ملخص
تفقد الساحة الثقافية العربية والخليجية برحيل الكاتب البحريني إبراهيم غلوم (71 عاماً) شخصية مستنيرة وناقداً طلائعياً حصيفاً ومبدعاً كبيراً أغنى المكتبة العربية بعدد من الأعمال الأدبية والمسرحية خصوصاً
تفقد الساحة الثقافية العربية والخليجية برحيل الكاتب البحريني إبراهيم غلوم (71 عاماً) شخصية مستنيرة وناقداً طلائعياً حصيفاً ومبدعاً كبيراً أغنى المكتبة العربية بعدد من الأعمال الأدبية والمسرحية خصوصاً، والتي تعد من أهم الأعمال التي فتحت المسرح الخليجي على إمكانات فنية جديدة.
هذا الكاتب المؤسس، مع كل ما تنطوي عليه عبارة التأسيس من معاني الابتداء والمغامرة، كان من النقاد الأوائل الذين انشغلوا منذ السبعينيات بتأصيل البدايات الإبداعية الخليجية وتوثيقها، على حد تعبير الكاتبة ضياء الكعبي، مستأنساً بالنظريات النقدية الحديثة، ومسترفداً على وجه الخصوص، المناهج الاجتماعية، التي أتاحت له قراءة المنجز الإبداعي الخليجي قراءة نبيهة ومتبصرة. لقد كان طموحه توثيق الثقافة الخليجية، ورصد بداياتها، وتسليط الضوء على أهم إنجازاتها، وإبراز خصائصها الاجتماعية والإبداعية، أي إن المهمة التي نذر نفسه لتحقيقها أكبر وأثقل من أن ينجزها فرد واحد، إنها مهمة جيل كامل من الباحثين والدارسين الأكاديميين، لكن إبراهيم غلوم أقدم على إنجازها بمفرده مستأنساً بمنهج نقدي حديث استعاره من دروس الدكتوراه التي تلقاها في الجامعة التونسية في أوج ازدهارها، معولاً في الوقت ذاته على ذائقة متطورة وحس فني مرهف وثقافة عميقة وحديثة.
قضى غلوم أربعة عقود من حياته وهو ينعطف على الثقافة الخليجية بالنظر والـتأمل والاستقراء، يدعو إلى إيلائها العناية التي تستحق، فاتحاً لها أبواب جامعة البحرين التي كانت تتردد، قبله، في الاعتراف بها، والاحتفاء بنماذجها الإبداعية الكبرى.
إبراهيم غلوم كان من الأكاديميين الأوائل الذين فتحوا قلاع الجامعة البحرينية على الإبداع الخليجي، تدرسه وتتخذه مادة لشهادات الماجستير والدكتوراه، بل كان من الأوائل الذين أدرجوا الأدب البحريني ضمن مقرراتها، في وقت كانت هذه المقررات لا تحتوي إلا على الأدب القديم، أو على أدب البلدان العربية. بعبارة أخرى يمكن القول إن إبراهيم غلوم تمكن من القضاء على أسطورة المركز والهامش في الثقافة العربية، وجعل الأدب الخليجي محور عديد من الدراسات والبحوث، بل قد لا نغالي إذا قلنا إن الرجل أسس لمكتبة خليجية تضم عشرات الدراسات في مختلف المجالات والميادين.
والواقع أن اهتمامات غلوم الناقد شملت تقريباً كل فنون الأدب في البحرين ومنطقة الخليج، مثل القصة والرواية والمسرح والثقافة الشعبية والفولكلور، بل كانت له الجرأة على جعل هذه الفنون من مقررات الجامعة البحرينية، بما في ذلك الثقافة الشعبية. وينبغي الاعتراف بأن الجامعة البحرينية كانت من أولى الجامعات العربية التي احتفت بالأدب الشعبي، إذ جعلته بمبادرة من الكاتب، مقرراً في برنامج البكالوريوس، وبذلك تمكن إبراهيم غلوم من تكوين جيل أكاديمي جديد يتخصص في الثقافة الخليجية دراسة وتدريساً.
ولكن ما نريد أن نلفت الانتباه إليه أن الكاتب لم يفتح أفقاً جديداً في مضامين النقد الخليجي فحسب، بل فتح أفقاً جديداً في طريقة التناول والكتابة. فكان من الأوائل الذين دعوا إلى تطبيق المناهج الحديثة والخروج على أساليب الكتابة الانطباعية والصحافية التي كانت سائدة في سبعينيات القرن الماضي. الكاتب دعا، بعبارة أخرى، إلى أساليب جديدة مبتكرة في التعامل مع النصوص الأدبية، مختلفة اختلافا كبيراً عن الأساليب القديمة المتوارثة، والتي ظلت منتشرة في الجامعة وخارجها.
