ملخص
تفيض الملفات بقصص الجاسوسية، وربما ما لم يكشف عنه أضعاف مضاعفة لما تم الكشف عنه في تلك الحرب
تمر هذه الأيام خمسة عقود على نشوب حرب أكتوبر بين القوات المسلحة المصرية والسورية من جهة والقوات الإسرائيلية من جهة ثانية.
لم تكن حرب "يوم كيبور" (كما يسميها الإسرائيليون) حدثاً عادياً في تاريخ المنطقة، بل نتاجاً لما سبقها من حروب بدءاً من حرب فلسطين عام 1948 وحرب السويس عام 1956 ثم حرب الستة أيام عام 1967، وصولاً إلى حرب الاستنزاف التي استمرت حتى عام 1970.
يعرف دارسو الاستراتيجيات العسكرية عدد وأنواع الأفرع التي تتكون منها الجيوش، وفي مقدمها القوات البرية والبحرية والجوية، بكامل أفرعها وتقسيماتها. غير أن هناك في واقع الحال فرعاً رابعاً لا يتم الحديث كثيراً في شأنه ضمن فروع أي قوات مسلحة حول العالم، في حين أنه ربما يكون هو الأكثر نجاعة وفاعلية، ومن دونه لا يمكن وضع الرؤى وبلورة الخطوط العسكرية الاستراتيجية، ألا وهو سلاح الاستخبارات، والتاريخ مليء بالقصص المثيرة في هذا الشأن. وكان هذا السلاح أحد أدوات المواجهة العربية - الإسرائيلية منذ عقود طوال، وغالب الظن أنه سيظل كذلك إلى وقت بعيد.
في هذه السطور نحاول الاقتراب قدر ما هو متاح ومعروف من دوائر الاستخبارات العربية والإسرائيلية خلال "حرب أكتوبر"، لا سيما في هذه الذكرى التاريخية، حين تقوم غالبية دول المنطقة بإتاحة مزيد من الوثائق الخاصة بها للعوام، في محاولة لإماطة اللثام عما جرى خلال المعارك، وكل يقدم الحدث بحسب روايته.
دور الاستخبارات في حرب كيبور
لا يزال التساؤل المطروح في دوائر البحث العسكرية عن خطة الخداع الاستراتيجي المصرية، والتنسيق مع الجانب السوري، وكيف نجحت مصر في خداع إسرائيل، مما أتاح عبور المانع المائي الكبير المعروف بـ"خط بارليف" على امتداد قناة السويس.
تتفق القصص الاستخباراتية أو تختلف، هذا أمر وارد في علوم الجاسوسية، غير أن الحقيقة المؤكدة هي أن عملاً عسكرياً إعجازياً يدرس حتى الساعة عن هدم "خط بارليف"، وعبور جحافل القوات المصرية إلى الجانب الآخر من القناة.
غير أن هذا العبور لم يكن عشوائياً، وإنما زخمته ودعمته عيون الجواسيس المصريين الذين استطاعوا اختراق إسرائيل من الداخل على رغم ما كان لديها من جواسيس بالمثل في الداخل المصري، سواء بين المدنيين أو العسكريين، وتساقطهم واحداً تلو الآخر في قبضة الاستخبارات المصرية.
كان الانتصار الإسرائيلي الساحق الماحق في حرب الستة أيام بدءاً من 5 يونيو (حزيران) 1967، مولداً لإحساسين متناقضين:
الأول جرت به المقادير على الجانب الإسرائيلي، ومفاده الثقة الزائدة التي تولدت لدى الإسرائيليين عموماً، لا سيما بعدما بنوا خط بارليف، واعتباره أنه يحتاج إلى قوة نووية لهدمه، كما قال خبراء عسكريون حول العالم، عطفاً على الاعتقاد الجازم بأن القوات الجوية قادرة على حسم أي معركة مع العرب، وربما نتج من الأمر برمته نوع من أنواع الغرور قاد لاحقاً إلى فتح ثغرات في عالم الاستخبارات للمصريين بنوع خاص.
أما الإحساس الثاني على الجانب المصري فكان أنه بدا واضحاً أن المصريين تعلموا الدرس، وأعدوا خطتهم العسكرية بإحكام، وفي القلب منها لعبت الخديعة الاستخباراتية دوراً متقدماً، واستطاع المصريون بلورة رؤية واضحة للمواجهة العسكرية، بناءً على ما توافر لديهم مع معلومات وخرائط عن القوات الإسرائيلية في سيناء، والتي كانت في ذلك الوقت ملعباً للجواسيس لا سيما الإسرائيليين.
والثابت أنه ما بين اعتبار الجانب العربي "حرب أكتوبر" نصراً مؤزراً من ناحية، ورؤية إسرائيل أنه انتصار منقوص من ناحية أخرى، لا سيما بعد ما جرى في موقعة الدفرسوار، حين استطاعت القوات الإسرائيلية فصل الجيشين المصري الثاني والثالث أحدهما عن الآخر، تبقى هناك في الأفق البعيد قصص مثيرة على الجانبين أبطالها من الجواسيس والبصاصين والعسس، كما كان يصف المؤرخ العربي الكبير الجبرتي، مهنة هؤلاء قبل نحو قرنين من الزمن.
من أين يمكن للمرء أن يبدأ؟
ربما من عند أحدث الوثائق التي تم الإفراج عنها أخيراً في الداخل الإسرائيلي في شأن تلك الحرب، ومجريات الأحداث فيها، ومقاربة تلك الوثائق مع ما تقوله الروايات المصرية المدعمة بوقائع تاريخية في تلك الحرب.
إسرائيل وسوء التقدير الاستخباراتي
مع حلول أوائل شهر سبتمبر (أيلول) الماضي كان الأرشيف السري الإسرائيلي يبوح بمزيد من الأسرار وثيقة ولصيقة الصلة بعالم حرب أكتوبر، وصراع الجواسيس الذي جرى في ذلك الوقت.
في تقرير لصحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية نجد أن نسبة عالية من تلك الوثائق تؤشر إلى أن هناك سوء تقدير حدث من جانب وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، ورئيس أركان الجيش للوضع، بعدما استبعدا إمكانية الحرب مع مصر وسوريا.
هل كان هذا الإخفاق نتيجة قصور معلومات الجواسيس الإسرائيليين على الجانب المصري، أم لقدرة الجواسيس المصريين على خداع قادة إسرائيل ودفعهم إلى الاعتقاد بأن فكرة الحرب مستبعدة من جانب القيادة المصرية وعلى رأسها الرئيس الراحل أنور السادات؟
تفتح الوثائق الإسرائيلية المفرج عنها حديثاً الباب لتصديق روايات عديد من الشهود الإسرائيليين الذين ليس لهم مصلحة في اتهام قياداتهم الاستخبارية والعسكرية بالقصور وعدم الانتباه واليقظة.
ونشرت مجلة "همذراخ هتيخون" الإسرائيلية قبل فترة تقريراً مطولاً عن ضابط احتياط بالجيش الإسرائيلي يُدعى شيمون مندس، يقول فيه إن "المصريين ملوك الخداع، وقد أسقطوا إسرائيل في حرب يوم العبور، بعدما قُدر لهم خداع الجانب الإسرائيلي من خلال دس جواسيسهم، وفي مقدمهم العميل بابل أو الصهر". ويضيف مندس "يمكننا القول إن الغش والاحتيال المصري كان كاملاً ومكتملاً ورمى أساساته في رأس كل النخبة الإسرائيلية"، معتبراً أن "الخداع المصري لا شبيه له في عالم الاستخبارات كله".
هل نقل أحد جواسيس المصريين معلومات إلى إسرائيل عبر سنوات طوال امتدت حتى أوان حرب يوم الغفران بالتوقيت اليهودي؟ غالب الظن بحسب مندس أن هناك من نقل معلومات من عند المصريين إلى تل أبيب، استطاع من خلالها أن يخدر الصفوة السياسية والعسكرية معاً، وقد طال الأمر رئيسة الوزراء في ذلك الوقت غولدا مائير والآخرين الذين كانوا يعتبرون صاحب هذه المعلومات صديقاً مقرباً لإسرائيل.
