ملخص
"العيش في الصحراء حالة انفلات تام من عقال المجتمع وهو لحظة صفاء وتجل كاملة"
خبز الملة أو خبز الرماد كما يسميه البعض هو ميزة صحراوية تونسية بامتياز، وهو عجين يدفن في الرمل ملتحفاً بالنار، ومن رحم تزاوج النار بالرمل يولد خبز الملة الذي يعكس ثقافة ضاربة في عمق التاريخ البشري، وخبز الملة هو في الأصل خبز الرعاة والمسافرين في قلب الصحراء، حيث ابتدع الراعي والمسافر حيلة لتناول خبز طري ساخن في كبد الصحراء.
ويبحث الرعاة عن الكلأ لإبلهم ومواشيهم ويتوغلون في ثنايا البيداء، ويحملون في رحلتهم قليلاً من الطحين والماء، يخلطونه ويصنعون منه عجينة يدفنونها في رمل الصحراء الذي اكتسب حرارة مرتفعة من النار التي هي فوقه، ثم يأكلونه مع حليب الإبل أو الماعز.
مهارات الرعاة في قلب الصحراء
ويقول أستاذ الأنثروبولوجيا الثقافية الأمين البوعزيزي إن "خبز الملة يعكس فنون الطبخ عند الرعاة في الصحراء، لأن الراعي في الفلاة ليس بوسعه أن يوفر لنفسه الخبز الساخن، لذلك أبدع في هذا الفن، فيأخذ معه السميد والماء ويخلط الدقيق بالماء ليصنع منه عجيناً، ثم يتركه يتخمر قليلاً ويشعل النار فوق الرمل، وعند التحام الرمل بالنار يصبح الرمل ساخناً فيزيح الجمر ويدفن العجينة في الرمل، ويضع فوقها النار لتحافظ الرمال على درجة حرارة عالية فتتحول العجينة إلى خبز طري شهي".
ويضيف المتخصص في الأنثروبولوجيا الثقافية أن "خبز الملة يختزل ثقافة البدو والمسافرين في الصحراء، وهو يرمز لمهارات الرعاة باستخدام النار والدقيق والماء، من أجل خبز طري في فضاء مفتوح وبعيد من المدينة"، ويتابع أن "الطبخ مرحلة قديمة في تاريخ البشرية، لأن الإنسان بقي آلاف السنين لا يطبخ، بل يأكل كل شيء نيئاً، وبعد اكتشاف النار بات الإنسان يتفنن في الطبخ"، ويؤكد الأمين البوعزيزي أن "الراعي أو المسافر يستخدم ما هو متاح في الفضاء الذي يوجد فيه، وهو نوع من التعايش مع الطبيعة، وساكن الصحراء لا يحرم نفسه من أن يطبخ ويصنع خبزاً للحياة".
خبز الملة منتوج سياحي
تشبه قصة خبز الملة بعض الأكلات التونسية الأخرى، مثل أكلة "الزقوقو"، وهي الحبوب التي تستخرج من شجرة الصنوبر، والتجأ السكان إلى "الزقوقو" ليصنعوا منه عصيدة تسد رمقهم، واليوم لم يعد "الزقوقو" بمتناول الجميع، بل أصبح مكوناً غذائياً باهظ الثمن، كما أصبح خبز الملة اليوم يشكل نوعاً من المشهدية للسياح، ويباع كأكلة فريدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعما إذا كان خبز الملة طعاماً لجميع أهل الصحراء، رأى المتخصص في الأنثروبولوجيا أن هذا الخبز هو طعام الراعي في قلب الصحراء، وهو خصوصية الرعاة والمسافرين دون سواهم، أما العائلات التي تقطن الخيام وتتنقل من منطقة إلى أخرى في الصحراء، فإن طهي الخبز يكون باستخدام "الطاجين" وهو آنية من الطين دائرية الشكل توضع فوق النار ويطهى فيها الخبز، و"استعاض الرعاة عن الطاجين بالرمل الساخن"، مشيراً إلى أن "الرمل الذي يطبخ فيه الخبز هو رمل نقي بلوري ولا يعلق في العجين".
حياة الصحراء
العيش في الصحراء، يقول عنه الهادي عبدالكبير، وهو من سكان مدينة بن قردان، وهي مدينة تقع في أقصى الجنوب الشرقي لتونس، هو "حالة انفلات تام من عقال المجتمع، وهو لحظة صفاء وتجل كاملة تجعلك تتخلص من تضاريس الجغرافيا وصدمات التاريخ"، هكذا يصف عبدالكبير العيش في الصحراء، وهو رجل مثقف يحب الصحراء ويلجأ إليها كلما ضاق ذرعاً بهموم الحياة اليومية، ويصف الصحراء بأنها "لوحة زيتية متناهية، تكتنز كل تفاصيلي، أبوح إليها بكل ما يختلج في داخلي، وهي رفيقتي حين ينشغل الرفقاء عن بعضهم بعضاً، وهي الأم والحبيبة فيها وُلدت ونشأت وإليها أعود"، ويأخذ عبدالكبير عائلته من حين إلى آخر في رحلة إلى الصحراء، حيث يحضر خبز الملة، ويختم "خبز الملة وتفاصيل أخرى هي بهجة الحياة الصحراوية، وحليب النوق الساخن النقي يذهب العطش والجوع في آن، تلك هي الصحراء".