماذا تغيرت معاملة إمبراطور الإعلام لصديقه السابق، بل وطلب فتح النار "أدبياً" عليه؟

الشاهد أنه بعد فوز ويتلام في انتخابات عام 1973، توقف الرجل عن التحدث إلى مردوخ، والعهدة هنا على الراوي، مايكل وولف، في سيرته المثيرة "الرجل الذي يملك الأخبار".

منذ ذلك الوقت، تراجعت العلاقة بينهما، وزاد الطينة بلة أن ويتلام اتخذ بعض القرارات التي تسببت في خسائر مالية لمردوخ.

اتخذ الرجل من صحافته الأسترالية مطية له للثأر من مناوئيه، وقد كان في مقدمهم رئيس الوزراء الأسترالي ويتلام، فقد شنت صحيفة "ذا أستراليان" حملة على إدارته، تضمنت سيلاً من الأخبار شملت تلميحات إلى فضائح جنسية ومالية.

كتب وولف يقول: "إن مردوخ نفسه كتب مقالات يهاجم فيها ويتلام، وأخمد تمرد طاقم غرفة التحرير لديه بسبب التحول الدراماتيكي للصحيفة من اليسار إلى اليمين".

بعد عشرة أشهر من الهجوم المردوخي الشرس على ويتلام، قام الحاكم العام لأستراليا بإقالته، الأمر الذي أكد ضراوة هجوم مردوخ قولاً وفعلاً.

هل الأمس شبيه باليوم، بمعنى هل انقلب مردوخ بالفعل على صديقه السابق دونالد ترمب، بنفس الكيفية، وذات الطريقة التي انتهجها مع ويتلام؟

باختصار غير مخل، كان ولا بد من أن تقوم صداقة ما بين ترمب ومردوخ، فكلاهما ملياردير من سكان نيويورك، ومن كبار أصحاب المؤسسات فيها، كما أن الإعلام جمعهما في لحظات بعينها.

شيء ما تغير أخيراً في علاقة الرجلين، فبعدما كان مردوخ من الداعمين لترمب، تحول عنه بشكل واضح، بل وفج.

وفقاً لكتاب وولف "نار وغضب" أنهى مردوخ ذات مرة مكالمة هاتفية مع الرئيس ترمب واصفاً إياه بكلمات لا تكتب على الورق.

هل كان مردوخ معاقباً لترمب بعد إخفاقات الحزب الجمهوري في الفوز باكتساح انتخابات التجديد النصفي للكونغرس؟

قد يكون ذلك كذلك بالفعل، ما تجلى في قطع قناة "فوكس نيوز" بثها أثناء إعلان ترمب عن نيته خوض السباق الرئاسي إلى البيت الأبيض.

ما حدث على شاشة القناة المعروفة بتوجهاتها اليمينية، يقودنا للتساؤل عن مساحة حرية الإعلام الحقيقية التي يتمتع بها الإعلام الأميركي، وبخاصة بعد ما يشبه الاتصال الهاتفي من مردوخ للقناة لقطع إعلان ترمب، الأمر الذي يليق بالأنظمة الشمولية والتوتاليتارية، لا بالجمهورية الأميركية الديمقراطية، مالئة الدنيا وشاغلة الناس، بحديثها عن "المدينة فوق جبل".

تجاوز الأمر ذلك، فقد وصفت صباح اليوم التالي هيئة تحرير "وول ستريت جورنال" ترامب بـ"الفاشل" وتوقعت هزيمة مؤكدة له.

أما "نيويورك بوست"، فقد أوردت خبر إعلان ترمب ترشحه في ذيل الصفحة الأولى، تحت عنوان تكاد رائحة الاحتقار والتقزيم تطل بأنفها من خلاله: "رجل فلوريدا يصدر إعلاناً".

عاصر مردوخ عدداً من رؤساء الولايات المتحدة، غير أن جلهم وضع مسافة بينه وبين إمبراطور الصحافة، وربما كان لكل منهم مبرراته في هذا السياق.

الغريب والعجيب، في أمر مردوخ هو أن ترمب أول رئيس وساكن للبيت الأبيض يقبل بحضوره في حياته الرسمية كرئيس للبلاد، ومع ذلك نفض يديه منه، بل مارس معه خطة: "اقتل ويتلام" مرة أخرى.