تظهر الوثائق الاستخباراتية الإسرائيلية المفرج عنها حديثاً كيف أن إسرائيل قللت كثيراً من شأن الرئيس أنور السادات، بعد وصوله إلى الحكم خلفاً للرئيس الراحل جمال عبدالناصر. غير أن الحقيقة التي تكشفت للجانب الإسرائيلي في نهاية نهار السادس من أكتوبر (تشرين الأول)، وبعد أن بات هناك نحو 100 ألف جندي مصري في الجانب الآخر من سيناء، أن السادات كان يتمتع بوعي سياسي وعسكري واستخباراتي عالٍ جداً، وتكونت لديه حصيلة حياتية في هذا الإطار، منذ مقاومته الإنجليز في شبابه، عطفاً على اتصالاته بالاستخبارات الألمانية والخبرات المتراكمة لديه في هذا المجال.
والشاهد أن الحديث عن السادات يقودنا إلى واحدة من أهم وأخطر حلقات العمل الاستخباراتي المتنازع عليه بين الجانبين الإسرائيلي والمصري حتى الساعة، تلك الحلقة الخاصة بالعميل "الصهر"، المقرب جداً من السادات، ومبعوثه الشخصي للمهمات الحيوية في الفترة التي كان يجري فيها الإعداد لحرب أكتوبر... من هو وما قصته؟
أشرف مروان العميل المختلف عليه
هل كان أشرف مروان، زوج ابنة الرئيس عبدالناصر وذراع الرئيس السادات اليمنى جاسوساً مصرياً على إسرائيل استطاع خداعها إلى أبعد حد، أم أنه كان جاسوساً إسرائيلياً على المصريين، وبينهما يبقى الاحتمال الثالث أنه كان عميلاً مزدوجاً؟
هذا هو التساؤل المحير الذي ربما يكون أحد مفاتيح لغز وفاته الغامضة، وسقوطه من شرفة شقته الكائنة بإحدى عمارات شارع سان جيمس بارك، أحد أغنى أحياء العاصمة البريطانية لندن في عام 2007.
بدأت الأزمة عندما نشر المؤرخ اليهودي المقيم في لندن الدكتور أهارون بيرغمان كتاباً بعنوان "تاريخ إسرائيل" أشار فيه إلى وجود جاسوس لإسرائيل داخل مصر في السنوات الممتدة من أواخر الستينيات ومنتصف السبعينيات، وأن اسمه الحركي "الصهر" أو "العريس" أو "رسول بابل" أو "هاموتين" والتي تعني باللغة العبرية زوج الابنة. ومع أن الكتاب لم يشر إلى أشرف مروان بالاسم، إلا أن كل الصفات والوقائع الواردة به كانت تشير إليه.
ويؤكد الكاتب أن أشرف مروان هو الذي ذهب بنفسه إلى السفارة الإسرائيلية في لندن عام 1968 عارضاً خدماته على الموساد ليكون رجلهم في رئاسة الجمهورية المصرية، وهو ما أصاب الإسرائيليين بصدمة بعدما عرفوا حقيقته، لكنهم لم يتركوا ذلك الصيد الثمين يفلت من أيديهم، وقد قيل كلام كثير عن أنه طلب مليون دولار بداية، و100 ألف جنيه استرليني في كل لقاء، وأن تقاريره لم يكن يقرأها أحد في إسرائيل سوى كبار الشخصيات الحاكمة مثل رئيس الحكومة ووزير الدفاع ومديري الاستخبارات. غير أن هذه الاتهامات وجدت رداً قوياً عليها من داخل إسرائيل نفسها، فبعد أن كثر اللغط حوله قررت الأجهزة المعنية إشراك القراء الإسرائيليين في حل اللغز المتمثل في دور أشرف مروان وهل كان يعمل على خديعة الإسرائيليين أم يعمل لحسابهم؟
ففي 5 مايو (أيار) 2005 نشرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" في موقعها باللغتين العبرية والعربية تقريراً يفيد بأن الاستخبارات الإسرائيلية حسمت القضية وقررت الاعتراف بالخديعة الكبرى التي تعرضت لها، وأن الدكتور أشرف مروان، نسيب عبدالناصر، كان ركناً أساسياً من خطة التمويه والخداع التي سبقت حرب أكتوبر، وأن الإسرائيليين حصلوا على الإجابة عن السؤال الذي حيرهم بشكل غير مباشر من القاهرة على طريقة "نشكركم على حسن تعاونكم معنا".
وكشفت "يديعوت أحرونوت" القصة الكاملة للتقصير الذي وقعت فيه أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية في عملية أشرف مروان التي عُرفت تشفيراً (Code name) باسم "عملية بابل" فماذا عن ذلك؟
الجنرال زعيرا ورؤية صادمة
حين اشتعلت حرب أكتوبر كان الجنرال إيلي زعيرا يشغل منصب رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، وقد تعرض الرجل لمهانة كبرى من "لجنة أجرانات" التي حققت في أسباب هزيمة إسرائيل.
وزعيرا في واقع الأمر هو أول من أشار إلى أن مروان ضلل القيادة الإسرائيلية وكان أداة مصرية محترفة ساعدت في عبور "خط بارليف" وإخفاء موعد الحرب الحقيقي عن إسرائيل. وجاء ذلك في كتابه الذي صدر عام 2004 "الأسطورة مقابل الحقيقة... حرب يوم كيبور الإخفاقات والدروس".
وتأكدت تصريحات زعيرا للإسرائيليين بعد ظهر يوم السادس من أكتوبر من عام 2004، أما كيف تم ذلك فللأمر قصة لا تقل إثارة عن فصول حياة أشرف مروان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في ذلك النهار نظر أحد رجال الاستخبارات الإسرائيلية الذي أُرغم على البقاء في قاعدته يوم عيد الفصح إلى شاشة العرض التلفزيوني، وبعد ثانية عاد إلى الوراء في حركة عصبية مندهشاً، كان على الحائط أمامه عشرات الشاشات التي انطلقت منها أصوات وصور من العالم العربي، لكن بثاً واحداً من التلفزيون المصري خطف نظره وشل تفكيره: "هل هذا هو؟" سأل نفسه بصوت عالٍ، واقترب من الشاشة وقال "ولكن كيف يمكن ذلك؟"، ومن ثم نسخ الشريط وأدخله إلى جهاز الكمبيوتر واستخدم برمجية الغرافيك كما فحص صوراً أخرى من الأرشيف للشخصية التي رآها وقارنها صورة تلو الأخرى ولم يراوده أدنى شك أنه "هو" بالفعل.
تصف "يديعوت أحرونوت" الأمر بالصدمة التي قطعت كل احتمال لخيانة مروان لبلده، بعدما اكتشفت الاستخبارات الإسرائيلية بمحض الصدفة في تلك الوردية وعبر شبكة التلفزيون المصرية، ما يمكن أن يحل اللغز الذي ظل يحيرها منذ حرب أكتوبر.
في الفيلم التلفزيوني القصير يظهر الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك وهو يسلم ويحتضن أشرف مروان، قبل أن ينطلقا معاً لوضع باقة من الزهور على قبر الرئيس الراحل عبدالناصر.
هذا المشهد دعا إيلي زعيرا إلى القول إنه "لم يبق الآن أي شك، فالرئيس المصري لا يمكن أن يتعامل على هذا النحو مع أكبر خائن عرفته مصر على حد الدعاوى الإسرائيلية المزيفة، وصورة واحدة على هذا النحو، تساوي ألف سجال أكاديمي، مما يعني أن المصافحة الحميمة بين الرئيس مبارك وأشرف مروان تؤكد أن الرجلين جمعهما هدف وطني واحد تلتقي الأفئدة والعيون من حوله وتتذكره العقول كلما التقيا، وهو النصر الذي شارك مروان عبر خداع الإسرائيليين في تحقيقه، وحققه الرئيس الراحل مبارك من خلال ضربة الطيران التي أفقدت إسرائيل اتزانها في الساعات الأولى للمعركة، إذ كان اللواء طيار حسني مبارك حينها هو قائد القوات الجوية المصرية".
