Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

العداء للمهاتما... هنود ضد غاندي

رغم أن العالم يعتبره صاحب الثورة الأهدأ في التاريخ لكن صاحبة الـ"بوكر" أرونداتي روي لا تزال تؤكد على "رجعيته" وتنتصر لخصومه

هل كان غاندي أسوأ ما حدث للهند في تاريخها؟ (غيتي)

من تولستوي إلى تشارلي شابلن، ومن كبار مثقفي العالم وتقدمييه إلى شعوب بأسرها، ثمة إجماع على اعتبار الزعيم الهندي المهاتما غاندي واحداً من أكبر شخصيات القرن العشرين، وواحداً من أكثر ثواره عقلانية مع نتائج سياسية لعلها عرفت كيف تطبع النصف الثاني من القرن العشرين.

مع ذلك ثمة على الدوام دهشة كبيرة تنتاب عدداً كبيراً من أناس سرعان ما يستذكرون ما إن يؤتى على ذكر زعيم "ثورة اللاعنف هذا" ما كان من نهايته قتلاً على يد واحد من جماعته بمجرد أن أنجز استقلال الهند وتحريرها من ذلك الاندماج القسري بما سيعرف لاحقاً باسم باكستان. وهو ما يرويه ذلك الفيلم الكبير الناجح الذي حققه الإنجليزي ريتشارد آتنبورو في الثمانينيات، واعتبر واحداً من أقوى أفلام السير التاريخية منذ زمن بعيد. لكن يرويه بشكل أفضل من ذلك وأعمق تحليلاً الكاتب الهندي سلمان رشدي، في روايته "أطفال منتصف الليل" المعتبرة واحدة من أعظم الروايات التي نشرت بالإنجليزية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ما أتاح لها الفوز بجائزة "بوكر" الفريدة من نوعها.

لعبة مواربة

ومهما يكن من أمر هنا، لا بد من الإشارة إلى أن رشدي لم يكن يحب غاندي. لكنه حين أراد التعبير عن ذلك، فعله من خلال كتابته عن زميلته الكاتبة أرونداتي روي (صاحبة الرواية الرائعة "إله الأشياء الصغيرة"). فهو كهندي مسلم وجد كما يبدو حرجاً في إبداء كراهيته لغاندي فلجأ إلى أرونداتي   كنوع من تخفيف الأذى. ولكن الرسالة وصلت، كما أن أرونداتي   لم تجد مغبة في ذلك الاستعمال، بل هي واصلت وتواصل معركتها ضد غاندي من دون حرج. ومن علامات تلك المعركة تبنيها المطلق لمؤلفات الكاتب الهندي ب. ر. آمبدكار، الجامعي والفيلسوف الذي كثيراً ما رمي في غياهب النسيان ليعاد إلى الواجهة منذ سنوات من منطلق كونه الخصم الأكثر شراسة في السياسة والفكر لغاندي نفسه، والمفكر المناضل الذي لم يتوقف طوال عقود عن مناوأة الزعيم الهندي الكبير. وكان من آخر ما خاضته أرونداتي   في هذا السياق المشترك بينها وبين آمبدكار من ناحية، وسلمان رشدي من ناحية أخرى، إصدار واحد من أهم كتب آمبدكار هذا وعنوانه "محو الطوائف" الذي شاءه حين وضعه "ضربة المباراة" ضد خصمه معبود الشعب الهندي، فدفع الثمن غالياً.

 

 

غاندي ونقاط ضعفه

الحقيقة أن نشر هذا الكتاب أتى عام 2014 ليذكر من نسوا ذلك، وبحسب تعبير أرونداتي   التي كالعادة قدمت للكتاب قبل أن تخوض حملة ترويجية لمصلحته أحيت من خلالها محاولاتها الدؤوب لـ"فضح ذاك الذي لا يمسّ"، أتى ليذكر بأن غاندي كانت له هو الآخر نقاط ضعفه، "ليس فقط في حياته الشخصية" بل خاصة في مجال "دفاعه الشرس عن النزعة الهندوسية وقيمها التي كثيراً ما استشرت الاحتجاجات ضدها". وتذكرنا أرونداتي   بأن مواقف غاندي في هذا المجال – والتي تكاد تكون مطموسة اليوم تحت قناع نزعة إنسانية أممية يصعب العثور حقاً عليها – كانت هي ما استثار مجابهات بالغة العنف والشراسة بين المهاتما وخصمه الألد على الصعد السياسية والفكرية أيضا ب. ر. آمبدكار. ويفيدنا مدخل الكتاب على أية حال بأن آمبدكار ولد غير بعيد من مكان ولادة غاندي، في بيئة مختلفة جذرياً عن بيئة المهاتما، فهو ينتمي إلى طائفة "المنبوذين" ما جعله عاجزاً على رغم ذكائه ودبلوماته العديدة وموقعه كبروفسور جامعي كبير، عن الاغتسال بالمياه العامة لكونه كمنبوذ يدنسها فيدنس بالتالي رفاقه في العمل الجامعي وتلامذته.