لم يكن ترمب وحده من أدرك أن مردوخ ليس لديه أصدقاء، بل مصالح متصلة ليل نهار، وصفقات يتم الاتفاق من حولها، وحال الافتراق يظهر الوجه الآخر، ويقلب لصداقته ظهر المجن كما يقال.

وصف أحد الشهود أمام لجنة ليفيسون التي حققت في أخلاقيات مردوخ في عالم الإعلام البريطاني، غدر مردوخ وانقلابه على الساسة الذين عرفهم في حياته المهنية بالقول: "إنها مجرد تجارة"، متحللة من أي أخلاقيات.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عمدة القرية الكونية والأذرع الأخطبوطية

ولأن خيوط وخطوط مردوخ الإعلامية تصل اليوم لعدة مليارات من البشر في ست قارات الأرض، لذا أطلق عليه عدد من الباحثين في شؤون وشجون الإعلام وصف "عمدة القرية الكونية".

بلغ من تأثير مردوخ أنه عندما ذهب لزيارة موسكو في ثمانينيات القرن المنصرم، أي في أوج عظمة الاتحاد السوفياتي، أنهم مدوا له البساط الأحمر، واستقبله سكرتير الحزب الشيوعي وجميع أعضاء الحكومة الروسية، كما جرت له مراسم استقبال بوصفه رئيساً عالمياً، وليس مالكاً لمحطات تلفزيونية أو صحف كبرى.

هل هناك مرويات تدور من حول مردوخ تربط بينه وبين ما يسمى حكومة العالم الخفية؟

المؤكد أن هناك أحاديث لا تنقطع عن دوره الكبير والمتقدم في مؤسسة "بيلدربرغ"، تلك التي تعقد عادة اجتماعاتها في أطر من السرية، وتتولى أجهزة استخبارات عالمية حماية أعضائها في الحل والترحال.

ماذا يعني ما تقدم؟

ربما يفيد الأمر في القول بأن حاضرات أيامنا باتت تعرف جيوشاً موازية للجيوش العسكرية، لكنها جيوش الصحافة والإذاعة والإعلام، القادرة على صناعة الصيف أو الشتاء كما يحلو لها.

ومع تقاعد مردوخ يبقى التساؤل الذي يشغل أوساط الإعلاميين: هل سينهج ابنه نفس نهجه، ويسير على دربه، أم أن طبائع الأشخاص المختلفة سوف تترك بصمتها على مسيرته؟

يحتاج الجواب إلى بعض الوقت، غير أنه وفي كل الأحوال، هناك درس موقت من إمبراطورية مردوخ الإعلامية، موصول بقوة وسائل الإعلام التقليدية، والتي لم يقدر لوسائط التواصل الإجتماعي المختلفة، على أهميتها وشهرتها وانتشارها، أن تهمشها أو تتركها جانباً، فلا يزال للصحافة الورقية المهمة مثل "وول ستريت جورنال" مكانتها ومفاعيلها.

أما التلفزة التقليدية فربما تمضي عقود طويلة قبل أن تختفي من أثير الكرة الأرضية، وليس أدل على أهميتها من قطع "فوكس نيوز" الهواء على إعلان ترمب ترشحه للرئاسة عام 2024.

وفي الخلاصة، فإن ما تقدم هو القليل جداً من أوراق مردوخ، والذي يعد أحد أكبر ألغاز القرن إعلامياً على الأقل.

قصة مردوخ الطويلة والحافلة والمتعرجة، تمثل مزيجاً من الثروة غير الاعتيادية والزيجات المتعددة، وقصص من الخيانة والطعن بالظهر، قصة تبدأ من عند الطموح وصولاً إلى السطوة، لا تعرف الأيديولوجيات، بل تمضي في طريق متصل لا ينقطع وراء البراغماتيات القاتلة إن جاز التعبير، ولهذا اعتبره الكثيرون رجلاً "مهمته إشاعة الخوف لدى الآخرين"، في سعيه لإعادة تشكيل العالم كما يحب ويرغب، لا كما يجب أن يكون بحسب النواميس الطبيعية والأخلاقية.

المزيد من تقارير