أعمال نقدية
كانت القصة والمسرح محور أعمال إبراهيم غلوم البحثية الأولى، فقد عمل منذ السبعينيات على تأمل هذين الفنين في منطقة الخليج العربي، مستبعداً، في هذه المرحلة من مساره النقدي والأكاديمي، فن القول الأول في الثقافة العربية، ونعني بذلك الشعر. ولا شك في أن هذا الفن كان، في تلك المرحلة، فناً تقليدياً لا يثير اهتمام كاتب طلائعي يبحث عن الجديد المختلف في الثقافة الخليجية. من هنا كان اهتمامه بفنين جديدين أخذا يغنمان مساحة جديدة في فضاء هذه الثقافة، وهما القصة والمسرح. فكانت دراساته الأولى حول "القصة القصيرة في الخليج العربي 1980" و"ظواهر التجربة المسرحية في الخليج العربي 1986" و"المسرح والتغير الاجتماعي في سوسيولوجيا التجربة المسرحية في الخليج العربي 1986". وهذه الأعمال ذات طبيعة توثيقية تريد أن تكتب تاريخ الخليج الثقافي والإبداعي، وتبغي في الوقت ذاته أن تكشف عن العلاقة الخفية بين النص، وخارج النص، وهو أمر في غاية الدقة تمكن الكاتب من رصده بنباهة فائقة.
استمرت أعمال غلوم البحثية، فالتفت إلى بدايات النقد الأدبي من ناحية، وإلى نشأة الصحافة من ناحية ثانية، من خلال عمليه الرائدين "عبدالله الزايد وتأسيس الخطاب الأدبي الحديث" و"المرجعية والانزياح"، وهو دراسة لبدايات النقد الأدبي في الخليج العربي.
تنوعت مباحث الكاتب وتنوعت، لكن المسرح بقي يمثل إيقاعاً متواتراً في كل أعماله النقدية، فهو ظل مهتماً بالتجربة الدرامية الخليجية، يواكب، بعناية كبرى، منجزاتها، مستقرئاً خصائصها، ومهتماً بإضافاتها الفنية والتقنية. في هذا السياق يمكن أن نقرأ عمله الرصين "مسرح القضية الأصلية"، وكتابه المهم "تكوين الممثل المسرحي في المجتمعات الخليجية".
إالكاتب المبدع
لم تقتصر أعمال الكاتب على الجوانب البحثية والأكاديمية، بل اهتم أيضاً بالكتابة المسرحية، فأصدر عدداً من المسرحيات نذكر منها: "الانتظار" و"الأضواء" و"انبعاثات" و"الخيول". وقد أقر كثر من المهتمين بالشأن المسرحي بأن هذا الكاتب أسهم إسهاماً فاعلاً في تطوير المسرح الخليجي وفي فتحه على آفاق تعبيرية جديدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد أشار الكاتب من جهته في كثير من الحوارات إلى افتتانه بالفن الرابع، فن الجدل والتوتر والاختلاف، ورأى فيه فناً شعبياً بامتياز، يمكن من خلاله بعث كثير من الرسائل الحضارية والاجتماعية. والواقع أن الكاتب كثيراً ما راوح بين النصوص الإبداعية والنصوص النظرية، وغالباً ما كانت الغاية من النصوص النظرية مد المتلقي بمفاتيح يلج بها النص المسرحي الحديث، ويدرك أبعاده الفنية والاجتماعية. من ذلك إلحاحه على أن المسرح الحديث هو فن الممثل في المقام الأول، أما بقية العناصر فتأتي في المقام الثاني، وتأكيده أن التراث في المسرح ليس أقنعة أو إسقاطاً للماضي على الحاضر، وإنما هو بناء درامي ينعقد من خلاله الحوار بين أزمنة مختلفة ورؤى متباينة.
كان غلوم دائم البحث عن الوسائل التي يمكن أن تجذب المتفرج إلى هذا الفن الوافد وتجعله أكثر إقبالاً عليه. وقد وجد في الثقافة الشعبية والعناصر التراثية التي لها حضور قوي في الذاكرة الجماعية، وسيلة من وسائل هذا التواصل، وجعل المتفرج يندمج عقلياً ووجدانياً مع الحدث المسرحي. وينبغي الإشارة إلى أن السؤالين، الاجتماعي والحضاري، كانا من أكثر الأسئلة استقطاباً لاهتمام الكاتب، فيما غابت الأسئلة النفسية والوجودية غياباً كاملاً.