يكاد يكون خالد خليفة من الأسماء القليلة في عالم كتابة السيناريو الذي انتصر للرواية التلفزيونية، بل وكرسها كاتجاه في أعماله التي كتبها في هذا السياق. فإلى جانب اشتغالاته الأدبية كروائي كما هو معروف، أتى خليفة إلى عالم الصورة التلفزيونية برهانات كبيرة، لعل أبرزها كان إبعاد أنصار الكتابة المعتمدة على التشويق والإثارة المجانية ودراما الفضائح عن هذه المهنة، واعتبار التلفزيون وسيلة حاسمة من وسائل التلاعب بالعقول، وأداة لا يستهان بها في ما يسمى "غسيل الدماغ الجماعي" للمجتمعات. ولا سيما في بلدان العالم الثالث التي تستسيغ قضاء ساعات مديدة في المشاهدة المرئية، على أن تقرأ الروايات والقصص الأدبية.
من هنا بدأ خالد مساره بقوة ككاتب سيناريو، مسدداً رميته الأولى في مسلسل "سيرة آل الجلالي" بشراكة لافتة مع المخرج هيثم حقي، الذي كان يعد في منتصف التسعينيات من أبرز المنظّرين لأدبية الحلقة التلفزيونية، وتشابهها مع الرواية.
رأى خليفة أن الكتابة للتلفزيون ليست مهنة هواة، بل هي مهنة لها ثقلها الفني والفكري، ويمكن عبرها تمرير أفكار لا تصل بسهولة إلى السواد الأعظم من جمهور بدأ ينفض عن مائدة القراءة، مع فورة الفضائيات العربية منتصف تسعينيات القرن الفائت.
أدرك صاحب "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة" هذه المعادلة، وأسهم مع كل من نهاد سيريس وريم حنا وحسن م. يوسف في تحقيق نهضة الدراما التلفزيونية في بلاده. كانت الدراما السورية المتلفزة تشهد انتعاشاً كبيراً مع بداية الألفية الثالثة، وكانت السوق تتطلب قريحة جديدة ومختلفة في تناول المجتمعات الخارجة جزئياً لتوها من حصارين، سياسي واقتصادي، طويلي الأمد، ومن رقابة لا تدخر جهداً في جعل هذا الحصار مطبقاً على كل نواحي الحياة الفنية والثقافية.
نجاح درامي
بعد محاولته الأولى مع "سيرة آل الجلالي" المسلسل الذي لاقى نجاحاً كبيراً ولافتاً بعد عرضه للمرة الأولى عام 1994، تكرر التعاون بين خليفة وهيثم حقي في مسلسل "قوس قزح". وإذا كان خالد قد ناقش في تجربته الأولى واقع العائلة في مدينة حلب، والصراع الدائر بين أنصار الاقتصاد القديم وأنصار السوق الجديدة، فإن خليفة ذهب في العمل الثاني إلى محاولة تقديم صيغ أكثر بساطةً لقصص حب متصلة- منفصلة تدور أحداثها في دمشق، وتطل على هواجس الطبقة الوسطى، وتوقها إلى عيش كريم تسود فيه قيم المساواة والعدالة في ظل تهديدات عديدة تترصد أبناء هذه الطبقة، وتجعلهم يوماً بعد يوم يذعنون لواقع اقتصادي متغير.
بعد هذين العملين زادت شهية السيناريست السوري الراحل على الكتابة للشاشة الصغيرة، وبدأت قريحته تتفتح على أعمال أكثر تنوعاً، سواء عبر القصة، أو حتى على صعيد شراكات جديدة مع مخرجين جدد، لعل على رأسهم كان في تلك الفترة الفنان فهد ميري، الذي حقق له خليفة مسلسل بعنوان "حروف يكتبها المطر". العمل الرومانسي الذي يحكي قصة شاب يرتبط بفتاة لا تنتمي لدينه، وعلى رغم رفض الأب تزويج ابنته من شاب لا ينتمي لهم عقائدياً، إلا أن الشاب ينجح في الاقتران منها في النهاية، ليصاب بعدها العاشق بمرض عضال، فيموت كمداً بعد عزله هو وزوجته، من مجتمع لا يرضى بتغيير نواميسه وأعرافه.
تماماً كما هي الحال في مسلسله "أهل المدينة"، الذي يكشف فيه عبر قصص اجتماعية متشابكة، عن شخصيات أجهز عليها الفساد والتخلف الإداري. ولقد حقق هذا النص الذي كتبه خليفة في ثلاثين حلقة، المخرج بسام سعد، إذ لم يوفق خالد بظروف إنتاجية قادرة على تنفيذ هذا المشروع بالصورة المثلى، تماماً كما حدث مع مسلسل "الوردة الأخيرة" الذي يروي قصة حب تجري أحداثها في أربعينيات القرن الفائت في حلب، بين فتاة سورية وضابط فرنسي يقع في حبها. لكن شقيق الفتاة يقع في الاعتقال بعد مناهضته قوات الاحتلال، فما يكون من الضابط إلا التخلي عن واجبه الوطني، وإنقاذ شقيق محبوبته، ليفتضح أمره بعد ذلك وينفى إلى جزر القمر، جزاء خيانته تعليمات قادته.
بعد روائي
يمكن الملاحظة أن هذه الأعمال التي كتبها صاحب "حارس الخديعة" ذات متن حكائي لافت، لكنه لم يوفق بظرف إنتاجي مناسب. فرؤية بعض المخرجين التي كانت قاصرة بعض الشيء عن فهم النصوص التي كتبها خليفة من دون أن يكرر نفسه. وكان أن حققت له المخرجة إيناس حقي نصاً بعنوان "زمن الخوف" وهو سيناريو مسلسل من ثلاثين حلقة بمثابة تحية للجيل الذي ينتمي إليه خالد خليفة نفسه، جيل شباب الثمانينيات، وما لحق به من هزائم متتابعة، وعدم الاعتراف به كحساسية وافدة إلى الساحة الثقافية والفنية. إضافة إلى ما تخلل ذلك من صراعات دموية مع السلطة في فترة الصدام مع الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين في سورية.
ويمكن ملاحظة تقاطع الموضوعات بين الروايات التي كان يكتبها خالد والنصوص التلفزيونية، التي كانت بمثابة معادل موضوعي للنص الأدبي، ولكن ضمن شروط فنية تتعلق بظروف الصورة التلفزيونية ومتطلباتها. وهذا ما يمكن أن نراه جلياً في سيناريو مسلسل "ظل امرأة" للمخرج نذير عواد، الذي يتتبع فيه الكاتب عالم العميان في أسواق حلب ودمشق وشوارعهما، بعد التمهيد لقصة حب بين شابين في مقتبل العمر، وكيف تنتهي بإصابة الشاعر الشاب بالعمى جراء حادث سير، وترك زوجته له والتخلي عنه. وفي هذا العمل نلاحظ قدرة خالد خليفة على الانتقال إلى مناخات جديدة في الرواية التلفزيونية، والإطلالة على عالم القاع من خلال فئة العميان الظرفاء التي جسدها وقتذاك، كل من خالد تاجا وعبد المنعم عمايري وعاصم حواط.
لم يكن خالد خليفة يشعر بالرضى عن مجمل نصوصه التي حققها للتلفزيون، وهذا ما صرح به غير مرة للإعلام والصحافة، لكنه ظل مصراً على عدم ترك الساحة للدخلاء على كتابة السيناريو. وهذا ما جعله يقدم عام 2009 نصاً مغايراً في مسلسله "هدوء نسبي" مع المخرج الراحل شوقي الماجري، والذي يروي في ثلاثين ساعة تلفزيونية قصة عشرة من الصحافيين يحضرون للتغطية من بلاد مختلفة إلى بغداد قبل أيام من سقوطها على يد الجيش الأميركي عام 2003. وكيف يقوم كل صحافي برواية واستعادة ما حدث معه من أهوال، استطاع خليفة عبرها أن يصور جحيم الحرب الدائرة هناك، إضافةً إلى تشريح البنية الاجتماعية العراقية، وما طرأ عليها من خلخلة جذرية للقيم المدنية بعد أفول نظام صدام حسين.
الحرب السورية
يعود خليفة لاحقاً إلى تشريح بنية الفساد، والإطلالة على الشوارع الخلفية للحرب السورية عبر عملين لافتين، الأول جاء بعنوان "المفتاح" لمخرجه الراحل هشام شربتجي، أما الثاني فجاء بعنوان "العراب- تحت الحزام" مع المخرج الراحل حاتم علي. وفي كلا النصين يتتبع صاحب "مديح الكراهية" قصة صعود طبقة أثرياء الحرب، وملابسات صعود أرباب المال والمافيا، ضمن قالب درامي منضبط في رسم شخصياته وتوجيه مصائرها. ومع أن هذين العملين الأخيرين لم يلقيا النجاح المأمول، إلا أن خليفة ظل مصراً على توجيه رسائله التلفزيونية الموازية لعمله كروائي، وتجاهل الإحباط العام بتصوير أكثر جرأة لعالم المتنفذين الجدد، وسيطرة سلطة العائلات على الاقتصاد الوطني.
في هذه العجالة يجب ألا ننسى أن صاحب "دفاتر القرباط" حقق للسينما أيضاً العديد من الأفلام التي تركت بصمة خاصة في الفيلموغرافيا السورية، لعل أبرزها نص سيناريو فيلمه الروائي الطويل "باب المقام" مع المخرج محمد ملص. وبعيداً من الخلافات التي جرت وقتها بين خليفة وملص حول حقوق ملكية النص، والتغييرات التي أدخلها المخرج على السيناريو، كان "باب المقام" لاذعاً في طريقة نقده واقع المرأة السورية، عبر قصة سيدة حلبية يقتلها عمها لأنها تغني لأم كلثوم، وما يكتنف هذا الفيلم الذي اقتبسه خالد عن قصة واقعية جرت في ريف مدينة دمشق مطلع العشرية الأولى من القرن الحالي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كتب خالد أيضاً الفيلم الروائي القصير والوثائقي على حد السواء، ولا يُنسى سيناريو فيلمه "سهرة مهذبة"، الذي استوحاه من قصة بالعنوان نفسه لبسام كوسا، وحققه كوسا، عن عزلة الإنسان السوري وخوفه المزمن من مصير مجهول يترصده، عبر قصة جسدها الفنان فارس الحلو مع شخصيات وهمية يدير الحوار معها داخل شقته الرطبة المعتمة المضاءة بالشموع، فنكتشف مع آخر كادر من الفيلم أن الشخصية تسهر وحدها، وليس هناك من أحد يقاسمها شرابها وطعامها ووحشتها المزمنة.
تجارب الكتابة للسينما قليلة في أرشيف خالد خليفة، لكنها كانت مفارقة ومميزة، فهناك فيلم "فضاءات رمادية" للمخرج حاتم علي، الذي حققه خليفة عن قصة للكاتب السعودي سليمان الشمري أستاذ كلية الإعلام في جامعة الرياض، والذي يتعرض لتعقيدات بيروقراطية يواجهها الأستاذ الأكاديمي في نشر كتبه ومقالاته عن حرية الصحافة، وما تلعبه الفضائيات التلفزيونية من تشويه للحقائق والصور والتلاعب بها.
أما فيلمه التسجيلي الذي أنتجه وكتبه عن أطفال الشوارع في سورية، وحمل عنوان "حجر أسود" فقد حققه مع المخرج نضال الدبس. وفيه أطلق كل من خليفة والدبس، صرخة سينمائية مبكرة عن جيل من المشردين الصغار في الأحياء العشوائية حول العاصمة السورية.
باختصار يمكن القول إن خالد خليفة أبلى بلاء حسناً في الدراما التلفزيونية والفيلم السينمائي على ندرته، لكن من دون أن يحظى دائماً بالنجاح المتوقع، لكن أعماله ستبقى علامة فارقة في الرواية التلفزيونية السورية، التي انقرضت أو تكاد عن خريطة البث العربي، مع تغييرات جذرية طاولت البنية الاجتماعية السورية، مثلما طاولت مزاج السوق الدرامية الجديدة، وما يفرضه اليوم من معايير تسويقية لا تسمح للكاتب إلا أن يكون أشبه بدونكيشوت يصارع عبثاً طواحين الإنتاج الجديدة.