ملخص
تبدو بوصلة الرئيس الأميركي جو بايدن لا تعرف عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط إلى الآن.
كانت الحجة الأساسية التي ساقها الرئيس الأميركي جو بايدن في السياسة الخارجية هي أن انخراطه المستمر مع الحلفاء الدوليين يمكن أن يؤدي إلى نتائج أفضل للولايات المتحدة من السياسة الأحادية لسلفه دونالد ترمب، لكن اندلاع الحرب بين إسرائيل و"حماس" يشكل اختباراً لهذا الطرح في ظل أصعب الظروف، فما الذي يستطيع وزير الخارجية أنتوني بلينكن أن يفعله لتأكيد أو نفي هذه الحجة في جولته الحالية بالمنطقة؟
بعد تصريحات بلينكن الداعمة لإسرائيل بشكل غير مسبوق وسط مشاعر الصدمة التي تعيشها حليفة واشنطن الاستراتيجية منذ عقود طويلة، تنتظر وزير الخارجية الأميركي مهمة صعبة في دول عربية عدة حليفة أيضاً للولايات المتحدة في لحظة هي الأكثر حساسية في الشرق الأوسط منذ عقود، وهي مهمة تتطلب دبلوماسية عالية المستوى لإحداث التوازن المطلوب الذي يحافظ على الحلفاء ولا يقسمهم.
يحمل بلينكن على ما يبدو حقيبة متخمة بالمعضلات، إذ سيحاول فتح طريق للأمام للتفاوض في شأن أزمة الرهائن لدى "حماس"، ويسعى إلى منع فتح جبهات أخرى ضد إسرائيل عندما تبدأ هجومها البري لاقتلاع الحركة الفلسطينية من قطاع غزة، مع التنسيق لضمان توصيل المساعدات للفلسطينيين وعدم الإضرار بالمدنيين خلال الهجوم المرتقب، فعلى رغم سوء الأمور في القطاع خلال العقدين الماضيين التي كانت فظيعة للغاية، فإن الأسابيع المقبلة قد تكون أسوأ.
وبالنظر إلى حيوية الدور الأميركي وصعوبته، فإن الأمر قد يتطلب أيضاً توضيح الدور الذي تتصوره الولايات المتحدة لنفسها مع حلفائها ومع إيران في الوقت نفسه، فضلاً عن محاولة رسم خريطة طريق لما يمكن أن تقدمه واشنطن لإحلال السلام بعد هذه الحرب، والإجابة عن السؤال الصعب حول من يمكن أن يحل محل "حماس" في غزة، وهو السؤال الذي لا تملك واشنطن وتل أبيب أي إجابة علنية له حتى الآن.
وفي حين أن هناك نظرية شائعة تقول إن الإسرائيليين لا يقدمون تنازلات إلا بعد تعرضهم للهجوم، مثلما فعلوا بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، عندما توصلت إسرائيل إلى اتفاق سلام مع مصر مقابل التخلي عن شبه جزيرة سيناء بأكملها، يساور الحلفاء العرب الشكوك عما إذا كانت تل أبيب مستعدة لتقديم أية تنازلات، إذا نجحت في محو وجود "حماس" في قطاع غزة.
حماية المدنيين
وفي حين تمثل حماية المدنيين الفلسطينيين في غزة وإيصال المساعدات الإنسانية والحاجات الضرورية لهم مسألة ملحة وأساسية من قادة الدول العربية التي يزورها بلينكن خلال جولته، فإن الاختبار الذي يواجه وزير الخارجية الأميركي وسياسة بايدن الخارجية في المنطقة هو كيف للبيت الأبيض أن يمنح إسرائيل ضوءاً أخضر لشن هجوم بري كاسح، من المحتمل بشكل واسع أن يزهق حياة مئات المدنيين الأبرياء، بينما لم يحث بايدن إسرائيل بشكل مباشر على ممارسة سياسة ضبط النفس في عملياتها العسكرية المستمرة ضد "حماس"، واكتفى بدعوتها إلى الحذر وأن تتصرف وفقاً لقانون الحرب.
ففي حين اعترف مسؤولو البيت الأبيض بأن تحذيراً خفياً كهذا بأن الولايات المتحدة لم تمنح إسرائيل تفويضاً مطلقاً لتجاهل الخسائر في صفوف المدنيين أثناء سعيها إلى تحقيق أهدافها العسكرية في غزة، يخشى كثر من أن إدارة بايدن لن تتدخل لوقف مذابح المدنيين إلا بعدما تحقق تل أبيب جزءاً كبيراً من أهدافها المعلنة في الأقل، وهو ما قد يشعل الاحتجاجات في منطقة الشرق الأوسط والعالم، ويعطي إشارة سلبية للشعوب بأن الولايات المتحدة لا تأخذ في حسبانها مواقف ومشاعر حلفائها.