والمقطوع به أن هذه الرواية تفتح الباب واسعاً لتساؤل خطير للغاية، هل تخلصت الاستخبارات الإسرائيلية من أشرف مروان جزاءً له على خديعته حتى بعد مرور أكثر من ربع قرن على ذلك؟ ربما يحتاج الجواب إلى قراءة أخرى في مناسبة مغايرة. غير أنه على الجانب الإسرائيلي تبقى هناك رواية أخرى عن عميل غامض هو من استطاع قلب موازين حرب أكتوبر خلال الأسبوع الأول لاندلاع المعارك، عميل آخر غير أشرف مروان، وهي قصة حديثة لم يتكلم عنها المصريون بأي حال من الأحوال.
إسرائيل وسبعة جواسيس أبلغوها سلفاً
هل كان لإسرائيل جواسيسها في الداخل المصري في زمن حرب أكتوبر والمؤكد كذلك من قبله؟
غالب الظن أن الأمر بالفعل على هذا النحو وهو ما صرح به المؤرخ العسكري والضابط السابق بالجيش الإسرائيلي أوري مليشتن، الذي أكد قبل بضعة أعوام أن الجيش الإسرائيلي توافرت له كل المعلومات التي تؤكد نية الجيش المصري التحرك عسكرياً ضد قواته في سيناء، واندلاع حرب 1973.
وزعم مليشتن في حوار مع القناة السابعة الإسرائيلية أن سبعة جواسيس أبلغوا إسرائيل بموعد اندلاع الحرب في حين لم تتخذ تل أبيب أي إجراءات تجاه هذه المعلومة، مشيراً إلى أنه "كانت لدى إسرائيل اعتقادات قوية بأن سلاحها الجوي يملك قدرات خاصة وذو فاعلية، مما يمنع الجيش المصري من هزيمة الجيش الإسرائيلي في شبه جزيرة سيناء".
واعتبر المؤرخ العسكري الإسرائيلي أن تأخر استدعاء قوات الاحتياط عقب اندلاع الحرب تسبب في هزيمة الجيش الإسرائيلي.
هل هذه رواية متماسكة؟
الشاهد أنه يمكن التشكيك فيها، ذلك أنه ما كان للقيادة الإسرائيلية أن تتجاهل سبعة جواسيس دفعة واحدة، لا سيما إذا أجمعوا على رواية واحدة مؤكدة، ومن هنا تبدو القصة ضعيفة. لكن قصة أخرى تحدثت عنها الصحافة الإسرائيلية في مثل هذه الأوقات منذ ثلاثة أعوام، وتحديداً في سبتمبر (أيلول) 2020 تبدو متماسكة أكثر وإن لم تجد حظوظها من الانتشار مثل بقية قصص الجواسيس المصريين والإسرائيليين المتبادلتين على الجبهتين، فماذا عنها؟
مفاد الأمر كما تقول الرواية الإسرائيلية هو تجنيد الجيش الإسرائيلي ضابطاً مصرياً قدم في اليوم السابع لحرب أكتوبر "معلومات ذهبية" أسهمت في تغيير مجرى الحرب، لا بل تاريخ إسرائيل كله، و"أنقذ دولة إسرائيل من الهزيمة". وجاءت المعلومات استناداً إلى معلومات مفرج عنها من الأرشيف العسكري الإسرائيلي في وزارة الأمن.
الرواية التي نشرتها "يديعوت أحرونوت" تقول إن هذا الجاسوس الغامض حذر أيضاً إسرائيل قبل خمسة أيام من اندلاع الحرب، لكن أحداً في الداخل الإسرائيلي لم يصدقه. وتقول الرواية إن هذا الجاسوس لم يكن يعلم بأمره سوى عدد قليل في قمة نظام الدفاع والدولة الإسرائيلية فقط.
أما صحيفة "إسرائيل هيوم" المقربة من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو فكتبت تحت عنوان "الجاسوس الضابط المصري الذي أنقذ إسرائيل من الهزيمة عام 73"، أن "الجيش الإسرائيلي هو الذي جند هذا الضابط وليس أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، غير أنه تم تسليمه لاحقاً إلى عهدة الموساد وزود العاملين بمعلومات ذات قيمة". وضمن أبعاد القصة أن هذا الضابط هو الذي سرب للإسرائيليين معلومات تفيد بأن الجيش المصري يعتزم إنزال مظليين على خط العبور، وكان منطقياً أن الفرق المدرعة ستتبع خطى المظلات".
