مع دخول قرار وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في الـ22 من أكتوبر (تشرين الأول) 1973، استمرت الماكينة الإعلامية الإسرائيلية المدعومة من أبرز وسائل الإعلام الغربية في حربها المضللة ضد مصر وسوريا، ففي صباح الـ26 من أكتوبر من العام نفسه أعلن المتحدث العسكري الإسرائيلي غرق ناقلة نفط تحمل العلم البنمي في مدخل قناة السويس، زاعماً أن قوة مكونة من دبابات ومدفعية في منطقة انتشار الجيش الثالث المصري شمال مدينة السويس هاجمت القوات الإسرائيلية.
الحرب الإعلامية الإسرائيلية كانت جزءاً مهماً من المعركة
لكن القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية ردت على المزاعم الإسرائيلية بتأكيد أن "تل أبيب تحاول مرة أخرى إيجاد ذريعة لخرق وقف إطلاق النار بهذه الادعاءات الباطلة، فأولاً، قوات الجيش الثالث لم تنفذ أي هجوم ولم تخرق وقف إطلاق النار، وثانياً لم تقم القوات البحرية المصرية بأي نشاط بحري ولم تخرق وقف إطلاق النار، وثالثاً فإن القوات المسلحة ليست مسؤولة عن غرق السفينة المذكورة التي كانت تحمل العلم البنمي كما تدعي إسرائيل".
وأضافت في بيانها أن "القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية تود أن تشير إلى التناقضات الإسرائيلية، فبينما زعم المتحدث العسكري الإسرائيلي أن السفينة تحمل اسم ’سيريوس‘ وترفع العلم البنمي، كذبت شركة ’لويدز أوف لندن‘ تل أبيب في بيان رسمي أعلنت فيه أنه لم يتم تسجيل أي ناقلة رسمياً من قبلها تحت هذا الاسم".
وتابع، "وهذا البيان الرسمي من قبل ’لويدز‘ يظهر أن ادعاء إسرائيل كاذب، وعليه، تود القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية أن تعلن أن تل أبيب التي انتهكت قرار وقف إطلاق النار في اليوم الأول الذي دخل فيه حيز التنفيذ في الـ22 من أكتوبر بتحريك قواتها المسلحة للاستيلاء على مناطق جديدة كما اعترفت به بياناتها العسكرية الرسمية، تحاول اليوم إيجاد ذريعة للتمادي في انتهاكاتها المستمرة لوقف إطلاق النار. ومنذ أن دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في الـ22 من أكتوبر وفقاً لقرار مجلس الأمن، سمحنا لمراقبي الأمم المتحدة بالوجود بينما تؤخر إسرائيل وتعرقل عملهم ووصولهم إلى القطاع الجنوبي من العمليات العسكرية حتى تتمكن من الاستمرار في خرق وقف إطلاق النار".
القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية وفي بيانها رقم 64 الصادر في الـ26 من أكتوبر أعلنت عن خرق الجيش الإسرائيلي لوقف إطلاق النار بين البلدين.
وجاء في إحدى الوثائق البريطانية ما نصه، "واصلت إسرائيل انتهاكها لوقف إطلاق النار، وشنت هجوماً جوياً مركزاً على المواقع المصرية في القطاع الجنوبي شرق السويس، وبدأت هذه الهجمات في الساعة الـ11:00 بالتوقيت المحلي واستمرت على فترات حتى وقت إصدار البيان، واضطرت المواقع المصرية التي تعرضت لإطلاق النار إلى استخدام القوة لصد طائرات العدو لمنعها من تحقيق هدفها، وتؤكد القيادة من جديد أن القوات المصرية صامدة وتقاتل بشجاعة مع التزام وقف إطلاق النار، وتعتبر سلوك العدو أمس تمهيداً للقيام بعمليات هجومية أخرى سيحاول من خلالها كسب أراضٍ جديدة".
وبحسب الوثيقة البريطانية نقلاً عن البيان المصري، "لهذا الغرض يضعون العراقيل أمام مراقبي الهدنة التابعين للأمم المتحدة لمنعهم من تولي مواقعهم في القطاع الجنوبي وعرقلة وصول قوة طوارئ دولية إلى المنطقة نفسها، وشرع العدو في الهجمات الأخيرة بعدما مهد الطريق من خلال مزاعم بأن القوات المصرية انتهكت وقف إطلاق النار، مما يدل على الدافع وراء مزاعم العدو الكاذبة بإغراق القوات المصرية لناقلة نفط في خليج السويس والادعاءات اللاحقة بأن مصر استخدمت الدبابات والمدفعية لقصف المواقع الإسرائيلية غرب قناة السويس، فهذه الادعاءات يثيرها العدو تمهيداً لإنشاء جسر عائم عبر القناة شمال السويس".
موقف بريطانيا ودورها في الحرب
تشير الوثائق البريطانية إلى موقف لندن الحيادي من الحرب الدائرة بين مصر وسوريا مع إسرائيل عام 1973 بقولها "كان دورنا محدوداً في الحرب والدولتان الوحيدتان اللتان كان لهما تأثير حقيقي في المتحاربين أميركا والاتحاد السوفياتي، وذلك أساساً بحكم موقعهما كموردين احتكاريين للأسلحة. والواقع أننا استبعدنا أنفسنا بفرض حظر على الأسلحة على الجانبين عندما بدأ القتال. وبما أن هذا القرار أضر الإسرائيليين أكثر من العرب، فقد رحب به المصريون بشكل عام وأكثر من العرب الآخرين الذين لم يكونوا في حاجة إلى أسلحتنا. ولكن، كما نجد بالفعل، فإن فرض الحظر أسهل من رفعه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المكاسب المصرية من الحرب والكشف عن سلاح النفط
"يمكن للسادات اليوم أن يدعي أنه حقق معظم أهدافه المباشرة بخوض الحرب، فلقد نجح في كسر جمود الشرق الأوسط، وعلى رغم التأخير والإحباطات التي أعقبت الحرب، إلا أن الطوفان الناتج من ذلك كان حتى الآن يتدفق في اتجاه مصر. إن القوتين العظميين ملتزمتان أخيراً إجراء لحل مشكلة الشرق الأوسط، ووقفت أفريقيا إلى جانب العالم العربي ضد إسرائيل، وذهبت أوروبا بعيداً في الاعتراف بقوة القضية العربية. وتحطم رضا إسرائيل عن النفس وتم تحدي نظريتها حول الأمن (في الأقل على جبهة القناة وفي البحر الأحمر)، وانخفض إيمانها بتفوقها العسكري وكادت عزلتها الدولية أن تكتمل وانكشف اعتمادها على الولايات المتحدة بشكل صارخ"، وفق الوثيقة نفسها.
وتتحدث الوثيقة عن تداعيات "حرب 6 أكتوبر" على العالمين العربي والغربي، إذ تشير إلى سلاح النفط الذي استخدمته السعودية دعماً لمصر وسوريا والحقوق العربية المشروعة، فالشعوب العربية لن تنسى الكلمات التي وجهها الملك فيصل بن عبدالعزيز، رحمه الله، إلى وزير خارجية أميركا هنري كيسنجر، معلناً موقف بلاده من الدعم الأميركي والغربي لإسرائيل في حربها ضد مصر وسوريا، "لقد عاش آبائي وأجدادي مئات السنين على ثمار تلك الأشجار التي تراها، ونحن مستعدون لنعود إلى الخيام ونعيش مثلهم ونستغني عن البترول، إذا استمر الأقوياء، وأنتم في طليعتهم، في مساعدة عدونا علينا".
كما جاء في الوثيقة البريطانية ما نصه، "وكانت العواقب بالنسبة إلى العالم العربي بعيدة المدى بالقدر نفسه، وكنتيجة مباشرة لعبور مصر لقناة السويس تم إطلاق سلاح النفط العربي للمرة الأولى، مما يدل ليس فقط على قيمته النفسية كوسيلة للحام الوحدة العربية، بل أيضاً تأثيره المدمر في اقتصادات العالم الغربي، وارتفعت أسهم مصر إلى النقطة التي أصبحت معها قادرة مرة أخرى على قيادة العالم العربي بشكل عادل، على رغم أنها راضية الآن بتقاسم هذا الامتياز المشكوك فيه مع السعودية، إذ إنها واثقة من نفسها بما يكفي لمواجهة إسرائيل عبر طاولة المؤتمر في جنيف وأثبتت لنفسها وللعالم أجمع أن الوطنية المصرية يمكن أن تنتج أفعالاً وأقوالاً وأن الجيش المصري قادر على القتال بحماسة وإصرار. أما داخل مصر فقد أصبح السادات الآن السيد بلا منازع ويبدو أنه سيظل كذلك شريطة ألا تتأخر عملية الانسحاب الإسرائيلي طويلاً".
وتشير برقية السفارة البريطانية لدى باريس رقم 1380 المرسلة إلى وزارة الخارجية البريطانية في الـ 16 من ديسمبر (كانون الأول) 1973 إلى الغضب الغربي من قرار السعودية باستخدام النفط ومنع تدفقه تجاه الدول الغربية من أجل حثها على الضغط على الولايات المتحدة وعدم الانحياز لمصلحة إسرائيل، "إن المحاولة السعودية لتهديد الأوروبيين من أجل حملهم على ممارسة الضغط على الأميركيين كانت بمثابة تطور جديد يحتاج إلى ضربة قوية".
عودة الدبلوماسية ومستقبل العلاقات البريطانية- المصرية
"بعد الـ22 من أكتوبر، عادت الدبلوماسية الطبيعية لذاتها مرة أخرى وتمكنّا من تقديم إسهام حقيقي في استقرار وقف إطلاق النار الهش (الذي انهار مراراً وتكراراً خلال الأيام التي تلت الاتفاق عليه). وابتداء من الـ25 من أكتوبر، تطوعنا بإرسال قوة الطوارئ التابعة للأمم المتحدة، وفي غيابها استغل الجانبان، الإسرائيليون بنجاح أكبر وقف إطلاق النار. وكان أيضاً اقتراح رئيس الوزراء بمواصلة عملية فك الارتباط التي نقلت عبر ليونيد بريجنيف (الزعيم السوفياتي آنذاك) إلى السادات والعودة عبر الأميركيين للإسرائيليين والتي يبدو أنها وفرت الأساس لاتفاق وقف إطلاق النار المكون من ست نقاط في الـ11 من نوفمبر".
في الفقرة العاشرة من التقرير الدبلوماسي يتساءل كاتب التقرير عن مستقبل العلاقات البريطانية مع العرب بعد انتهاء الحرب والآثار المترتبة على صاحب القرار في المملكة المتحدة جراء ذلك، ويقول ما نصه "يجب أن نقبل أن علاقاتنا مع هذا الجزء من العالم لن تكون هي نفسها مرة أخرى. لقد أوضح الرئيس السادات بالفعل أنه يعتبر علاقتنا متغيرة وأن مواقف ما قبل أكتوبر لم تعد مقبولة. إنه (السادات) يريد صداقتنا ولكن على أساس شراكة قائمة على المساواة في المكانة والمصلحة، ووجد العرب أنهم يستطيعون استغلالنا بالفاعلية نفسها التي كانوا يزعمون في الماضي أننا استغللناهم من خلالها".
وتابع، "يحمل هذا الوضع أخطاراً عدة على المصالح الغربية والبريطانية تحديداً، ولكن هناك أيضاً فرصاً كبيرة إذا لعبنا أوراقنا بشكل صحيح. في الوقت الحاضر لدينا علاقة عمل جيدة مع كل من القوى العربية الكبرى، مصر والسعودية. لدينا في الرئيس السادات رجل، على رغم الماضي، يود أن يتعامل معنا على مستوى متكافئ بسبب عضويتنا في المجموعة الأوروبية. وأتمسك بتقييمي في إيفاد سابق بأن السادات رجل يفضل السلام ويريد تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية في مصر على المدى الطويل ويميل إلى اتخاذ سياسة طويلة المدى. إذا استطعنا إقناعه والملك فيصل ليس فقط بحسن نيتنا المجردة، لكن أيضاً بقدرتنا المادية على مساعدة آفاق المصالح البريطانية الاقتصادية والسياسية في هذا الجزء من العالم يتم رسمها بشكل عادل".
ويضيف التقرير " ومع ذلك، للاستفادة من هذه المزايا قد نحتاج إلى اتخاذ بعض القرارات الجذرية. وعلى الجانب الاقتصادي، يجب علينا أن نولي اهتماماً أقل لسجل مصر السابق كدولة بطيئة في سداد الديون، ونولي اهتماماً أكبر للآفاق المستقبلية لاقتصاد مصري متوسع تدعمه ثروة السعودية وربما الدول الأخرى المنتجة للنفط. ومن الناحية السياسية، يتعين علينا أن نتقبل أن استمرار حسن نية مصر تجاهنا واستعدادها لاستخدام مساعيها الحميدة مع منتجي النفط قد يعتمد على المدى القصير بشكل حاسم على تزويدها بما تحتاج إليه بقوة كمصدر للأسلحة الحديثة غير الاتحاد السوفياتي. لدينا هنا فرصة فريدة لاحتواء النفوذ السوفياتي وأن نضع أنفسنا في موقع متميز في ما يتعلق بإمدادات النفط وتأمين سوق رئيسة لصناعتنا".
"لا أريد المبالغة في هذه القضية. مصر حجر كبير على الشاطئ العربي، لكنها ليست الوحيدة. كلما استطعنا أن نفعل مزيداً لتعزيز أهدافها السياسية في جنيف وأماكن أخرى، أصبحت مساعدتها بطرق أخرى أقل أهمية، ومن الممكن أيضاً أن يتم تطوير مزيج من بعض المساعدة في الأسلحة مع مزيج متزايد من المساعدات المالية والغطاء، ما من شأنه أن يفي بالغرض من دون أن يكلفنا كثيراً من الموارد أو الإحراج السياسي، ولكن إذا كنا راغبين في الحفاظ على حصتنا السياسية والاقتصادية، ناهيك عن توسيعها، في العالم العربي (الذي تشكل موارده النفطية مصدراً واحداً من بين أصول كثيرة تستحق التقدير)، فأظن أننا سنضطر إلى الذهاب إلى أبعد مما كنا نتمناه لولا ذلك. ومن الآن فصاعداً، سيهتم المصريون بشكل متزايد بالأفعال وليس بالأقوال. وسيكون من المفيد لنا في الأقل أن نعد أنفسنا لاتخاذ خطوة كبيرة نحوها والتي يمكن تحجيمها إذا سمحت الظروف بذلك، بدلاً من سلسلة من الخطوات الصغيرة والمتسارعة، كل منها غير كافية في حد ذاتها وفي مجملها لا تزال غير مؤثرة في ظل أحداث مستمرة وخارجة عن إرادتنا".