وإذا كان القادة والمسؤولون العرب سيدفعون بأنه لا ينبغي تصور أن القوة العسكرية الساحقة قادرة على حل مشكلة تاريخية وسياسية بالغة التعقيد كالقضية الفلسطينية، وينصحون بعدم الاستمرار في تجاهل أو تأجيج المظالم الفلسطينية، حتى لو أثارها أشخاص احتفلوا بمقتل الإسرائيليين، فإن الأميركيين يشعرون تحت وطأة الصدمة في إسرائيل أن الأمر يتجاوز قدرة وإرادة حكومة بنيامين نتنياهو الحالية، وأن معالجة هذه الأمور ستتطلب تغييراً عميقاً من كلا الجانبين.
رهان التحالفات
وفيما نجحت سياسة التحالفات الأميركية لإدارة بايدن في قضايا عدة، بما في ذلك التعامل الأميركي مع حلف الناتو عقب الهجوم الروسي على أوكرانيا، بحسب ما يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة ديوك بيتر فيفر، إلا أنه مع اندلاع أزمة جديدة في الشرق الأوسط فإن أكبر عقبة دبلوماسية أمام بايدن لن تتمثل في حشد الدعم الدولي لإسرائيل أثناء بدء عملياتها العسكرية في غزة، وإنما في التحدي حول كيفية طمأنة إسرائيل وفي الوقت نفسه إرسال رسالة صارمة لا لبس فيها إلى "حماس" وإيران من دون أن تؤدي إلى تصعيد في هذه الأزمة، وذلك وفقاً لعميد كلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة جيمس شتاينبرغ.
وبحسب شتاينبرغ الذي شغل منصب نائب وزير الخارجية في إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما ونائب مستشار الأمن القومي في إدارة بيل كلينتون، فإن المهارة الحقيقية للدبلوماسية الأميركية يجب أن تظهر هنا، وهي عدم تقويض رسالة الردع والدعم القوية لإسرائيل، مع اكتشاف طريقة لنزع فتيل الأزمة، لأنه من الممكن أن يزداد الأمر سوءاً، وقد يتسع النزاع بشكل قد تمتد نيرانه بعيداً.
لكن المحلل السياسي في صحيفة "أتلانتيك رونالد براونشتاين" يعتبر أن هذه الأزمة الجديدة ستختبر بايدن وبلينكن على أرض صعبة للغاية في ظل الشراكة غير المستقرة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إذ يجب على الرئيس الأميركي التوفيق بين عديد من الأهداف وهي دعم حكومة نتنياهو، ولكن أيضاً احتمال تقييده، مع تجنب حرب أوسع نطاقاً والحفاظ على هدفه الطويل المدى المتمثل في تحقيق الانفراج السعودي - الإسرائيلي.
نهاية الوهم
غير أن هجوم "حماس" الصادم على إسرائيل من المحتمل أن يحدث تغييراً استراتيجياً في السياسة الخارجية الأميركية حيال المنطقة، فقد كان هذا الهجوم سبباً في التعجيل ببداية ونهاية أمرين في الشرق الأوسط، بداية حرب دموية مكلفة قادمة لا يمكن التنبؤ بمسارها ونتائجها إلى حد مؤلم، ونهاية الوهم بأن الولايات المتحدة قادرة على تخليص نفسها من منطقة الشرق الأوسط التي هيمنت على أجندة أمنها القومي خلال الأعوام الـ50 الماضية.
ووفقاً لمديرة برنامج السياسة الخارجية بمعهد بروكينغز في واشنطن سوزان مالوني، فإن الفشل في بناء الدولة في كل من أفغانستان والعراق سبب خسائر فادحة في المجتمع والسياسة الأميركيين واستنزف ميزانية الولايات المتحدة، وبعد نحو ربع قرن من الانغماس في المنطقة أدرك الرئيس جو بايدن أن التشابكات الأميركية في الشرق الأوسط تصرف الانتباه عن التحديات الأكثر إلحاحاً التي تفرضها القوة العظمى الصاعدة للصين وقوة روسيا المتمردة والواهنة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وابتكر البيت الأبيض استراتيجية خروج مبتكرة من المنطقة، من شأنها أن تسمح لواشنطن بتقليص وجودها واهتمامها في الشرق الأوسط مع ضمان عدم ملء بكين الفراغ، ومع جهود ومحاولات تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية كأهم حليفين للولايات المتحدة، سعت الإدارة إلى تخفيف التوترات مع إيران، لكنها بعد أن حاولت وفشلت في إحياء الاتفاق النووي لعام 2015 تبنت واشنطن خطة بديلة من الحوافز والتفاهمات غير الرسمية على أمل أنه مقابل بعض المكافآت الاقتصادية المتواضعة، يمكن إقناع طهران بإبطاء عملها في برامجها النووية والتراجع عن استفزازاتها في جميع أنحاء المنطقة.
وجاءت المرحلة الأولى في سبتمبر (أيلول) الماضي مع اتفاق أدى إلى إطلاق سراح خمسة أميركيين محتجزين في السجون الإيرانية، ومنح طهران إمكانية الوصول إلى ستة مليارات دولار من عائدات النفط المجمدة سابقاً، مع تعزيز عجلات الدبلوماسية بصادرات النفط الإيرانية ذات المستوى القياسي، التي أصبحت ممكنة بفضل تغاضي واشنطن عنها بدلاً من فرض عقوباتها الخاصة عليها.
العيب القاتل
محاولة إدارة بايدن للهرب السريع من الشرق الأوسط كانت تعاني عيباً قاتلاً واحداً وهو إساءة فهم الحوافز المقدمة لإيران، إذ لم تكن التفاهمات غير الرسمية وتخفيف العقوبات كافية لتهدئة طهران ووكلائها، الذين لديهم تقدير قوي ومختبر عبر الزمن لفائدة التصعيد في تعزيز مصالحهم الاستراتيجية والاقتصادية.
كان لدى القادة الإيرانيين رغبة جامحة في منع حدوث انفراجة سعودية إسرائيلية وتوسيع الضمانات الأمنية الأميركية للرياض وتطوير برنامج للطاقة النووية المدنية.
ولأن طهران مولت ودربت "حماس" وغيرها من الجماعات الفلسطينية المسلحة، ونسقت معهم بشكل وثيق في ما يتعلق بالاستراتيجية، فضلاً عن العمليات، بخاصة خلال العقد الماضي، يصبح من غير المتصور أن تنفذ "حماس" هجوماً بهذا الحجم والتعقيد من دون بعض المعرفة المسبقة والدعم الإيجابي من القيادة الإيرانية.
رائحة الضعف
وعلى رغم أنه قد يبدو من غير الحكمة أن تحرض إيران على اندلاع نزاع بين الإسرائيليين والفلسطينيين من شأنه أن يقوض بلا شك أي احتمال لذوبان الجليد بين واشنطن وطهران، فإنه منذ الثورة الإيرانية عام 1979 استخدمت طهران التصعيد كأداة سياسية مفضلة وتحقيق ميزة تكتيكية، بعدما اشتمت طهران رائحة الضعف من التوسلات والمصالحات التي قدمتها إدارة بايدن، وأدركت رغبة واشنطن اليائسة في التخلص من أعباء حقبة 11 سبتمبر، حتى لو كان الثمن باهظاً.
ومن المرجح أيضاً أن الاضطرابات الداخلية في كل من الولايات المتحدة وإسرائيل فتحت شهية القادة الإيرانيين، الذين كانوا على قناعة منذ فترة طويلة بأن الغرب يتحلل من الداخل ولهذا السبب، ظلت طهران ملتزمة علاقاتها مع الصين وروسيا في إطار روابط مدفوعة في المقام الأول بالاستياء المشترك من واشنطن.
وشجعت الروابط الوثيقة بين الصين وإيران وروسيا على اتخاذ موقف إيراني أكثر عدوانية، لأن الأزمة في الشرق الأوسط التي تشتت انتباه واشنطن والعواصم الأوروبية ستنتج بعض الفوائد الاستراتيجية والاقتصادية لموسكو وبكين.
نطاق الحرب
ومع بدء الحملة البرية الإسرائيلية في غزة من غير المرجح أن يستمر الصراع هناك، والسؤال الوحيد بحسب سوزان مالوني هو ما مدى نطاق وسرعة توسع الحرب، ففي حين يركز الإسرائيليون على التهديد المباشر ولا يرغبون في توسيع الصراع، فإن الخيار قد لا يكون لهم، وقد شارك "حزب الله"، الحليف الأكثر أهمية لإيران، بالفعل في تبادل إطلاق النار على الحدود الشمالية لإسرائيل.
لكن على رغم أن التهديد بحرب أوسع نطاقاً لا يزال حقيقياً، فإن هذه النتيجة ليست حتمية، فقد أتقنت الحكومة الإيرانية تجنب الصراع المباشر مع إسرائيل، ومن المناسب لأهداف طهران، وكذلك أغراض وكلائها الإقليميين ورعاتها في موسكو، إشعال النار مع الابتعاد عن النيران.
وبالنسبة إلى إدارة بايدن يتفق كثير من المراقبين على أنه حان الوقت للتخلص من العقلية التي شكلت الدبلوماسية السابقة تجاه إيران والتخلص من أوهام التوصل إلى هدنة مع النخبة الحاكمة هناك، إذ لن يؤدي التواصل الدبلوماسي الأميركي مع المسؤولين الإيرانيين إلى ضبط النفس الدائم من جانب طهران.
وتحتاج واشنطن إلى نشر نفس الواقعية المتشددة تجاه إيران التي أسهمت في توجيه السياسة الأميركية الأخيرة تجاه روسيا والصين، من خلال بناء تحالفات من الدول الراغبة في زيادة الضغط وشل شبكة التحالفات الإيرانية العابرة للحدود الوطنية، وإعادة التنفيذ الهادف للعقوبات الأميركية على الاقتصاد الإيراني، وتوضيح أن الولايات المتحدة مستعدة لردع العدوان الإقليمي الإيراني والتقدم النووي.