ملخص
تذهب مليارات الدولارات لتغذية بيروقراطية منظمة الأمم المتحدة المترهلة بينما تفشل في تنفيذ ما ورد في السطر الأول من ميثاقها وتصر على أنه ما زال بمقدورها القيام بذلك لو توفر لها مزيد من الأموال
خلص تقرير صادر عن مجموعة البنك الدولي في نهاية 2021 إلى أن المجتمع الدولي لن يكون بمقدوره الاحتفاء بتحقيق أهداف التنمية المستدامة في 2030، وأنه ربما يكون من الشجاعة الوقوف أمام أسباب إخفاق الأمم المتحدة في الإيفاء بمستوى الطموح الذي أبدته في 2015. ويؤكد تقرير البنك الدولي أن الخلل الأكبر يكمن في عدم توفر البيانات لقياس مستوى الإنجاز، فأهداف التنمية المستدامة تشكل تحدياً كبيراً للأنظمة الإحصائية الوطنية من حيث ضبابية غاياتها.
فقد كان هذا الأمر جلياً حينما أجرت الدول الأعضاء في المنظمة الدولية مفاوضاتها لتقييم مستوى إنجاز أهداف الألفية الإنمائية في عام 2015، حيث أشارت التقارير حينها إلى أن التقييم العام لمستوى التنفيذ اعترته الصعوبات الإحصائية فقد أبلغت الدول تقييمها في المتوسط لبيانات عن 68 في المئة فقط من مؤشرات الأهداف، هذا علماً أن أهداف الألفية الإنمائية كانت ثمانية ومستهدفاتها 21 ومؤشراتها 60، فيما أهداف التنمية المستدامة هي 17 هدفاً، بمستهدفات تبلغ 169، ومؤشرات تبلغ 231.
في نقاشاتها بصيف العام الحالي وقفت مجموعة الـ77، وهي مجموعة اقتصادية تضم 135 من الدول النامية الأعضاء في الأمم المتحدة أمام أخطار تهرب الدول الغربية من التزاماتها المالية تجاه أهداف التنمية المستدامة. وتقول السيدة كمفورت إيرو المديرة التنفيذية لمجموعة الأزمات الدولية إن إحجام الدول الكبرى عن زيادة مساهماتها لصالح تنفيذ الأهداف مرده إلى الضغوط الاقتصادية التي تواجهها داخلياً.
وفيما تتعارض مقاربات الدول الأعضاء، والخبراء، ومجموعات الضغط داخل المنظمة الدولية وخارجها حول أسباب فشل تنفيذ أهداف التنمية المستدامة. يقول البروفيسور ويليام إيسترلي المتخصص في اقتصاد التنمية الدولية والمعروف بنقده الشديد لبرامج الأمم المتحدة الإنمائية، وصاحب كتاب صدر أخيراً بعنوان "اقتصادات التنمية الدولية: المساعدات الخارجية في مواجهة الحرية لفقراء العالم"، إن خطة أهداف التنمية المستدامة لا جدوى منها، وهي تقوم على أحلام مشوهة، فلا إمكانية لإيجاد تنسيق أفضل بين الأمم المتحدة والدول الأعضاء لزيادة كفاءة التنفيذ والتغلب على هذا النهج المعيب.
وأضاف البروفيسور إيسترلي إن أهداف الألفية الإنمائية كانت أكثر جاذبية من حيث دقتها وقابليتها للقياس والتنفيذ، مقابل أهداف التنمية المستدامة المتشعبة والمتداخلة والبعيدة من الانسجام والترابط والأقرب إلى الأحلام والتمنيات الجوفاء، فقد امتلأت ديباجتها بعبارات رومانسية مثل "تحويل عالمنا" و"مصممون على تحرير الجنس البشري من طغيان الفقر والعوز" و"نحن نعد بألا يتخلف أحد عن الركب"، ليأتي الأمين العام خلال خطابه الأخير عند افتتاح الجمعية العامة وخلال المراجعة النصفية لمستوى تنفيذ الأهداف ليقول إنه أضاع الأهداف التي لن تتحقق.
غياب المحاسبة الدولية
وفي خطابه قدر الأمين العام حاجة المنظمة الدولية لـ500 مليار دولار سنوياً خلال السنوات المتبقية حتى 2030، مع وعد بإنجاز الأهداف، ولا يدري أحد ما هي الأسس العلمية التي اعتمدها الأمين العام لتقديم هذا الطلب العاجل، حيث قدرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD أن تحقيق مستهدفات التنمية المستدامة والبالغ عددها 169 يحتاج إلى ما بين 3.3 و4.5 تريليون دولار أميركي سنوياً، أي ما يوازي الميزانية الفيدرالية الأميركية، ولا يعقل أن يقدم العالم تريليونات الدولارات من دون كشف حساب دقيق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما أن الأمين العام في خطاباته الأخيرة أعاد أسباب فشل الأمم المتحدة في تحقيق التقدم المطلوب، على جائحة كورونا، وعلى فشل المنظومة المالية الدولية، وعدم وفاء الدول بتعهداتها المالية، في تناقض واضح مع ما قاله في تقييم عام 2019 لمستوى تنفيذ أهداف التنمية المستدامة، أمام الدول الأعضاء وقبل أن تكون هناك جائحة، حيث قال إن المشهد العالمي لتنفيذ الأهداف قد تدهور، وإنه لن يتم تنفيذ أهداف التنمية المستدامة. فلماذا الإصرار على طلب مزيد من المال، ألم يكن من الشجاعة التراجع عن الأهداف غير القابلة للتنفيذ والاعتراف بذلك؟
وتكاد تجمع التحليلات على أن الفشل داخل المنظمة الدولية التي يعمل فيها 126 ألف موظف يستهلكون كل ميزانياتها الرسمية والمساهمات غير الرسمية، وأن الخطط التي تقدمها لم تكن في يوم من الأيام مجدية، بل إنها تفتقر إلى التركيز، وتسعى إلى الحصول على مزيد من الموارد المالية لتغذية بيروقراطيتها المترهلة. ويكفي النظر إلى فرق الأمم المتحدة في القارة الأفريقية التي تحارب الفقر وهي تعيش في مستوى دخل النخب الأفريقية الفاسدة.
وبدلاً من تركيز برامج الأمم المتحدة على مكافحة الفقر الذي لا يزال آفة حقيقية تواجه البشرية، قامت بالتركيز على أهداف مترامية الأطراف، وخاطئة الفهم، لدرجة أن مؤشرات الفشل باتت واضحة أمام الجميع، ومع الأسف لا نجد من يتحدث صراحة عن الحاجة لوقفة محاسبة ومراجعة دولية عميقة.
تصوير الخلل من الداخل
وفي إطار البحث عن الأسباب الحقيقة لفشل الجهود التنموية للأمم المتحدة تجدر الإشارة إلى وجود 37 جهازاً مستقلاً داخل الأمم المتحدة متخصصاً في تنسيق العمليات الإنمائية في 162 دولة في العالم. وفي عام 2019 وحده كلف تمويل نشاطات الأمم المتحدة التنموية أكثر من 38 مليار دولار. ويتذكر عديد من زملاء المهنة تلك الضجة التي أحدثها نشر دراسة مستقلة في عام 2011، والتي خلصت إلى أن منظومة الأمم المتحدة الإنمائية هي الأسوأ من حيث انعدام الكفاءة والأداء، فمنظمات الأمم المتحدة التنموية، تقع أسفل قائمة المانحين بسبب أن النسبة الأكبر من مواردها تستهلك داخلياً للصرف على المرتبات، والكلفة التشغيلية المصاحبة. وأكد التقرير أن أنجع السبل لتقديم العون التنموي ليس عبر الأمم المتحدة، بل عبر العلاقات الثنائية. وحددت الدراسة أن أسوأ منظمات الأمم المتحدة على الإطلاق هما البرنامج الإنمائي، وصندوق الأمم المتحدة للسكان اللذان ينفقان جل ميزانيتهما داخلياً.
كذلك هي حال لجان الأمم المتحدة الاقتصادية الإقليمية، وهي أجهزة بيروقراطية شديدة الفساد، فاللجنة الاقتصادية الإقليمية لأفريقيا مثلاً، وهي واحدة من خمس لجان إقليمية قارية على مستوى العالم، والتي أنشئت نهاية خمسينيات القرن الماضي، يذهب جل ميزانيتها السنوية على المرتبات، وبدل السفر، والعمليات التشغيلية، والأثاث، فيما يبقى واحد في المئة من الميزانية تقدم بصورة منح للدول، والأمر ينطبق على المكاتب الإقليمية الأخرى. وما خفي كان أعظم، وقد لا تتسع عشرات المقالات المتتالية لعرضه.
وضمن سياقات مكتب الأمين العام لتفريخ الأفكار، والتي بدورها تجلب مزيداً من الموارد للأمم المتحدة، وفي إطار الذكرى السنوية الـ75 لقيام الأمم المتحدة، أطلق الأمين العام في 2021 ما سماه بـ"أجندتنا المشتركة"، وهي رؤيته لمستقبل التعاون العالمي خلال الـ25 سنة المقبلة، وقدمها بقالب حالم "أن رفاه البشرية، ومستقبلها يعتمد على التضامن والعمل كأسرة عالمية واحدة"، وواصل الأمين العام تأكيده أن "عمل الأمم المتحدة حقق قدراً هائلاً من الإنجازات خلال الـ75 سنة الماضية".
وفي جوهر تقرير "أجندتنا المشتركة"، كرر الأمين العام خطابه العاطفي "ألا نترك أحداً خلف الركب، وأن نحمي كوكبنا، وأن نعزز السلام وتمنع نشوب النزاعات"، وكلها أحلام لم تقدم الأمم المتحدة أي إنجاز فيها منذ 77 عاماً حتى اليوم والشواهد كثيرة، لكن أهم طلبات الأمين العام في ذلك التقرير تركزت على "ضمان التمويل المستدام، للنهوض بأداء الأمم المتحدة".
قصة فساد معلن
في عام 1986 ضغطت الدول الأعضاء لخفض 1700 وظيفة في الأمم المتحدة لتوفير قرابة الـ70 مليون دولار، حينها كان عدد الموظفين لا يتجاوز 11 ألفاً. في ذلك الوقت قالت تقارير مستقلة إن الأمم المتحدة باتت هدفاً للمنتقدين الذين يتهمونها بالتضخم والترهل، والتعيينات السياسية، وأن مؤهلات الموظفين، وبخاصة في الشرائح العليا غير كفؤة وأساليب العمل غير فعالة. وأوصى التقرير الذي نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" حينها، بخفض ما نسبته 25 في المئة بعدد وكلاء الأمين العام، والأمناء العامين المساعدين، الذين كان يبلغ عددهم 90 شخصاً حينئذ، فيما يتجاوز عددهم اليوم 195 في المراتب القيادية.
هذه هي بعض من قصة الأمم المتحدة بعد 77 عاماً من التضخم البيروقراطي (لخدمة البشرية)، وهي تعيش اليوم مرحلة شبيهة بتلك التي شهدتها عصبة الأمم في سنوات احتضارها خلال الحرب العالمية الثانية، والتي أسقطتها الدول الأعضاء حينها لأنها فشلت في إنقاذ العالم من حربين مدمرتين. واليوم تعيد هذه الأمم المتحدة إنتاج الفشل في عالم يزداد عنفاً وقتلاً وفقراً وجوعاً، فيما مليارات الدولارات تذهب لتغذية بيروقراطيتها المترهلة، وتفشل في تنفيذ ما ورد في السطر الأول من ميثاقها "نحن شعوب الأمم المتحدة، وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب"، وتصر على أنه ما زال بمقدورها القيام بذلك لو توفر لها مزيد من الأموال.
في سبتمبر (أيلول) من العام المقبل ستعقد "قمة المستقبل" التي دعا إليها الأمين العام، وبدأت النقاشات الأولية حول برنامجها. ويقول الأمين العام إنها فرصة لا تتكرر إلا كل 25 عاماً لتجديد الالتزام بميثاق الأمم المتحدة. فهل يقوم العقلاء في عالمنا بصياغة أمم متحدة جديدة تليق بتحديات العصر، وتليق بإعادة تشكل النظام العالمي وبروز أقطاب إقليمية دولية جديدة. سيكون علينا الانتظار لنرى.