معركة ضخمة

ولمحاربة هذا الواقع خاض آمبدكار في سنوات العشرين معركة ضخمة إنما سلمية على خطى نضالات غاندي نفسه ضد ذلك التمييز المهين. غير أن الفارق الأساسي بين نضاله ونضال غاندي كمن في أنه هو لم يخض النضال ضد الإنجليز بل ضد الهنود أنفسهم. لم تكن معركته من أجل الاستقلال بل في سبيل محو نظام الطوائف ولنصرة المنبوذين. ومن علامات معركة آمبدكار تمكنه من إلزام غاندي الذي كان نزيل السجن حينها، بخوض إضراب عن الطعام ولكن ليس دعماً لقضية المنبوذين، بل على العكس من ذلك، للاحتجاج ضد أن يتم التعامل مع المنبوذين باعتبارهم فريقاً من الناخبين على حدة. ولاحقاً حين حصلت الهند على استقلالها وانفصل عنها مئات الملايين من مسلمين أقاموا دولة باكستان، واصل المفكر الجامعي، وعلى الضد تماماً من أفكار غاندي، معركته الشرسة ضد الهندوسية ومنظومتها الاجتماعية القائمة على التمييز الطبقي، ولا سيما ضد المنبوذين ومن هم على شاكلة هؤلاء. كانت معركته إذاً تجمع بين السعي لإزالة تلك الفوارق الطبقية والعمل على مناوأة المصير الذي جُعل لنساء الهند جميعاً، سواء كن منبوذات أم هندوسيات. ناهيك عن النضال في سبيل تأخير سن الزواج ومنع تزويج الأطفال، وإلى حد ما ضد تعدد الزوجات الذي كان مسموحاً به للستين مليوناً من المسلمين الهنود.

تحول إلى الاقتصاد

والحقيقة أن كل هذه المواضيع التي لا يبدو أن غاندي أبدى أية مبالاة تجاهها – لحرصه على عدم إغضاب مريديه من الهندوسيين أو من المسلمين - كانت بالغة الخطورة، ومن هنا راح آمبدكار، ولا سيما بعد مقتل غاندي وتحويله إلى أيقونة لا يمكن مناوأتها، يبتعد من السياسة وقد أدرك استحالة خوضه فيها في وجه مجتمع بالغ الشراسة والرجعية في المجال الاجتماعي. كما راح يبتعد من العمل القانوني الذي كان مجاله المهني على رغم أنه كان من صاغ الدستور الهندي المعمول به منذ ذلك الحين، لينصرف إلى العمل الاقتصادي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولكن ذلك الانصراف لم يهدئ من ثائرته، ولا سيما في معارك متواصلة راح يخوضها ضد الهندوسية. ففي نهاية المطاف كان آمبدكار يرى أن الهندوسية هي المسؤولة الأساسية عن كل ذلك التخلف الاقتصادي الذي عانت منه الهند خلال مرحلة ما بعد الاستقلال. وكان الأثر الشخصي لكل ذلك على حياة آمبدكار الشخصية أنه انتهى إلى التخلي عن دينه الهندوسي ليعتنق البوذية، وقد تمكن من جر ملايين المنبوذين معه نحو ذلك الدين الذي وجده أكثر تسامحاً وإنصافاً للبشر.

ولعل في إمكاننا هنا على أية حال أن نزعم أن هذا الكاتب المفكر إنما أعلن عبر ذلك الانزياح الصارخ عن الهندوسية دين آبائه وأجداده، أنه يعترف بهزيمته في معركته ضد غاندي و"رجعيته"، بينما ترى أرونداتي   روي أن ذلك القرار كان انتصاره الأكبر بمعنى أنه كان في المطاف الأخير انتصاراً على الذات، "وقد عرف كيف يترك الهندوسية لخصمه الكبير الذي لا شك أنه في هذا المجال بالتحديد إنما أصيب بهزيمة كبرى".

 

 

والحقيقة أن ثمة من يرى في هذا السياق نفسه أن غاندي كان من شأنه لو لم يقتله هندوسي بعيد استقلال الهند، أن يسلك إلى حد ما الطريق التي سلكها آمبدكار ولكن ليس في التخلي عن الهندوسية، فما كان متاحاً لفرد من المنبوذين، ولو كانت له مكانة المفكر القانوني والاقتصادي الكبير، كان مستحيلاً على زعيم سياسي قاد الملايين من أبناء جلدته إلى الاستقلال، والدليل القاطع هو أن مجرد "تراخي" غاندي مع مسلمي الهند كلفه حياته على يد هندوسيين لم يرقهم ذلك التراخي. بينما لم يؤذوا المنبوذ حين ترك هندوسيته ليعتنق البوذية.

حسن نية

ولعل اللافت في تبني أرونداتي روي لفكر آمبدكار أنها لم تضع هذه الفرضية الأخيرة في حسبانها، فبعد كل شيء نعرف أن صاحبة "إله الأشياء الصغيرة" تخوض هي الأخرى معركتها الخاصة ضد غاندي، ولا تريد أن تتيح له ثغرة ينفذ منها كاشفاً عن حسن نية تجعل من المتوقع منه أن يصوب سكته ما إن حقق مبتغاه السياسي الكبير، الذي كان يتطلب منه شيئاً من ديماغوجية سلكها لكنه سرعان ما دفع ثمنها.

أما بالنسبة إلى أرونداتي التي دائماً ما أعلنت أنها تلميذة لآمبدكار فإنها لا تتوقف عن السعي لنشر أفكار أستاذها ولو لمجرد الانتقاص من مكانة غاندي، معتبرة هذا الأخير "أسوأ ما حدث للهند في تاريخها"، غير متصورة أنه كان سيفعل كثيراً لو أنه عاش حقاً مرحلة ما بعد الاستقلال. وهذا ما يجعل معركتها شخصية بالأحرى.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة