Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هيباتيا فيلسوفة الإسكندرية... ضحية النخبة أم الدهماء؟

دفعت حياتها ثمناً لصراع المطلق والنسبي ومجابهة العقل للنقل فكانت أشهر ضحية للتطرف بمعناه الفكري والديني

مشهد لتعذيب هيباتيا قبل إعدامها (الموسوعة البريطانية)

ملخص

دفعت حياتها ثمناً لصراع المطلق والنسبي ومجابهة العقل للنقل فكانت أشهر ضحية للتطرف بمعناه الفكري والديني

يحفل التاريخ الإنساني بأسماء نساء غيرن مجراه، وتركن بصمة واضحة على مساراته، بل وبعضهن حفرن أسماءهن على مساقاته.

نسوة من قبيل هيباتيا فيلسوفة الإسكندرية الشهيرة، وزنوبيا ملكة تدمر، وأيضاً كليوباترا البطليمية التي لا تزال لغزاً عبر التاريخ، بجانب ماري كوري مكتشفة البولونيوم والراديوم، وفيكتوريا التي حكمت لأكثر من ستة عقود الإمبراطورية البريطانية، مروراً بكاترين دي ميديتشي، والدة الملك لويس الثالث عشر.

في حياة كل منهن قصة مثيرة، ودروس حياتية تستحق التوقف أمامها وتأملها جلياً، فالتاريخ حلقات موصولة، لا تنفصل.

أولهن صاحبة الاسم الذي لا يزال مثيراً، رغم أنها مولودة في أواخر القرن الرابع الميلادي، التي لا تزال أبعاد قصتها غامضة، والتضاد من حولها مشتعلاً، مما يدلل على المكانة التي شغلتها يوماً ما في حياة العالم القديم الفكرية، لا سيما عند أبناء مدرسة الإسكندرية.

هيباتيا وإشكالية ملاك الحقيقة المطلقة

على غير عادة كتاب السير الذاتية، يعن لنا أن نتساءل أول الأمر: وفي حال هيباتيا بنوع خاص قبل البحث في جذورها وأصولها، عن الحقيقة المطلقة، وهل هناك من يملكها على نحو أو آخر؟

أهمية الجواب أنه يترتب عليه معرفة من لهم اليد العليا في محاسبة البشر، ومحاكمة أفكارهم، لا سيما أن التاريخ الإنساني زاخر بقصص إنسانية توضح لنا مقدار المأساة التي صاحبت التسلط والفوقية الفكرية، الأمر الذي أدى لتقديم كثير من البشر ضحايا فوق مذابح الأصوليات المتطرفة عند غالبية الملل وجل النحل، من القديم إلى الحديث وبغير استثناء.

حكماً تظل مأساة هيباتيا فيلسوفة الإسكندرية، مثالاً مؤلماً لما يمكن أن تجري به المقادير في وقت ما، بين أصحاب الفكر الحر من جهة، ودعاة الجمود الأرثوذكسي بالمعنى العام من ناحية ثانية، تلك المواجهة التي قادت في نهاية الأمر الشابة الفيلسوفة إلى القتل والتمثيل بها بشكل وحشي.

على أنه ربما يتحتم علينا قبل الغوص عميقاً في أبعاد قصة هيباتيا أن نشير إلى أننا نحاول استقراء التاريخ، ومن غير محاباة لجانب، أو محاصصة طائفية أو عرقية لجانب آخر، لا سيما أن الجدل حولها لا يزال قائماً ما بين المؤرخين والكتاب، النقاد واللاهوتيين، ومن هنا حدث تشويش كبير حول الأبعاد الحقيقية لقصة هيباتيا المأسوية.

هنا لا نناقش الخلافات التاريخية على تعدد رواياتها، ولا يهمنا التوقف أمام الاتهامات المتبادلة ما بين أطراف متصارعة لأغراض ومآرب شتى، وإنما جل القصد الوقوف على مأساة الإنسانية التي تدعي امتلاك النور الساطع والحق الكامل، حتى وإن مضى ذلك الادعاء على جثث المختلفين في الدرب، والسائرين في طريق الاجتهاد والإبداع الذهني.

هيباتيا ابنة المدينة الكوزموبولتينية

لا يبدو تاريخ ميلاد هيباتيا ابنة "ثيون" السكندري واضحة أو مؤكدة، فيما يشار إلى أنه غالباً شهدت النور عام 370 ميلادية، في المدينة المعولمة التي أسسها الإسكندر المقدوني، على شاطئ البحر الأبيض المتوسط... الإسكندرية.

المعلومات المتوافرة عن طفولتها شحيحة، غير أن المؤكد هو أنها تلقت القسط الوافر من علومها على يد أبيها الفيلسوف وعالم الرياضيات السكندري "ثيون"، أحد أشهر الفلاسفة الذين عاشوا في منتصف القرن الرابع الميلادي.

تبعت هيباتيا المدرسة الأفلاطونية المحدثة للفلسفة القديمة، ولهذا بدا واضحاً في نهجها الفكري أثر رياضيات أفلاطون وأكاديميته في أثينا.

عطفاً على ذلك تأثرت هيبايتا بفكر الفيلسوف أفلوطين والمولود في صعيد مصر، الذي عاش في القرن الثالث الميلادي، وكان يفضل الدراسة المنطقية والرياضيات على المعرفة التجريبية. ويرى أن للقانون أفضلية على الطبيعة، وقد كانت حياة العقل عند أتباع أفلوطين، تهدف إلى الاتحاد مع الصوفية الإلهية.

الذين أحبوا هيبايتا عبر التاريخ أشاروا في كتاباتهم إلى أنها مثال نادر للفيلسوفة التي جمعت بين علوم وآداب الشرق والغرب، وقد تنوعت مداركها بين الفلسفة والرياضيات، وتتلمذ على يديها مسيحيون ويهود ووثنيون، وينسب إليها صناعة أفضل اسطرلاب لقياس الفلك في زمانها.

أما كارهوها مثل الكاتب والمؤرخ المصري، من القرن السابع الميلادي، "يوحنا النقيوسي" ففي مؤلفه الشهير الذي يحمل اسم Chromele أو "تاريخ مصر والعالم القديم"، ذاك الذي كتبه عام 690م، فيسردون مشهدها كالتالي "ظهرت في تلك الأيام في الإسكندرية فيلسوفة وثنية اسمها هيباتيا، كرست نفسها للسحر في كل الأوقات، وأضلت أناساً كثيرين بخداعاتها الشيطانية".

غير أن الوقوف على ملامح ومعالم مغايرة لهيباتيا، وحقيقة شخصيتها، أمر يستدعي الغوص بعيداً، بل وعميقاً، عن منطقة اشتباك فريقين قريبين لا سيما من المصريين بنوع خاص.

إدوار غيبون وشخصية هيباتيا

لا يختلف أحد على موضوعية وموثوقية المؤرخ الإنجليزي الكبير، إدوار غيبون (1737- 1794)، صاحب العمل الكبير "اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها". يصف غيبون هيباتيا بالقول: "رغم أن هذه العذراء المتواضعة كانت بارعة الجمال، ناضجة الحكمة، فإنها رفضت عشاقها، فالثابت أنها رفضت الزواج من كل من تقدم طالباً الاقتران بها، وظلت عذراء طوال حياتها، وعلمت تلاميذها دروساً رائعة، ولذلك تلهف أشهر الناس مقاماً وجدارة على زيارة تلك الفيلسوفة، التي كانت صحابة شخصية قوية تفرض احترامها على الجميع".

نقرأ عنها كذلك في دائرة المعارف البريطانية ما نصه: "اجتمعت لهيباتيا الفصاحة والتواضع والجمال، مع قدراتها العقلية الممتازة فجذبت عدداً هائلاً من التلاميذ".

أما الكاتب الأميركي المهموم بعلوم الكون والفضاء، كارل ساجان، صاحب المؤلفات المبدعة في هذا الإطار، فقد وصفها بأنها "آخر بريق لشعاع علم بزغ من الإسكندرية".

ولأن هيبايتا قصة عابرة للحدود والأزمنة، فقد بدا واضحاً اهتمام المشتغلين بالفكر بها، شرقاً وغرباً، طوال القرون الماضية، ومن بين هؤلاء نتوقف عند الكاتب الإنجليزي "جون نولاند" (1620-1722)، الذي أصدر عام 1720 كتاباً عن هيباتيا قال فيه: "بحسب النساء اعتداداً بقيمتهن أن تكون بينهن امرأة مثلها في تلك الدرجة من الكمال... ولديهن من بواعث الفخر والاعتداد بقيمتهن أكثر مما لدى الرجال، ومن بواعث الخجل والعار أن يكون من بينهم متوحش لا يرق لمثل هذا الجمال، وذلك الطهر، عطفاً على العلم الرحيب الآفاق".

أما المؤرخ الكنسي "سقراط القسطنطيني" المولود في القسطنطينية نحو 380 ميلادية، فيتحدث عن هيباتيا في مؤلفه "تاريخ الكنيسة" قائلاً: "كانت هناك امرأة في الإسكندرية تدعي هيباتيا، بارعة في تحصيل كل العلوم المعاصرة، مما جعلها تتفوق على كل الفلاسفة المعاصرين لها، حيث كانت تقدم تفسيراتها وشروحاتها الفلسفية، خصوصاً فلسفة أفلاطون لمريديها الذين قدموا من كل المناطق، إضافة إلى تواضعها الشديد لم تكن تهوى الظهور أمام العامة. ومع ذلك فإنها كانت تقف أمام قضاة المدينة وحكامها من دون أن تفقد مسلكها المتواضع المهيب الذي كان يميزها عن سواها، والذي أكسبها احترامهم وتقدير الجميع لها، وقد كان والي المدينة أورستوس في مقدمة هؤلاء الذين كانوا يكنون لها عظيم الاحترام".

يعن لنا أن نتساءل: هل الشهادات المتقدمة تقودنا للحديث عن ساحرة أم عالمة، وهل المساحة الفاصلة بين السياسة والقداسة هي التي جرت عليها ذاك المصير البشع في نهايات أيامها؟

هيباتيا أزمة الصراع بين المقدس والنسبي

تحمل كثير من الروايات التاريخية حول هيباتيا أحاديث عن صراع ما كان دائراً في تلك الأيام بين حاكم الإسكندرية الوثني وكبير القبط أو البطريرك، والمختلف من حوله وهل هو كيرلس أم غيره.

هنا لا يهم الشخص بل الفكرة، فما يذكره النيقوسي هو أن هيباتيا كان لها حضور طاغ عند حاكم المدينة الذي درج على تكريمها إلى أبعد حد لأنها أضلته بالسحر.

غير أن كل الذين عرفوها كانوا يكنون لها الاحترام بمن فيهم حاكم الإسكندرية، كما أن قاعة أكاديمية الإسكندرية كانت تمتلئ عندما تحاضر هيباتيا، وحين تشرح فلسفة أرسطو وأفلاطون بنوع خاص، بل إنها كانت تتجرأ في بعض الأحايين على الخوض في مسائل عميقة يحسبها بعض من اللاهوتيين ضرباً من ضروب النزق الفكري أو الردة عن الإيمان، موضوعات من عينة: من أنا؟ من نكون؟ ما الخير والشر؟ إلى آخر تلك الأسئلة الوجودية دفعة واحدة.

ولعل السطور المتقدمة تقودنا إلى الاقتراب من عمق أزمة هيباتيا والتساؤل: هل دفعت ثمن الصراع بين عبادة الأوثان التي كانت لا تزال قائمة في مصر، والمسيحية التي دخلت البلاد عام 42 ميلادية على يد مرقس الرسول؟

الجواب في واقع الحال يحتاج إلى قراءة تظهر أن المصريين عرفوا طوال عدة آلاف من السنين العشرات بل المئات من الآلهة والأرباب، ولا تزال معابدهم في الكرنك جنوب مصر، وفي مدن أون وهليوبوليس، في تل العمارنة والأشمونين شاهدة عليها.

هنا وفي هذا السياق لم يكن من اليسير أن يختفي تأثير مصر الفرعونية، حتى وإن أقبل جل المصريين على اعتناق المسيحية وبخاصة في المدن الكبرى مثل الإسكندرية التي كانت حافلة باليونانيين، وهؤلاء لهم آلهتهم ومعابدهم المقدسة، فيما كان الرومان هم حكام مصر الفعليين بأشكال مختلفة وبقايا كثيرة للأوثان التي كانوا يدينون لها بالولاء، وذلك قبل أن يصدر الإمبراطور قسطنطين، ابن الملكة هيلانة، ما عرف عام 313 ميلادية باسم "مرسوم ميلانو"، الذي أعلن فيه حياد الإمبراطورية الرومانية تجاه شؤون العبادة، ما أزال العقبات أمام ممارسة المسيحيين طقوسهم وشعائرهم، وكذا الأمر بالنسبة إلى الديانات التقليدية الأخرى لا سيما اليهودية.

لم يكن الإمبراطور يعني بالضرورة تغيير العقليات التي درجت على عبادة فينوس، والتشفع بـ"جوبيتر"، أو الاستنجاد بـ"مارس" إله الحرب، إلى آخر المنظومة، وإنما عنى مزيداً من التسامح والتصالح في داخل إمبراطوريته.

هل كانت هذه الأجواء بين من يرون أنهم أصحاب الفكر المقدس الجديد، والذين ظلوا على دين آبائهم وأجدادهم، وبخاصة من الفلاسفة القدامى، هو السبب في مصير هيباتيا المظلم؟

هل هيباتيا ضحية صراعات سياسية؟

وجهة نظر أخرى في مسألة النهايات الصعبة التي آلت إليها حياة هيباتيا، والتي لم يصل إلينا سوى شذرات عن فاجعة مقتلها، ولم تشر المصادر الأولية بإصبع اتهام مطلق لبطريرك الإسكندرية كيرلس في ذلك الوقت.

في كتابه "تاريخ الكنيسة"، يخبرنا المؤرخ "سقراط القسطنطيني"، بأن: "هيباتيا سقطت ضحية للغيرة السياسية التي سادت في ذلك الوقت لأنها كانت تقابل أورستس كثيراً وشاع بين عامة المسيحيين أنها هي التي تمنع أورستس عن مصالحة البطريرك، وبسبب هذه الغيرة أسرع بعضهم وعلى رأسهم قارئ (شماس داخل الكنيسة) يسمى بطرس، وهي في طريقها لمنزلها وجروها من مركبتها وأخذوها لكنيسة تسمى قيصرون حيث جردوها تماماً من ثيابها ثم قتلوها ومزقوا جثتها إلى قطع، ثم أخذوا أطرافها المهترئة إلى مكان يدعى سينارون وأحرقوها".

يقر القسطنطيني بأن هذه القضية جلبت الخزي والعار لا على البطريرك كيرلس فحسب، بل على الكنيسة القبطية بأجمعها، لا سيما أن القتل بعيد كل البعد عن روح المحبة التي تقوم عليها المسيحية، وقد حدث ذلك في مارس (آذار) في السنة الرابعة لبطريركية كيرلس أي سنة 415 ميلادية.

في الفصول السابقة من مؤلفه يشير المؤرخ عينه إلى أمرين مهمين:

الأول: هو زيادة عنف الرعاع، هؤلاء الذين يجدون منفذاً وربما متنفساً لهم في أعمال الشغب، حيث تيسر لهم السرقة والنهب والخطف، مما يسمح لهم بمواصلة حياتهم كما المعتاد.

الثاني: هو زيادة الشقاق والفراق بين البطريرك كيرلس وحكم مدينة الإسكندرية أورستوس.

ويكتب سقراط بعبارة واضحة فيقول إن "عامة الشعب الإسكندري، كان يسعد بالشغب عن أي شعب آخر، ففي أي وقت تسنح له الفرصة يندفع بطريقة مفرطة ومبالغ فيها، ولا يتوقف إلا بعد أن تراق الدماء".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الرؤية الكنسية لمقتل فيلسوفة الإسكندرية

تقتضي الموضوعية أن نتوقف عند رؤية الكنيسة المصرية لما حدث في القرن الرابع الميلادي، سيما أن كثيراً من أصابع الاتهام تشير إلى أن بطريرك القبط كيرلس هو المسؤول الأول عن تلك المأساة... ماذا عن ذلك؟

الدفاع الذي نجده في كتابات أشياع الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، أن المؤرخين الغربيين هم الذين أرادوا إلصاق هذه التهمة بالبطريرك كيرلس لدوافع سياسية ومنها الوقوف في وجه البابا لاون بابا روما.

تقول وجهة نظر هؤلاء، إن الوالي أورستس كان متحيزاً ضد الكنيسة القبطية وقد جمع كل التيارات التي هي ضد الكنيسة (اليهود، والوثنيين، وفلاسفة الإسكندرية) كي يسقط الكنيسة، ويسقط البطريرك كيرلس لذلك تحالف مع "هيباتيا".

تشير أصابع الكنيسة القبطية إلى أن هيباتيا هي من أعاد إحياء الفلسفة الرواقية الحديثة في الإسكندرية، التي لم يعد لها مراكز عدة حول العالم، كما أنها كانت تعلم ضد المسيحية صراحة في محاضراتها وتحث الشباب الوثني على العنف ضد المسيحية، كما كانت تعلم أيضاً من كتاب يسمى "ضد الجليليين" (الجليليين هم أتباع المسيح)، لمؤلفه "يوليانوس الروماني".

كانت الأفلاطونية الحديثة تتضمن طقوساً وثنية مصرية قديمة، وصارت تمارس في معبد السيرابيوم، كما كان البابا كيرلس يرد على أفكارها ضد المسيحية، وحتى حدثت المذبحة التي قام بها اليهود، وصارت أعمال شغب قام بها الوثنيون من خطف المسيحيين في الشوارع وذبحهم مما أدى إلى احتقان الشارع من جديد، خصوصاً بعد أن استطاع البطريرك كيرلس أن يستصدر أمراً من الإمبراطور بإبعاد اليهود عن المدينة، فأثار ذلك الوثنيين الذين شعورا بإمكانية طردهم أيضاً، فقاموا بأعمال شغب عديدة، ووصل الاحتقان بأن اندفع مجموعة من المسيحيين وقاموا بخطف "هيباتيا"، وجروها خارج منزلها، وقاموا بتشريح جسدها بشقف الخزف، حتى لفظت أنفاسها.

ولعله باختصار القول، فإن أتباع الكنيسة القبطية الأرثوذكسية حتى الساعة يدفعون بأنه بسبب قلة عدد المؤرخين الذين كتبوا في هذا الموضوع، وبسبب أيضاً الحقد على الكنيسة المصرية، ظل كثيرون يرددون أن البطريرك كيراس هو المتسبب في قتلها.

ويذكر هؤلاء أن الصحوة التي جرت في القرن الـ17 الميلادي، وفي جامعة كامبريدج البريطانية بنوع خاص، التي عمقت اتهام كيرلس بقتل هيباتيا، إنما مرجعها تأسيس جماعة لإحياء الأفلاطونية المحدثة مرة أخرى، وقد استغلوا هذه الحادثة الدموية للترويج لأنفسهم، وسردوا مقتل هيباتيا كنموذج لاضطهاد المسيحية للفلسفة.

وعند هؤلاء أيضاً أنه مما ساعد على تشويه صورة القبط وكيرلس كبيرهم، أنه في ذلك الوقت اجتاحت أوروبا موجة من التنوير العلماني المغرق في الظلامية إن جاز التعبير، عطفاً على نشوء وارتقاء مزيد من الجماعات الماسونية، تلك التي كانت تتحرك في عموم أوروبا بصورة موازية، وقد اجتمع هؤلاء وأولئك على قصة هيباتيا بوصفها دليلاً على ضرورة محاربة الفكر الديني والإيماني، وقد أضافوا على قصتها مزيداً من الأمور الشائنة، في سعي واضح لتوجيه اتهامات مبطنة للمسيحية بشكل عام، وإيضاح كيف أن المسيحيين وكنائسهم ملوثة أياديهم بدماء الوثنيين، وإلى الآن يرددون هذا بقوة.

هيباتيا وظلالها على عالمنا المعاصر

تكاد قصة هيباتيا تلقي بظلالها على عالمنا المعاصر، لا سيما في العقود الأخيرة التي تصاعدت فيها موجات المد الديني اليميني، أولئك الذين اعتبروا أنفسهم أصحاب "الحق الإلهي" المطلق، وقد تابع العالم كيف ذبحوا وأحرقوا وقتلوا بغير وازع أو رادع.

إنه نفس ما جرى مع هيباتيا، حيث المتطرفون دينياً غلبت لديهم توجهات القوة، فقاموا بقتل شابة مفكرة صاحبة طروحات وشروحات مغايرة لهم، وكان القلم يواجه بالرصاص.

غير أن هؤلاء فاتهم أن أفكار هيباتيا وفلسفتها لم تمت بموتها، حتى لو كان الذي وصلنا عنها قليلاً، إذ أحرق الغوغاء كافة كتبها ومخطوطاتها، كي لا يبقى لها أثر في عقول الناس، أو هكذا توهموا.

قضي على هيباتيا على أمل أن تموت أفكارها، غير أن مراجعة كثير من الأفكار بعد 16 قرناً، تفتح أبواب القبول العقلي لما كانت تقول به في كثير من أحاديثها لا سيما عن علم الفلك، الذي اعتبره القاصرون عن الفهم ضرباً من ضروب الكهانة الوثنية القديمة، بالضبط كما سيحدث مع غاليليو بعد أكثر من ألف عام من مولدها ومن ثم موتها المليودرامي.

غير أن هيباتيا بموتها المأسوي، دفعت مهراً كبيراً جداً للإنسانية الساعية في طريق التنوير الحقيقي لا المزيف، وقد سعى سعيها لاحقاً عدد كبير من رواد التضحية البشرية، في مواجهة أصحاب الإفك، مثل جان دارك، وراشيل كوري، شهيدات التطرف الدوغمائي، واللاتي فتحن الطريق واسعاً أمام المرأة ودورها بنوع خاص في مسيرة الإنسانية المستنيرة.

قصة هيباتيا تخبرنا بأنه تحت جلد كل دوغمائي وليس أيديولوجي فقط يقبع إرهابي، ينتظر لحظة التمكن التي تتحدث عنها الجماعات الأصولية للانطلاق في طريق الذهنية الأحادية، وإقصاء الآخر، بل أكثر من ذلك، أنها تضعنا أمام حقيقة العنف المستخلص من الأديان والمعتقدات حال "لي عنقها"، الأمر الذي يجعل القتل وسفك الدماء أمراً مرغوباً ومحبوباً.

قصة هيباتيا كانت إنذاراً سابقاً، لفكرة "موظفي الله" الحاكمين باسمه، وبتوكيل منحول لا ريب فيه.

المزيد من تحقيقات ومطولات