هل هذا الضابط الجاسوس إذا صحت الرواية الإسرائيلية كان السبب وراء تأخر تقدم القوات المصرية منذ يوم 14 أكتوبر وسط سيناء؟
تبدو القصة غامضة بقدر الغموض الذي يحيط بقصة استخبارية مصرية أخرى، تعكس حالة حرب الجواسيس التي جرت في تلك الحرب.
سقوط جندي مصري في تحصينات بارليف
ضمن المرويات المصرية الموازية للقصة الإسرائيلية عن الضابط الجاسوس، نجد حديثاً عما جرى في اليوم الثالث من عبور المصريين لقناة السويس، وبعد الاستيلاء بالكامل على كل النقاط الحصينة في خط بارليف، والتي كانت تهدد عملية عبور الجيش المصري. وتقول القصة إن ضباطاً مصريين كانوا يبحثون باهتمام كبير بين جثث الإسرائيليين وبعناية تامة عن جثة لشخص معين، الأمر الذي طرح علامات استفهام عما يحدث وما الذي يتطلع إليه الضباط المصريون.
وبالفعل عثر على الهدف المنشود، ولُفَّ بالعلم المصري، ونُقل على الفور للجانب الآخر من القناة، لتقام عليه "صلاة الشهيد"، ويتم ترحيله إلى أهله ولكن في سرية تامة.
لم يكن معقولاً أو مقبولاً أن تكون الجثة لمجند أو ضابط إسرائيلي، حتى ولو كان جاسوساً للمصريين وسط تحصينات خط بارليف.
تبدو القصة مثيرة جداً، فحسب الرواية المصرية، كانت الجثة لشهيد مصري استطاع اختراق صفوف الجيش الإسرائيلي طوال سنوات خلت، وبلغت به المكانة حداً أنه بلغ موضعاً داخل حصون خط بارليف، ومنها أرسل للاستخبارات المصرية كل الخرائط الجغرافية ومعلومات التسليح ومسارات أنابيب النابالم التي كانت إسرائيل تهدد من خلالها أنها ستحرق كل من يقترب من القناة.
قبل الحرب بساعات وصلت للضابط المصري رسالة بالانسحاب، لكنه فضل أن يموت "شهيداً" داخل خط بارليف، وأن يظل قادراً على متابعة الطيران المصري وتوجيهه لأهدافه خلال الساعات الأولى من القتال، وهو ما كان.
هل من خلاصة؟
ما تقدم عن حروب الجواسيس لم يتوقف عند ملفات مثيرة، من عينة ملف رأفت الهجان، الجاسوس المصري الأشهر، الذي تم تقديمه في حلقات تلفزيونية في أواخر ثمانينيات القرن المنصرم ولاقى استحساناً مصرياً وعربياً كبيراً لبطولاته في التجسس على إسرائيل من الداخل. وهناك أيضاً قصص لنجاحات الاستخبارات الإسرائيلية في تجنيد هبة سليم التي جندت بدورها المقدم فاروق الفقي الضابط بالجيش المصري الذي تسبب في قصف إسرائيل مواقع حائط الصواريخ المصري، قبل أن يتم القبض عليهما وإعدامهما.
تفيض الملفات بالقصص، وربما ما لم يكشف عنه أضعاف مضاعفة لما تم الكشف عنه في تلك الحرب، غير أن المؤكد أنها كانت حرباً بين عقول وأجهزة سرية قبل أن تكون صراعاً فوق رمال سيناء بالمدرعات، أو في سمائها بالقوات الجوية والصاروخية.
إنها الحرب كما في تاريخ البشرية، كانت وستظل نوعاً من أنواع الخداع، وتصدق فيها قراءات صن تزو في كتابه الأهم "فن الحرب"، إذ يوصي بمعرفة العدو بأكثر أحياناً من معرفة الذات، وإن فضل دوماً الأمرين معا من أجل إدراك النصر المؤزر في كل الأحوال.