ملخص
يقول وليم كوانت إن معرفة كسينجر بالأمور التي يريد أن يتجنبها كانت أفضل من معرفته بما يريد أن يحققه من أهداف إيجابية
ربما كانت مناسبة الذكرى الـ50 لحرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973 هي الأجدر بأن يتذكرها الآن هنري كسينجر، وزير الخارجية الأميركي السابق، بمزيد من الاعتداد بالذات، ومزيد من الأسف على حد سواء.
مزيد من الاعتداد بالذات، لأن هذه الحرب هي التي صنعت منه نجماً دبلوماسياً بما لا يقارن على الساحة الدولية، وقد صار في ذلك الحين "معجزة الشرق الأوسط" الذي تمكن من إزاحة الاتحاد السوفياتي من العالم العربي فباتت الولايات المتحدة القوة العالمية المهيمنة في المنطقة إلى أجل غير مسمى، وهو الذي أسقط المحرمات في الصراع العربي- الإسرائيلي وأجلس الطرفين المتعارضين حتى الموت إلى طاولة واحدة في ميادين القتال وفي الفنادق، وهو الذي أنقذ إسرائيل من امتحان الزوال من الوجود في الوقت الذي ضمن التوازن للعرب وحال دون هزيمتهم ليتمكنوا من المضي معه قدماً بثقة الذي يعبر بهم إلى بر الأمان.
ومزيد من الأسف، لأن النظام الذي رسخه كسينجر في الشرق الأوسط لعشرات السنين المقبلة انهار أمام ناظريه وهو لا يزال واقفاً على عتبة السنة الـ100 من حياته. وبينما عقله النشط لا يزال قادراً على تقديم الاستشارات وتحليل المواقف والإدلاء بالنصائح ومراجعتها والتراجع عنها، وبينما يتطلع الآن إلى العالم الذي شارك يوماً في صناعته وقد تحول إلى فوضى شاملة تنذر بالفناء، فإنه بالتأكيد يدرك أن كل ما يحدث في وقتنا هذا على الصعيد الدولي وفي الشرق الأوسط كذلك هو على الضد تماماً من كل ما آمن به وحاول أن يطبقه ونجح في تطبيقه ولو بالرصاص والطائرات والقذائف وكثير من الضحايا.
وجوه هنري
ولم تكن حرب أكتوبر التي أدارها حرفياً لحساب واشنطن من البداية للنهاية بالنسبة إليه، سوى محاولة لوضع أفكار الصبي اليهودي الهارب من النازي، وجندي الاستخبارات الأميركي المشارك في الحرب على النازية، وأستاذ "هارفارد" الشاب المترع بالثقة والذكاء والطموح، والمسؤول الحكومي الرفيع في البيت الأبيض، عن النظام العالمي الذي يتصوره موضع التطبيق.
وبما أنه لم يكن أي من هؤلاء، الذين كانهم هنري، مثالياً في أفكاره عن إمكانية التعايش مع عالم بلا عقل.
فالطفل "هنريش" (وهو اسمه الألماني) يتعرض لشتى أنواع الاضطهاد في بلاده إبان صعود النازي إلى الحكم، ويهاجر مع أسرته إلى أميركا البعيدة حاملاً خوفه معه في الغربة زيادة على الفقر والمجهول.
وجندي الاستخبارات الأميركي يعود إلى وطنه الأول لإرغام ألمانيا النازية على الاستسلام، فيكتشف أنه كان يمكن أن يكون ميتاً مع 13 فرداً من عائلته قتلوا في محرقة الهولوكوست ومعهم معظم رفاق الصبا.
وأستاذ الجامعة الطامح يترك عالم الأفكار الحبيسة بين جدران وقاعات "هارفارد" ويغادر إلى السلطة في واشنطن أملاً في تحويل الأفكار إلى واقع على الأرض، ليجد أن البيت الأبيض أيضاً مكاناً عصياً على اليهود أن يتواجدوا فيه وأن يحدثوا أثراً.
والمسؤول الحكومي الرفيع يتخبط في متاهة لا حدود لها، حرب ساخنة في فيتنام، وأخرى باردة مع الاتحاد السوفياتي، وفضيحة داخلية في "ووترغيت"، وما إن نجح في وضع حد للحرب الساخنة وإن كان نجاح المهزومين، ومنح الحرب الأخرى الباردة مزيداً من الدفء عبر سياسة الوفاق وإن لم يأت الوفاق مع ذلك، حتى تفجر صراع الشرق الأوسط من جديد في السادس من أكتوبر عام 1973.
وبما أن "الفشل أو الخطر المحدق، مثله مثل احتمال التعرض لحبل المشنقة، يؤدي إلى صفاء العقول"، على حد قول وليم كوانت، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر، فإن كسينجر يقرر أن يكون الشرق الأوسط هو مسرح عملياته الحقيقي ليثبت قدرته على صيانة هذا النظام الذي تصوره عقله، والذي يصر على أن يراه واقعاً أمامه، ويصوغ عالماً جديداً سيصير منذ تلك اللحظة "عالم كسينجر".
وهو عالم يشبه إلى حد كبير السير على حافة الخطر، حيث يكون الخوف من أن يفقد أحد الأطراف توازنه فيهوي أو يدفع آخرين إلى الهاوية فينهار العالم بأكمله، لذا تظل الأطراف جميعها حريصة على الأمان مثل حرصها على الحذر في الآن نفسه، وهذا بالضبط هو ما يضمن الاستقرار والتعايش.
لقد كان الخوف والأفكار القلقة والهواجس السوداء تراوده كثيراً في صباه، مهاجراً وعاملاً وجندياً وباحثاً داخل قاعات "هارفارد"، وأمعن من أجلها النظر في التاريخ ليبحث عن الإجابة الدامغة عن أسئلة الفوضى التي تغمر العالم من حوله، وكانت تجربته القاسية في الهرب من المحرقة النازية وراء بحثه الشرس عن الطريقة المثلى لصناعة السلام، وهكذا هداه التأمل إلى محاولة كليمنس فون مترنيش وزير خارجية الإمبراطور النمساوي فرانسيس الأول، وكيسلري وزير خارجية بريطانيا الذي تعاون معه على إقامة "سلام الـ100 عام" في أوروبا بعد الحروب النابليونية، حتى قامت الحرب العالمية الأولى.
وفق السفير الأميركي السابق في تل أبيب مارتن إنديك، المبعوث الخاص للمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، فقد رأى كسينجر أن الحفاظ على المنظومة الدولية يتطلب تأمين توازن ثابت للقوى. وتناول في أطروحته للدكتوراه التي نشرت لاحقاً باسم "عالم مستعاد" عام 1957 كيف تم الحفاظ على النظام الأوروبي بعد الفترة النابليونية في القرن الـ19 خلال تحقيق توازن القوى ببراعة والتلاعب بعداوات القوى المتنافسة لمنع أولئك الذين سعوا إلى إثارتها. نتج من ذلك النظام، الذي أنشأه مؤتمر فيينا عام 1918، 100 عام من الاستقرار النسبي من دون نشوب حرب قارية أو ثورة ناجحة، وهذا ما سعى كسينجر إلى تكراره في الشرق الأوسط عندما أتيحت له الفرصة.
وعندما أتيحت الفرصة، يضيف إنديك (سيد اللعبة… كسينجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط) "تمكن كسينجر من المراوغة بمهارة فائقة لتحقيق أربعة أهداف طموحة ومتناقضة إلى حد ما وفي آن واحد: ضمان انتصار إسرائيل كحليف لأميركا على القوات المصرية والسورية المدعومة من الاتحاد السوفياتي، ومنع وقوع هزيمة فادحة للجيش المصري حتى يتمكن زعيمه أنور السادات من الدخول في مفاوضات سلام مع إسرائيل تعيد له جزءاً من الأرض، وإثبات أن الولايات المتحدة هي وحدها القادرة على تحقيق نتائج للعرب على طاولة المفاوضات، وأخيراً الحفاظ على الانفراجة في العلاقات مع موسكو على رغم أنه كان يعمل على تقويض النفوذ السوفياتي في منطقة الشرق الأوسط".
لكن كسينجر لم يكن بالرجل الذي يضيع الوقت في انتظار الفرص، فقد بدأ قبل ذلك بعامين، بفتح قناة سرية مع مصر عبر مستشار الرئيس أنور السادات للأمن القومي، حافظ إسماعيل، فيما كان يتجادل مع السوفيات حول ورقة عمل مشتركة يمكنها أن تكون أساساً لاتفاقيات مقبلة بين العرب وإسرائيل.
ولما كان كسينجر واثقاً من أن إسرائيل لا يمكن هزيمتها من العرب، بالتالي فلن يستطيعوا الإقدام على مهاجمتها، فإنه كان يفكر بإخلاص في منحهم شيئاً ما، لا من أجلهم ولكن تطبيقاً للمبدأ الثاني في نظريته القديمة عن "صناعة السلام"، وهو ما يمكن أن نسميه بـ"العدالة الشكلية" أو بـ"صورة العدالة"، بينما يسميه هو "الشرعية"، فـ"الاستقرار الذي يصنع السلام لا يجيء إلا نتيجة الرضا بشرعية دولية مقبولة تصونها ترتيبات عملية واتفاق على الوسائل والأهداف المسموح بها في السياسية الدولية، وهذه هي مهمة الدبلوماسية".
القوة والدبلوماسية
وبما أن كسينجر كان قد توصل في رسالته "عالم مستعاد" إلى أن "تحقيق السلام ليس سهلاً مثل الرغبة فيه". كما أوضح أن "أكثر العصور بحثاً عن السلام هي أكثرها تعرضاً للقلق"، وأن "عملية السلام كانت دائماً مفهوماً مجرداً وقابلاً للانتكاس، وأن أهم ما يجب تحقيقه هو منع الحرب بمزيد من الشرعية والتوازن، ففي الوقت الذي اعتقد مترنيش أن السلام الدائم هو الهدف الأكثر رغبة لأي رجل محترم، فإن ما سعى إليه هو الاستقرار وليس تحقيق المثل النظرية".
وبما أن كسينجر لم يكن بطبيعة الحال رجلاً منوطاً بالمهمات المقدسة وصناعة الـ"يوتوبيات" التي لا يمكن تحقيقها على الأرض، فقد كان مفهومه للدبلوماسية مرهوناً بالقوة المسلحة، "لأن الدبلوماسية ليست مباراة على مائدة المفاوضات بين رجال مهذبين، وإنما هي حوار بين مصالح متعارضة يستند كل منها إلى رادع حقيقي يحميها ويفتح طريقها".
وبما أن كسينجر لا يهوى الاقتراب من الأزمات الباردة بل هو شغوف بالتعامل مع الأوضاع الملتهبة التي بإمكانه فيها أن يصنع حلاً ملهماً، فقد كان عليه أن يدفع الأمور إلى حافة الحرب التي عمل في البداية من أجل تفاديها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قال لحافظ إسماعيل، مستشار السادات، الذي كان يلح كثيراً في طلب التسوية، "إذا كنت تريد منا التدخل لدى إسرائيل فسيتعين عليك خلق أزمة، فنحن لا نتعامل إلا في إدارة الأزمات"، وهو ما فهمه الرجل على النحو الصحيح باعتباره ضوءاً أخضر لإشعال الساحة.
على رغم ذلك لم يكن كسينجر يتوقع أن يبدأ السادات بالمجازفة، لقد كانت الحرب مفاجأة لم يعمل حسابها جيداً بعد أن أظهر الرئيس المصري براعته في خداع الجميع بشأن الهجوم المصري - السوري، لكن كسينجر كان قادراً على الحساب الدقيق للمواقف في هذه اللحظات الحاسمة، فعندما لاحت نذر الحرب اتصل بالجانب الإسرائيلي لتحذيره من القيام بضربة استباقية، لأنها في نظره عمل لن يكون شرعياً بكل تأكيد وهو الأمر الذي سيخل بالتوازن المقدس لديه، لأن القوة وحدها لا تصنع استقراراً.
وما كان يريده كسينجر حقيقة في هذه اللحظة هو تأديب إسرائيل على رعونتها كي تندرج في مشروعه، بعد أن تمادت في غطرستها وأصرت على مكاسبها في يونيو (حزيران) 1967، ولم تسمح له باللعب مع العرب سوى في مساحة ضيقة للغاية دفعت في النهاية إلى تفجير الموقف.
ولم يكن كسينجر، كما يشير إنديك، غافلاً عن تحذيرات الحرب لأنه كان على استعداد للمخاطرة بهذه النتيجة وبذل كل ما في وسعه للحفاظ على التوازن لدرجة أنه أصبح متشبثاً به، إذ اعتمدت دبلوماسيته على تجنب الحرب، ولكن إذا وقعت على أي حال فإنه كان يرى أن الحرب ستفيد دبلوماسيته وسيفوز في كلا الحالين، وقال كسينجر بعد ذلك للرئيس جيرالد فورد عندما قدم إليه أول إحاطة عن الشرق الأوسط، "لم نتوقع اندلاع حرب أكتوبر ولكنها كانت مفيدة على أي حال، ولم يكن بإمكاننا القيام بما هو أفضل من ذلك ولو وضعنا كثيراً من السيناريوهات".
ويتابع السفير الأميركي السابق في إسرائيل، "كانت المفارقة الكبيرة في هذه الحقبة تكمن في أنه حتى تحقق السلام في الشرق الأوسط فعليك أن تبدأ الحرب أولاً. كانت تلك هي نية السادات وفهمها كسينجر الذي انطلق إلى العمل في اللحظة التي علم فيها باندلاع الحرب، لأنه أدرك بسرعة أنها خلقت فرصة سانحة يمكنه استخدامها لتشكيل واقع جديد".
في أول لقاء بين كسينجر والصحافي المصري البارز محمد حسنين هيكل في نوفمبر (تشرين الثاني) 1973، الذي سجله كتابه "الحل والحرب"، قال كسينجر "إن الفرص لا تجيء إلى الناس، ولكن الناس يذهبون إلى الفرص، لقد كان ما أفعله الآن في خيالي دائماً، كان حلمي. دعني أقل رغبتي، أن أحول تصوراتي السياسية إلى حقائق، لا تنس أن تصوراتنا السياسية لا تجيء إلينا من المجرد، وإنما من دراسة التاريخ، إن التاريخ لا يكرر نفسه، ذلك اعتقادي، ولكنني أوافق (سنتيانا) بأن الذين لا يدرسون التاريخ هم وحدهم المحكوم عليهم بتكراره".
ويضيف كسينجر، "هل تستغرب إذا قلت لك إنني كنت طول عمري أتصور أنني سأقوم بما أقوم به الآن؟ الأفكار في حد ذاتها لم تكن شاغلي، وإنما شاغلي كيف توضع هذه الأفكار أمام اختبار التطبيق، وهذا بالطبع يحتاج إلى القوة، ويخيل إلي أن طلبها والسعي إليها كانا طوال الوقت في دمي، ولا أعرف كيف بدأ ذلك عندي ولا متى؟ إن كلاً منا يمر بثلاثة أطوار فكرية ونفسية، أن يعد الواحد منا نفسه لدور ما، ثم أن يكون عنده ما يقوله عندما يمسك بفرصته، وأخيراً يكون التحدي الذي يواجهه هو، كيف يؤدي دوره وبأي أسلوب في إطار الواقع وظروفه؟".
تلك كانت الأفكار التي أثارت عقل وإرادة كسينجر في هذه الأيام المبكرة من الحرب ودفعته لخوض مغامرة حياته، وقد أنبأه التاريخ الذي درسه بعناية أن "السلام المستحيل" هو الذي يؤمن الاستقرار وليس "السلام الممكن"، لأن الأخير كما أكد التاريخ مراراً سيبقى مجرد حلم، أما الحقائق المعقدة على الأرض فهي شيء آخر. وهكذا فهو يستحضر التاريخ وينكره في الوقت ذاته لصالح الحاضر والواقع والضرورة.
وكان ذلك هو التحدي الذي خاض غمار هذه "المضاربة الدبلوماسية" من أجل الانتصار فيه، لنفسه لا لإسرائيل أو لمصر وسوريا والأردن، للنظام الدولي بكامله لا للولايات المتحدة أو للاتحاد السوفياتي أو الصين. ولأن القوة وحدها هي التي يمكنها أن تصنع التوازن وتفرضه، فإنه يدفع بالقوة الأميركية إلى أقصاها خلال أزمة الحرب في الشرق الأوسط.
وقد واجه كسينجر التحدي ببراعة، وكانت براعته، بحسب إنديك، وإن كانت مؤقتة في بعض الأحيان هي سبب بزوغ نجم دبلوماسية كسينجر على مسرح الشرق الأوسط، التي أطلق عليها اسم "الدبلوماسية المكوكية" بسبب الرحلات الجوية العديدة التي قام بها بين القاهرة والقدس ودمشق، إضافة إلى عواصم عربية أخرى، حيث أسفرت تلك الجهود خلال السنوات الأربع التالية عن إبرام ثلاث اتفاقيات أخرى، اتفاقيتان في سيناء بين مصر وإسرائيل واتفاقية فض الاشتباك بين سوريا وإسرائيل في الجولان، وفي هذه الاتفاقيات الثلاث تنازلت إسرائيل عن بعض الأراضي التي احتلتها مقابل ضمان حدود مؤقتة ومستقرة، ومن ثم ينسب إلى كسينجر الفضل في وضع أسس اضطلاع الولايات المتحدة بحل الصراع العربي- الإسرائيلي وصولاً إلى إبرام معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل بعد ذلك بعامين برعاية الرئيس كارتر وإبرام اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، فضلاً عن معاهدة السلام الأردنية- الإسرائيلية التي أبرمت في عهد الرئيس بيل كلينتون.
لكن وزير خارجية مصر في ذلك الوقت إسماعيل فهمي، والذي كان كسينجر ينعته بـ"سيد التلميح"، يرى في مذكراته (التفاوض من أجل السلام في الشرق الأوسط) أنه تم تضخيم الصورة، فـ"صفات كسينجر وطموحه وتصلبه وقوته في تحقيق أهدافه غير كافية لتبرير قيامه بهذا الدور، كما أنه لم يحقق نجاحاً من خلال استراتيجية شاملة مترابطة في شأن تحقيق تسوية عادلة في الشرق الأوسط، لأنه لم تكن لديه مثل هذه الاستراتيجية. إن ما ساعد كسينجر على تحقيق هذا الدور البارز في الشرق الأوسط هو فوق كل شيء وجود السادات رئيساً لمصر".
لكن كيف تمكن كسينجر من وضع أسس نظامه الشرق أوسطي الذي استمر عقوداً من خلال لهيب الحرب؟ تلك هي المفارقة التي كان عليه أن يضعها موضع التطبيق منذ اليوم الأول للقتال في السادس من أكتوبر 1973، وقد قرر أولاً الاتجاه إلى الأمم المتحدة لا لطلب وقف إطلاق النار فوراً، وإنما لطلب وقف إطلاق النار في المواقع السابقة على القتال، وهو ما رفضه العرب من دون تردد.
وقد كان كسينجر يظن أن إسرائيل ستحسم المعركة خلال أيام قليلة، ولما لم يحدث ما كان يتوقعه، اضطر إلى أن ينشئ جسراً جوياً هائلاً لنجدتها بالسلاح لحين تحقيق النصر وقلب المعادلة على الأرض، فحليفة أميركا لا يجب أن تهزم.
وعندما تمكنت إسرائيل من تغيير دفة المعركة لصالحها بفضل جسره التسليحي، ووقفت مدفعيتها على مدى 50 كيلومتراً من دمشق و101 كيلومتر من القاهرة، حاول الضغط عليها من أجل فك الحصار عن الجيش الثالث المصري جزئياً وتركه على قيد الحياة.
وعندما هدد الاتحاد السوفياتي بالتدخل لفك الحصار الإسرائيلي عن الجيش الثالث المحاصر في سيناء، قرر كسينجر إنذاره نووياً وتحول في غضون ساعات من الضغط على إسرائيل للانسحاب رمزياً لتخفيف الضغط عن الجيش الثالث، إلى تشجيع إسرائيل على التخطيط لتدميره.
وعندما نجح إنذاره في إبعاد خطر التدخل السوفياتي، استدار كسينجر إلى إسرائيل لينتزع منها انتصارها ويمنعها من إهانة العرب في ميدان القتال ليصحب هو الجميع في النهاية إلى طاولته من دون دعوة الضيف السوفياتي الذي سيخرج من المنطقة بالكامل حتى إشعار آخر.
يعلق إنديك، "سعى كسينجر إلى استغلال نتيجة الحرب لإنتاج توازن جديد لا يشعر فيه أي من الجانبين بالهزيمة، فيمكن لإسرائيل المظلومة ومصر الممتنة الدخول في مفاوضات سلام بوساطة أميركية، وهو ما تطلب بقاء الجيش الثالث المصري، إذ اختلفت الأهداف الأميركية والإسرائيلية والمصالح التي قامت عليها تلك الأهداف بشكل جذري".
لقد قام كسينجر، وفق وليم كوانت (عملية السلام)، بالتطبيق العملي لما يقتنع به من أنه لا بد أن تسير القوة والدبلوماسية جنباً إلى جنب، وأنه لا يمكن للولايات المتحدة مطلقاً أن تعتمد في الشرق الأوسط على القوة وحدها أو على المفاوضات وحدها، وكان إيجاد التوازن الحرج بين الاثنين هو محك اختبار حنكة رجل الدولة، ولا بد من النظر إلى إمدادات السلاح للإسرائيليين أو للعرب كجزء من العملية الدبلوماسية وليس كمسألة عسكرية بحتة، ومهما كانت المشكلات التي واجهت كسينجر في تعامله مع هذا المبدأ، فإنه كان يرى بوضوح أن الاعتبارات السياسية ترجح الاعتبارات العسكرية في هذا النوع من القرارات.
كتب كسينجر قائلاً "لقد حققنا أهدافنا المتمثلة في خلق الظروف المواتية لتحقيق نجاح دبلوماسي كبير، والحفاظ على أمن أصدقائنا، ومنع الانتصار السوفياتي، وإقامة علاقات جيدة مع كبرى الدول العربية، فضلاً عن وضع الأساس للدور الأميركي المهيمن في دبلوماسية ما بعد الحرب، لقد فعلنا كل هذا في خضم أخطر أزمة دستورية تواجهها أميركا منذ قرن".
