Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"بوسطن" رواية الكاتب الأميركي الأكثر نزاهة لإنصاف فوضويين

إعدام ساكو وفانزيتي كما صوره آبتون سنكلير معتبراً ذلك "جرحاً وعاراً في تاريخ بلادنا"

آبتون سنكلير خلال حملته للدفاع عن ساكو وفنزيتي (أ ب)

ملخص

إعدام ساكو وفانزيتي كما صوره آبتون سنكلير معتبراً ذلك "جرحاً وعاراً في تاريخ بلادنا"

لم يكن الكاتب الأميركي آبتون سنكلير المثقف الأميركي الوحيد الذي وقف في العامين 1927 – 1928 ضد ذلك المصير "المفعم بالظلم" الذي انتهت عليه حياة العاملين المهاجرين ساكو وفانزيتي، على يد العدالة الأميركية التي "تقترف بحكمها بإعدام هذين الرجلين البريئين جريمة يندى لها جبين الإنسانية ويمكن اعتبارها أفدح جريمة ترتكب في حق الأمة الأميركية منذ اغتيال الرئيس أبراهام لينكولن" في رأيه، مستطرداً أن هذه "الجريمة هي جرح وعار سيثقل كاهل الأميركيين جيلاً بأسره". لم يكن سنكلير وحيداً في موقفه، لكنه تميز بأمرين، أولهما أنه حمل القضية على كتفيه حتى أيامه الأخيرة ولم تصبه تجاهها آفة النسيان التي أصابت غيره، وثانيهما أنه وحتى من قبل تنفيذ حكم الإعدام - "السياسي بالتأكيد في حق هذين الأجنبيين اللذين اتهما بجريمة لم يرتكباها، لمجرد أنهما كانا معروفين كمناضلين ينتميان إلى التيار الفوضوي" كما ظل يؤكد حتى آخر حياته -، امتشق قلمه وشحذ موهبته الروائية الأدبية الحازمة وكتب تلك الرواية التي تعتبر من الروائع، إلى جانب روايتيه الكبيرتين الأخريين "نفط" التي حولها بول توماس أندرسون قبل سنوات إلى ذلك الفيلم الرائع "ستكون هناك دماء"، و"المسالخ" التي حولها المخرج هنري كينغ قبل عقود إلى واحد من أكثر الأفلام إدانة للرأسمالية الأميركية، "في شيكاغو العتيقة". ومن هنا يُنظر إلى "بوسطن" رواية سنكلير عن قضية ساكو وفانزيتي باعتبارها جزءاً من ثلاثية كتبها سنكلير مستنداً إلى الوقائع التاريخية على طريقة الفرنسي إميل زولا.

قضية منسية

ولكن لئن كان ذكر سنكلير لا يزال حياً وبخاصة من خلال حكاية عمله مع الروسي إيزنشتاين على محاولة تحقيق ذلك الفيلم الذي لم يكتمل أبداً "فلتحيا المكسيك" ثم من خلال أفلمة روايتيه الأخريين، فإن "بوسطن" تبدو دائماً أقل حظاً إذ يغمرها النسيان منذ ثلاثة أرباع القرن وكأنها لم تُكتب أبداً. وهي تتماثل في هذا مع القضية التي تتحدث عنها، قضية ساكو وفانزيتي التي تبدو اليوم بدورها منسية تماماً، بل لا تثير اهتمام أحد إن عادت إلى الواجهة بصدفة من الصدف. غير أن تلك لم تكن الحال بالطبع في نهايات عشرينيات القرن الفائت حين شغلت القضية الناس وملأت دنياهم واعتبرت خاصة عاراً على العدالة الأميركية التي تخبرنا رواية "بوسطن" على أية حال كيف أنها هرولت لتنفيذ حكم الإعدام من دون أن تكون الأدلة مكتملة بل في وقت توسلت ابنة المحكوم فانزيتي للقاضي بأن يؤجل الإعدام أياماً قليلة "لأن ثمة أدلة قاطعة في طريقها للظهور" كما سنرى في السطور التالية التي تكاد تلخص بعض أجواء رواية سنكلير لويس.

بين الواقع والإبداع

مهما يكن من أمر فإن الرواية وعلى رغم أن مؤلفها كتبها تحت ضغط نفسي هائل، لا تخلو من لحظات إبداع عرف الكاتب كيف يوالف بينها وبين الصفحات التوثيقية التي اشتغل عليها ليلاً ونهاراً منذ اتخذ قراره بكتابة ذلك النص في ما يربو على 750 صفحة قرأها كثر بشغف في ذلك الحين. ولعل أكثر صفحات الرواية قوة هي تلك التي يغوص فيها الكاتب في الأحداث التي يرويها وكأنه شاهد من الداخل على ما يحدث. ومن ذلك مثلاً ما يرويه لنا عن تلك اللحظات الأكثر حسماً في القضية كلها أي حين بات الإعدام مؤكداً وفشلت كل محاولات دفع المحكمة إلى اتخاذ ولو شبه موقف إنساني تذكر عبره بالخير فرفضت. وهكذا "عند الساعة الثامنة والدقيقة الأربعين من مساء يوم 23 أغسطس (آب) 1927 وحين دخل حارس السجن على السجينين لإبلاغهما أنهما سوف يعدمان بواسطة الكرسي الكهربائي عند منتصف الليل، لم يحرك السجينان ساكناً وإن كان أحدهما على الأقل قد عبر بكلمات مقتضبة عن أمله في أن يؤجل الحكم ولو لأيام قليلة إذ كان قد علم أن ثمة مسعى أخيراً قد بذل قبل ساعتين من أجل الوصول إلى ذلك التأجيل، مسعى قامت به السيدة ساكو والآنسة فانزيتي، مستعطفتين الحاكم فالر واعدتيه بأنهما "لو حصلتا على تأجيل لأسبوع لتمكنتا من الحصول على أدلة قاطعة تثبت براءة المحكومين".

