ملخص
ليلى أبو شقرا وثقت سيرهم والقت ضوءا على أعمالهم في "حماة الثغور"
"حماة الثغور" هو العنوان الرئيسي لكتاب صدر حديثًا في بيروت، عن دار النهضة العربية، للباحثة اللبنانية ليلى أبو شقرا. أمّا العنوان الفرعي للكتاب فهو "العلماء الموحّدون في القرن العشرين: إسهامات نهضوية"، مما يعني أنّنا إزاء بحث تاريخي يزاوج، في علاقة جدلية واضحة، بين مفهومي الحماية والنهضة. فحماية الأوطان شرط للنهوض بها، ونهضتها تعزّز مفهوم الحماية بامتياز، وهو ما يتمظهر بوضوح في سِيَر الشخصيات التاريخية الخمس، موضوع البحث. وهم على التوالي: الأمير شكيب أرسلان، الأمير عادل أرسلان، العلاّمة عجاج نويهض، المؤرّخ عارف أبو شقرا، ورجل الإنماء عارف بيك النكدي. فما الذي يجمع بين هذه الشخصيات؟ وما الذي يُفرّق بينها؟ وما هو الدور الذي لعبته في حماية الثغور والنهوض بها؟
لا بدّ أولاً من الإشارة إلى أن "ثغور"، في اللغة، هي جمع "ثغر"، والثغر هو المكان الذي يُخاف منه هجوم العدو، وهو المدينة القائمة على الشاطئ. أمّا "حماة الثغور"، في التاريخ، فهي التسمية التي أُطلقت على القبائل العربية التي طلب إليها الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور، النزول في سواحل الشام وثغورها وحمايتها من غزوات البيزنطيين، وكانت أولاها القبائل التنوخية بقيادة الأمير أرسلان التنوخي (الزركلي: الأعلام، ط3، ج4). وبذلك، يتصادى المعنيان اللغوي والتاريخي في الكتاب.
أحجام متفاوتة
يمهد للكتاب الشيخ سامي أبي المنى، شيخ عقل طائفة الموحّدين الدروز. وأمّا المقدّمة فللباحثة نفسها. وأمّا الفصول الثلاثة فتتوزّع على: التعريف بالمفكّرين موضوع البحث، ورصد إسهاماتهم في الحياة الفكرية والنهضة الأدبية واللغوية في القرن العشرين، وأمّا الخاتمة فَتُجْمِلُ ما فصّلته الباحثة في بحثها، وتُوجز ما خَلُصَت إليه من نتائج. ولا بد، في هذا السياق، من إبداء ملاحظتين اثنتيتن: الأولى هي أن الفصول الثلاثة تتفاوت في ما بينها من حيث الحجم، ففي الوقت الذي لا يتعدّى فيه الفصل الأول الـ 32 صفحة، نرى أن الفصل الثاني يمتد على 156 صفحة، بينما يشغل الفصل الثالث والأخير 172 صفحة. والثانية هي أن جميع الفصول، على اختلاف أحجامها، تخلو من العناوين الفرعية، مما يجعل عملية القراءة محفوفة بالحاجة إلى التركيز للإحاطة بالفصل المقروء.
في المضمون، لا بدّ من الإشارة إلى الجهد البحثي الكبير الذي بذلته الباحثة في بحثها، فراحت تطارد المعلومات والوقائع التاريخية في مظانّها، وتعمل على تفكيكها وإعادة تركيبها في السياق الذي يفضي إلى تحقيق أهداف البحث. وهذه الأهداف يُحدّدها الشيخ أبي المنى في تقديمه بـ" إظهار تأصّل هؤلاء المفكّرين في البيئة العربية والإسلامية، وتأكيدهم لهوية الطائفة "المعروفية"، وتبيان جهادهم في حفظ التراث ومساهمتهم في ارتقاء الأمّة" (ص 9). وتُحدّدها الباحثة بالإضاءة على "أثر المسلمين الموحّدين في الفكر والأدب واللغة في القرن العشرين" (ص 14). وفي سبيل تحقيق هذه الأهداف، تروح أبو شقرا تتقصّى، على مدى ثلاثة فصول، الإسهامات النهضوية التي اضطلعت بها الشخصيات الخمس، متّخذة من الأمير شكيب أرسلان معياراً أعلى للبحث، فتقارن الآخرين به، وتتلمّس نقاط الاتفاق والاختلاف والتقاطع في ما بينهم.
اتفاق واختلاف وتقاطع
يجمع بين الشخصيات الخمس: تَعاصُرُهم في حقبة زمنية واحدة، تمتد من ولادة أكبرهم سنّاً، الأمير شكيب أرسلان، في العام 1869، حتى رحيل آخرهم، العلّامة عجاج نويهض، في العام 1982. انتماؤهم إلى محافظة جبل لبنان. انغماسهم في القضية الوطنية على اختلاف دوائرها. الجمع بين النضال بالكلمة والفعل. تنوّع اهتماماتهم. تَمَتُّعهم بوزن في المجتمع وتأثيرهم في المحيط. ويفرّق بينهم: اختصاص كلٍّ منهم. التفاوت في المكانة الاجتماعية. اختلاف دوائر تأثيرهم وتدرّجها من المحلية، إلى اللبنانية، إلى العربية، فالإسلامية. أمّا نقاط التقاطع فتكمن في الصداقة والكتابة والعمل الإداري والعمل الميداني وبعض محاور الاهتمام وغيرها. ولجلاء هذه النقاط، على أنواعها، لا بد من رسم بورتريه، يتناول الملامح الكبرى لكلّ شخصية، انطلاقًا من البحث ومندرجاته، تاركين الملامح الصغرى والتفاصيل لقرّائه المفترضين، مع العلم أن الباحثة تعتمد منهجية واحدة في دراسة الشخصيات، بحيث تتناول ولادة الشخصية، نشأتها، المدارس التي درست فيها، الأعمال التي زاولت، المناصب التي تقلّدت، الميادين التي خاضت، النضال الذي ناضلت، الأثمان التي دفعت، والنتاج الثقافي الذي خلّفت، وغيرها.
الأمير شكيب أرسلان، في الكتاب، هو المتحدّر من سلالة المناذرة اللخميين، المعتدّ بنسبه، العارف بالأنساب، المفتخر بهويته وتراثه وتاريخه، المتنقّل بين المناصب الإدارية والسياسية والنيابية. هو شغل منصب مدير ناحية الشويفات وقائمقام الشوف وعضو مجلس المبعوثين وغيرها، القائم بالمهام الدبلوماسية بحيث يتوسّط بين السعودية واليمن في العام 1943، ويتوسّط لدى الألمان لمنح الاستقلال لأذربيجان وطاغستان، ويكون العضو الدائم في الوفود المدافعة عن القضايا العربية، المجاهد ضدّ الطليان، المستشرف خطر الاستعمار والمحذّر منه والمناهض له بالقلب واللسان واليد، الجريء الذي يشهر كلمة الحق في وجه السلطان، وكاتب الرسائل والمقالات والمقدّمات، وصاحب المؤلّفات المهمّة لا سيّما كتابه "لماذا تأخّر المسلمون؟ ولماذا تقدّم غيرهم؟" الذي يطرح سؤالي التخلّف والتقدّم في مرحلة مبكّرة، ولا يزال هذان السؤالان مطروحين حتى اليوم.
لا يقلّ الأمير عادل أرسلان شأنًا عن شقيقه الأكبر، فهو، في الكتاب، دارس الحقوق والإدارة العامة في اسطنبول، المنتسِب إلى الجمعيات الوطنية، المتقلّب بين المناصب الإدارية والسياسية والنيابية. وقد شغل منصب مدير إسكان المهاجرين في دمشق وقائمقام الشوف وعضو مجلس المبعوثين وعضو البرلمان السوري وغيرها، المنخرط في الجهاد ضد الانتداب إلى جانب الملك فيصل الأول وسلطان باشا الأطرش ويوسف العظمة، المترفّع عن السلطة وإغراءاتها بحيث يعتذرعن عدم قبوله تشكيل الوزارة في لبنان بطلب من الرئيس إميل إده، البائع بعض أملاكه في سبيل دعم الثورة العربية والمصادَر بعضها الآخر من السلطة المنتدبة والمعتقل في سجن تدمر، وهو المنشغل بالجهاد عن الكتابة بحيث يقتصر نتاجه الكتابي على مذكراته وديوان شعر واحد. ولا بد من الإشارة إلى ظلمٍ يحيق بالأمير عادل، من حيث الشكل، في الكتاب، بحيث يخلو الثلث الأول منه، على الأقل، من ذكر اسمه الأول، ويُكتفى بالاسم الثاني، وأحيانًا يغيب الاسمان معًا، ويكون علينا أن نستنتج حضوره من سياق الكلام. لعلّه خلل في الجهاز الطباعي يقتضي تداركه في طبعة لاحقة للكتاب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"حامي الثغور" الثالث في الكتاب هو العلامة عجاج نويهض الذي يرى في الأمير شكيب أستاذاً وأباً روحيّاً، ويحاول أن يقتفي خطاه في النضال بالكلمة والفعل. لذلك، ما إن ينهي دراسته في رأس المتن وبرمانا وسوق الغرب، حتى يُيَمّم شطر فلسطين، وفيها يتنقَل بين الوظيفة والترجمة والصحافة والإذاعة، فيعمل في وزارة المالية، يترجم حاضر العالم الإسلامي للوثروب ستودارد، ويعهد إلى الأمير شكيب بكتابة المقدّمة، يتولّى القسم العربي في الإذاعة الفلسطينية، يُنشىء مع آخرين مجلّتي "القلم" و"العرب"، يُسجَن في معتقل الصرفند، يكتب المقالات والرسائل. ويتراوح نتاجه بين الكتب المترجمة والمؤلّفات الموضوعة، ولعل أهمّها مذكراته "ستّون عامًا مع القافلة العربية"، ناهيك بانخراطه في النضال إلى جانب سلطان باشا الأطرش.
الشخصية الرابعة في "حماة الثغور" هي المؤرّخ عارف أبو شقرا الذي ينشأ في كنف جدّه بعد وفاة أبيه صغيراً، وتُتاح له فرصة الدراسة في أفضل المدارس والجامعات، فيتخرّج من الجامعة الأميركية في بيروت حاملاً إجازة في أصول التعليم، مما يؤهّله لممارسة التدريس، والانخراط في العمل النقابي لمصلحة المعلمين، والاشتغال في الصحافة رئيساً لتحرير مجلة "البادية"، وشريكاً في تحرير مجلة "الأمالي"، وكاتباً في "الأنباء" و"صوت البيان" و"نهضة العرب" و"الكتاب". ورحل عن مجموعة مؤلّفات في الشعر والنثر والتاريخ، لعلّ أبرزها "الحركات في لبنان في عهد المتصرفية".
أمّا مسك الختام في "حماة الثغور" فهو رجل الإنماء عارف بيك النكدي، المتحدّر من قبيلة "تغلب" العربية، الذي ولد لأبٍ قاضٍ هو أمين سعيد النكدي وأمٍّ فاضلة هي السيدة ألماسة سليم النكدي، وتنقّل في دراسته بين عدد من المدارس حتى إذا ما تخرّج بشهادة الحقوق، يتقلّب في المناصب المختلفة بين مدير المدرسة العثمانية وكاتب في المحكمة الاستئنافية في جبل لبنان وقاضي تحقيق في بعبدا وقائمقام الشوف ومدير هيئة الإعاشة، وأسس دار العلم وبيت اليتيم الدرزي في عبيه ودار اليتيم في السويداء، وأنشأ جريدتي "الأيام" و"اليوم"، ووضع عدداً من الكتب والمخطوطات في حقول معرفية مختلفة.
وهكذا نجد أن إسهامات المفكّرين المذكورين أعلاه تجمع بين السياسة والتربية والإنماء والأدب والتأليف والترجمة وحماية الثغور ومناهضة الاستعمار ونهضة الوطن والأمة. وهي إسهامات على قدر كبير من الأهمية. حقّها أن تكون موضع بحث وتنقيب، كما فعلت الباحثة ليلى أبو شقرا في بحثها الأكاديمي الرصين، ما يجعلها موضع شكر وتقدير، ويجعل كتابها جديراً بالقراءة.