جدل الآمال والممكنات
هكذا سارت القوة والدبلوماسية جنباً إلى جنب من أجل تحقيق النتيجة المرجوة وهي إقامة النظام الإقليمي المستقر، لكن قوة أخرى لا يستهان بها أسقطها كيسنجر من الحساب، تلك هي القوة المعنوية التي كان يخشاها كل الخشية. بحسب هيكل (الحل والحرب) "كانت فكرة القومية العربية تخيفه، فهي تضع أمامه حسابات قوة لا يستطيع فهم مركباتها، ولعل تفضيله أن يتعامل مع كل دولة عربية على حدة كان نوعاً من الرغبة في نزع المجهول عن القوى التي كان يتعامل معها، وتحويل كل عنصر من عناصرها إلى كم محدد يستطيع أن يفهمه ويتعامل معه".
يفسر وليم كوانت عزوف كسينجر عن محاولة تجريب الحل الشامل بالقول إن "وجهة نظره في النهج الشامل للمفاوضات بدت متأرجحة بين الاعتراف بأهمية وجود إطار من نوع ما، والإيمان بأن كل خطوة يمكن بل ينبغي التعامل معها بمعزل عن الخطوات الأخرى، ويبدو أنه كان وراء هذا الغموض شك في ما إذا كان يمكن حقاً تحقيق السلام بين العرب وإسرائيل أثناء حياته، وكان يتصرف أحياناً وكأنه يؤمن بإمكان ذلك، وكان في أحيان أخرى يبدو مستعداً لقبول الوضع القائم المستقر".
لكنها ليست الحقيقة على أية حال، فقد كان كسينجر يتجنب السعي وراء معاهدات السلام، بل سعى إلى إبرام اتفاقات تمنح جميع الأطراف مصلحة في الحفاظ على النظام الحالي، وقال بعد عقود عدة لمارتن إنديك، مبعوث أوباما الخاص، "لم أفكر قط في أن نصل إلى لحظة مصالحة عالمية".
يقول إنديك "كان كسينجر يرى أن الهدف الأساس لعملية صنع السلام هو تخفيف حدة النزاعات بين القوى المتنافسة وليس إنهاءها، فقد أثبت أنه قاوم بشدة الجهود الأكثر طموحاً لحل الصراع العربي- الإسرائيلي، لأنه خشي أن يؤدي السعي إلى تحقيق سلام مثالي ونهائي إلى تعريض الاستقرار، الذي صمم هو نظامه، للخطر. ومن ثم كان السلام بالنسبة إلى كسينجر (مشكلة وليس حلاً)، وكانت الرغبة في ذلك بحاجة إلى بعض التغيير للوصول إلى شيء أكثر موثوقية وخلق نظام مستقر في جزء شديد التقلب من العالم، حيث سيستمر هذا النظام الذي أسسه كسينجر في الشرق الأوسط لما يقرب من ثلاثين عاماً".
يرى وليم كوانت أن "معرفة كسينجر بالأمور التي يريد أن يتجنبها كانت أفضل من معرفته بما يريد أن يحققه من أهداف إيجابية، وكانت حرب أكتوبر بمثابة المرجع المباشر الذي يعود إليه دائماً، إذ كان الدرس المجرد المستمد من تلك الأزمة هو أن الوضع القائم في الشرق الأوسط متقلب وخطر، وقد يتفاقم مما يؤدي إلى آثار خطرة على المصالح الأميركية العالمية والإقليمية، لذلك كان من اللازم تثبيت الوضع القائم من خلال الجمع بين الدبلوماسية وشحنات السلاح، كما يتعين البدء في عملية سياسية تقدم للعرب بديلاً للحرب، غير أنه يتحتم تنفيذها بخطى يقبلها الإسرائيليون. كان ذلك هو نطاق العملية الأولى لتشكيل المفاهيم لدى الرئيس ريتشارد نيكسون وكسينجر، ولم تكن هناك خطة سلام أميركية شاملة، الأمر الذي سبقت محاولته عام 1969 (مع الرئيس جمال عبد الناصر) وفشل".
لذا كان لدى كسينجر نقطة مصابة بالعمى إزاء القضية الفلسطينية، وفق كوانت، وكان يعلم أن هذه المشكلة لا بد من مواجهتها في وقت ما، بل يبدو أن فكرة التعامل المباشر مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية قد راودته، ولكنه وجه الجانب الأكبر من دبلوماسيته محاولاً التغاضي عن هذه القضية الخطرة، وأن يؤجل لحظة الحقيقة.
يقول إنديك "عندما اعترف الرئيس دونالد ترمب رسمياً بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان لدعم إعادة انتخاب بنيامين نتنياهو في الانتخابات الإسرائيلية في أبريل (نيسان) 2019، كان كسينجر مستاءً من قرار ترمب، واصفاً اتفاقه السابق مع السوريين لفض الاشتباك في الجولان بأنه "وضع مثالي" يمكن إسرائيل من الاستمرار في احتلال الهضبة السورية، كما يضمن لسوريا الاستمرار في المطالبة بالسيادة عليها".
ذلك "السلام المرير" الذي يمكن تقويضه في أي لحظة دام كل هذه العقود بفضل هنري كسينجر، لكن جرأته الدبلوماسية لم تكن بلا مقابل، بل حصدت معها آلاف الضحايا، وكم كانت معادلات "القوة والدبلوماسية" و"الأرض مقابل السلام" و"تحقيق التوازن الدولي" في عصر الأخطار النووية، مرفوضة من جميع الأطراف. فلن تنسى مصر أن كسينجر هو الذي أمد إسرائيل بالسلاح لقتل جنودها وأجبرها على الإذعان الذي طال أمده حتى تم استرداد سيناء بالكامل، ولكن منقوصة السيادة. كما لن ينسى الإسرائيليون أن كسينجر انتزع منهم النصر على الجيش الثالث المصري وإن منحهم صديقاً عربياً كان قبل أيام قليلة ألد وأخطر الخصوم.
وأما هو فقد كان يعرف أن حلوله العملية موقتة ولو طالت، ولكنها الحلول التي لا شيء غيرها، يقول كسينجر في مذكراته "طالما كان السلام بالنسبة إلى معظم الناس في معظم فترات التاريخ حالاً محفوفة بالمخاطر لم تؤد قط إلى إنهاء كل التوترات".
كانت تحركات كسينجر وجهوده خلال تلك السنوات الأربع البعيدة بدءاً من حرب أكتوبر، بحسب مارتن إنديك، مثيرة للإعجاب وتنم عن رؤية واستراتيجية وحنكة فائقة لكبير الدبلوماسيين الأميركيين، مستعيناً في ذلك بمعرفته بالتاريخ ومهاراته الحدسية البديهية وفهمه الدقيق لتوازن القوى المعقد في منطقة الشرق الأوسط واستعداده لتحمل الأخطار والارتجال، فضلاً عن قدراته المكيافيلية على نشر أدوات النفوذ المستمدة من القوة الأميركية الهائلة للتعامل بحنكة ودهاء مع زعماء تلك المنطقة المضطربة من أجل تحقيق السلام.
ويضيف "لقد اعتقد كسينجر أن تعزيز السلام وخلق النظام هما وجهان لعملة واحدة، فقد كانت رغبته في صنع السلام في كثير من الأحيان غطاء يخفي حبه للنظام، إلا أن أفكاره كانت واضحة وغير مشوشة، فما قد بدا أنه جرأة دبلوماسية على السطح كان في الواقع فكراً محافظاً فطرياً لديه، وقد ولدت تجربته في الفرار من محرقة الهولوكوست سعياً متأصلاً لديه لتحقيق النظام في حياته وعلى الصعيد الدولي، مما أدى بدوره إلى تصميمه على إقامة نظام بقيادة أميركا في الشرق الأوسط".
ويتابع "عندما كان كسينجر في ريعان شبابه دفعته تجربته المؤلمة التي عاشها في ظل الفوضى النازية والعنف التعسفي إلى السعي وراء تحقيق النظام في حياته بشكل طبيعي، فأصبح الحفاظ على النظام في المنظومة الدولية هو القوة المحركة في كتاباته، وبعد أن تولى منصبه أصبح الأمر حجر الأساس لاستراتيجيته كصانع سياسات".
لكن النظام ينهار
تلك التوازنات الدقيقة للنظام الدولي في عصر القوى النووية، التي أسهم كسينجر بجدارة في صناعتها عندما كان الدبلوماسي الأبرز على الساحة الدولية إبان حرب أكتوبر، هل كان بإمكانها أن تصنع المعادلة الصعبة بين القوى الكبرى؟ وهل شيدت صرح السلام (أو "غياب الحرب" بحسب معادلته) كما صنع مترنيش قائده التاريخي في هذا المضمار، عندما غابت الحرب في أوروبا بفضل دبلوماسيته قرناً من الزمن؟ وماذا يقول كسينجر مخترع "سياسة الوفاق" مع الاتحاد السوفياتي السابق في شأن الحرب الروسية الحالية على أوكرانيا والدور الأميركي فيها؟ بل كيف يحدثنا، هو الذي بدأ تجسير العلاقة الأميركية مع الصين في أواخر الستينيات لإدخالها في النظام الدولي، عن هذه العلاقة في زمننا الحالي؟
لا يزال كسينجر، الذي تجاوز الآن 100 سنة على هذه الأرض، يصر على معادلاته المستحيلة، فخلال مداخلته الافتراضية أمام المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا، في 23 مايو (أيار) 2022، أكد على ضرورة تنازل أوكرانيا عن جزء من أراضيها من أجل تحقيق السلام مع روسيا، وأن الفشل في استئناف المفاوضات الروسية - الأوكرانية، وفرض مزيد من العزلة على موسكو سيكون له عواقب وخيمة على المدى الطويل بشأن الأمن الأوروبي، وأن رغبة البعض في تفكيك روسيا قد تؤدي إلى فوضى نووية شاملة.
لكنه تراجع في ما بعد عن هذه التصريحات التي أثارت جدلاً وانتقادات واسعة داخل الولايات المتحدة وخارجها، وإن لم يتردد أبداً في الدفاع عن منظومة الشرق الأوسط التي شيدها "خطوة خطوة" ثم ها هو يشاهدها بينما تنهار.
يقول إنديك "بدأ ذلك مع فشل مساعي كلينتون للتوصل إلى اتفاق سلام نهائي في كامب ديفيد عام 2000، وما تلاه بعد ذلك من اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في نهاية رئاسته، وبعد وقوع أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، أطاح الرئيس جورج دبليو بوش بصدام حسين، وأغرق الولايات المتحدة في أطول الحروب في التاريخ الأميركي في كل من العراق وأفغانستان في محاولة منه لإعادة تشكيل الشرق الأوسط حسب التصور الأميركي، مما أدى إلى فتح أبواب بابل أمام المنافس الإيراني للسيطرة على الإقليم، فيما تراجع النفوذ الأميركي بشكل كبير على الساحة العربية- الإسرائيلية واستنفد شهية الشعب الأميركي للتورط في أي حرب خارجية".
ويتابع "لقد دفعت رغبة أوباما في أن يكون على الجانب الصحيح من التاريخ إلى دعم الثورة المصرية وتغيير النظام في ليبيا وسوريا مما أدى إلى تفاقم الاضطرابات في المنطقة، حيث سهل دخول سوريا في حرب أهلية مريرة عودة الجيش الروسي إلى المنطقة وهو ما زاد من نفوذه، وسعت تركيا من جانبها أيضاً لملء الفراغ، وفي الوقت ذاته أدى انسحاب القوات الأميركية من العراق وأفغانستان (بعد الحرب الكارثية التي دامت عقوداً من الزمن في العراق) إلى تقويض مكانة أميركا التي كانت مهيمنة ذات يوم، وتقليل تأثيرها في شؤون الشرق الأوسط بشكل عام، بما في ذلك القضية الفلسطينية".
ثم جاء بعد ذلك، والكلام لا يزال لمارتن إنديك، دونالد ترمب الذي أصر على تسريع الانسحاب العسكري الأميركي من الشرق الأوسط، لكن مشروعه الذي يتسم بالغرور لم يكن مختلفاً كثيراً عن هدف هنري كسينجر المتمثل في إنشاء نظام شرق أوسطي مستقر.
لعلها محاولة من جانب مبعوث أوباما لاستعادة روح نظام كسينجر وتقديمها بغلاف جديد إلى الشرق الأوسط، وهو يقول هنا إن الجانب الصحيح من التاريخ ليس بالضرورة أكثر الجوانب أماناً، بل هو كما نرى أكثرها قلقاً واضطراباً، بالتالي فإن النظام الذي رسخه كسينجر في المنطقة على مدار 30 عاماً، على رغم أنه ضد التاريخ، هو الصورة المثلى لحفظ الاستقرار في المنطقة.
لكن القوى المعنوية المجهولة التي أسقطها كسينجر من حساباته ظلت كامنة مع ذلك، ولم يكن إلغاؤها أو إرجاؤها أو التعامي عنها كفيلين بنسيانها، وما كان لمعادلة كسينجر في الشرق الأوسط أن تنجح وإن طال المدى، لأنها لم تعالج المكونات الأولية للصراع بالنسبة إلى الطرف العربي، كما لم تحسم المسألة الأخلاقية بالنسبة إلى الطرف الآخر، وما أهمله كسينجر في الحقيقة هو الذي سيفجر الأوضاع بعد ذلك إلى حد التمزق، لكنه في تلك الأيام المجيدة بالنسبة إليه كان يراوغ لإلغاء كل ما لم يستطع تفكيكه، وقد كانت مركبات بالغة البساطة مثل "السلام العادل" مستحيلة وصعبة الاحتمال، لأنها تنتمي بالنسبة إليه إلى دنيا الفلسفة أكثر من عالم السياسة الدولية.
يقول في مقدمة رسالته "إن الحياة معاناة، وحادثة الميلاد تتضمن في ذاتها واقعة الموت، وكما أن الانتقال والتغير هو مصير الوجود، كذلك ليست هناك حضارة دائمة، ولا شوق يتحقق بشكل كامل".