وأقفلت المحكمة القضية

لكن الذي حدث هو أن كل ذلك كان بلا جدوى إذ ما إن انقضى منتصف الليل وحل صباح اليوم التالي حتى كان الرجلان قد أعدما واستدعيت السيدة والآنسة لتسلم جثتيهما. وكان ذلك خاتمة سبع سنوات من الجلسات والتحقيقات والمداولات والاحتجاجات والمواقف والانقسامات، سبع سنوات تدخل رواية "بوسطن" قارئها في دوامتها. سبع سنوات لم تتمكن السلطات الأميركية خلالها وعلى الإطلاق من الحصول على ما يكفي من الإثباتات التي تدين هذين المهاجرين الإيطاليين الشابين بتهمة السرقة والقتل. ومن هنا، وكما تشرح الرواية مطولاً، اعتبرت القضية سياسية لا جنائية، ما أدى في أميركا وفي مدن أخرى كثيرة من العالم إلى اندلاع الكثير من التظاهرات وأعمال العنف الاحتجاجية. وهذه ظلت متواصلة طوال السنوات السبع التي استغرقتها المحاكمة. بل إن الاحتجاجات راحت تتواصل فترة طويلة ضد السلطات الأميركية التي اتهمها كثر حول العالم بالجور والظلم مستنتجين أنها انزلقت في خطئها القضائي بحيث لم يعد في مقدورها أن تتراجع. ومن هنا كانت الفترة قصيرة بين إصدار الحكم وتنفيذه، مقارنة بالسنوات الطويلة التي سبقت إصدار الحكم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أصل الحكاية

وتعود "بوسطن" بعد أن توضح ذلك كله إلى التراجع الزمني لتفيدنا بأن المسألة كان يمكنها في البداية أن تكون مجرد "قضية جنائية عادية". فالحكاية بدأت حين اتهمت شرطة مدينة بوسطن، العاملين المهاجرين نيقولا ساكو وبارتيلوميو فانزيتي بقتل المسؤول المالي في إحدى الشركات العاملة في المدينة والاستيلاء على ما كان في حوزته من مال. من هنا كان يمكن للقضية أن تكون عابرة، لولا تضافر عاملين قلبا الحكاية وأسهما في إطلاق عاصفة سياسية كبرى، عاملين كان ثمة بينهما أكثر من رابط: الأول أن المتهمين أجنبيان. وليس هذا فقط بل هما معروفان كمناضلين سياسيين عضوين في إحدى المجموعات الفوضوية. أما العامل الثاني فكمن في عجز شرطة المدينة على توفير ما وعدت به المواطنين من أدلة دامغة على ضلوع الرجلين في الجريمة، فاستندت فقط إلى مقالة في صحيفة محلية تتهمهما بتهريب السلاح والفرار من الخدمة العسكرية. وكان هذا كافياً لتعتبر الشرطة أنها قد حفظت ماء وجهها وبرهنت على خيانة ارتكبها الرجلان تفوق في قوتها جريمة السرقة والقتل. والحال أن القضية راحت تزداد تفاعلاً وتسيساً، من منطق المحتجين ولكن أيضاً من منطق الذين لم يغفروا للأجنبيين "موقفهما من الأمة الأميركية". وهكذا وصلت المسألة إلى الطريق المسدود فلا السلطات تمكنت من العثور على أدلة قاطعة تدين الرجلين بالتهمة "الصغرى" ولا الدفاع تمكن من إيجاد ما يحتاجه من أدلة قاطعة من ناحيتها تبرئهما من تلك التهمة، وعلى ضوء التهمة الكبيرة الأخرى.

انقسام محلي وعالمي

ومن هنا تسيست القضية وانقسم الرأي العام الأميركي والعالمي. ولم تعد القضية جنائية بل صارت سياسية تتعلق بانتماء الرجلين وميولهما. وفي ظل مثل تلك الوضعية كان من الطبيعي أن يتوقع كثر ألا يبرم الحكم بالإعدام لأنه سيكون فضيحة سياسية وأخلاقية. لكنه أبرم في صيف عام 1927. وحين أعدم ساكو وفانزيتي وسط أخبار تعم العالم عن احتجاجات صاخبة ولا سيما في أميركا اللاتينية وأوروبا اللتين اعتبرتا ساكو وفانزيتي شهيدين سياسيين، صارت حكايتهما موضوعاً للشعر والفن التشكيلي والسينما، غير أنه يبقى لآنتون سنكلير الفضل في تدوينه في روايته "بوسطن" كل تلك التفاصيل والمواقف والسجالات التي حفظت قضية الشهيدين للتاريخ، ولكنه كان حفظاً متحفياً بالنظر إلى أن الرواية نفسها سرعان ما اختفت من التداول تماماً كما حال مسرحية كتبها الأميركي ماكسويل أندرسون عن القضية نفسها...

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة