ملخص
"شجرة العائلة" أشبه بصندوق يحتفظ بالنسب ويوثق أصول العائلات وتدرجها بكتابة أسماء الأجداد والأحفاد على امتداد مئات السنين
لطالما عمل "الصندوق الأسود" المخبأ في جسد الطائرة كاتماً لأسرار طاقمها، والمحافظ الوحيد على مجريات الرحلة الجوية، وكما تلهث الفرق الفنية للوصول إليه حين سقوط أية طائرة لمعرفة تفاصيل أكثر، فإن السوريين المكلومين بعد انطفاء جذوة نار الحرب أخذوا ينفضون الغبار عن وثائقهم القديمة، ومنها "شجرة العائلة"، التي تعد أشبه بصندوق أنساب يوثق أصولهم، وتدرجها بكتابة أسماء الأجداد والآباء والأحفاد على امتداد مئات السنين.
إسعاف سريع
وبين أوراق عتيقة صفراء اللون ينشغل طبيب سوري بإسعاف ومعالجة من نوع آخر، هو يرمم جراح أوراق "أكل عليها الدهر وشرب" كمن يطبب جسداً خائراً، ومثخناً بالجراح، هكذا يتعامل مع مخطوطات غارقة بالقدم متآكلة وممزقة حتى تتعافى وتعود مبصرة النور مجدداً كما كانت كسابق عهدها.
شجرة العائلة، إحدى أبرز الوثائق التي درج الطبيب وخبير ترميم المخطوطات، محمد خواتمي على إعادتها للحياة بعد تعرضها للتمزق، نتيجة قدمها أو إصابتها بحوادث الحرب والزلزال المدمر.
وفي بيت قديم مؤلف من أربع غرف تفوح منها رائحة تراث مدينته حلب، اصطفت في صالة الاستقبال وهي الردهة التي تتصل بغرف متفرعة، منها مشغل لترميم المخطوطات يضم كراسي مصنوعة من الخيزران وأمامها أدوات قديمة يستخدمها أهل البيت كطربوش أو بابور كاز (آلة صغيرة تستخدم بالمطبخ)، مع لوحات فسيفسائية تروي حكايات وجوه أشخاص.
ومع وصولك إلى غرفة مشغل الترميم يمكنك أن تشاهد الجدران التي تحتضن مخطوطات معلقة ومحفوظة بإطارات زجاجية، وهي عبارة عن وثائق قديمة في غاية الأهمية، عكف خواتمي على مداواتها وإظهارها بحلة أفضل، تعود للفترة العثمانية المتأخرة، في حوالى عام 1850 ولها قيمة أثرية وتاريخية، ومنها ما يحكي عن علاقات وقفية تجارية للدولة السورية والعلاقات التجارية لماكينات "سينجر" المعروفة، ووثائق وسندات القيد المدني التي كانت تسمى سابقاً التذكرة الشخصية، كما يمكن أن نجد بين المخطوطات وثائق عقود الزواج وإيصالات مالية منذ الفترة العثمانية والعهد الفرنسي.
الترميم وحفظ النسب
من بين الوثائق التي عمل خواتمي على ترميمها كانت "شجرة العائلة"، كونها تحمل أهمية خاصة لدى عائلات تحرص على حفظ تراثها ونسبها وأية وثائق تربط العائلات ببعضها بعضاً، علاوة على كونها تحفظ الأنساب، وتزيد من تماسكها مع اتساع أعداد أفرادها. وأشار خبير ترميم المخطوطات إلى إحضار عائلات عدة وثيقة النسب الخاصة بها، حرصاً منها على عدم ضياعها وكانت بحال سيئة من الاهتراء. ويعتبر خواتمي "شجرة العائلة" وثيقة وطنية بامتياز إذ "تعطي النسب القديم وأصوله، ومكتوب عليها أسماء كثيرة وشرح وتفرعات الأجداد، وفي أغلبها تكون مدونة بشكل أوراق ككتيب صغير أو على شكل ورق كبير من أمتار عدة، من الممكن أن تتآكل على مدى مئات السنوات".
ويرى المتحدث ذاته أن أكثر العائلات حرصاً على الحفاظ على وثائق النسب أو شجرة عائلتها هم الريفيون، أو المتحدرون من القبائل والعشائر العربية، بينما يؤيد أحد المطلعين على الأنساب عبدالسلام قدور ما جاء به خبير الترميم، في شأن العلاقة المتينة بين أبناء العشائر وشجرة النسب. ويقول "ليس خافياً العلاقة المتينة للعشيرة الواحدة وأبناء العم في ما بينهم، ولهذا تحاول القبيلة الحفاظ على هذه الصلة بحفظ النسب ونقله للأجيال المقبلة، على رغم الحرب وتفتت العائلات القريبة، بل حتى ابتعاد العائلة الواحدة عن بعضها عبر هجرة أفرادها، ولهذا من الضروري جداً حفظ النسب. ورأيت شجرة العائلة كثيراً ما تتصدر المضافات العربية في الأرياف والقرى".
الشجرة الرقمية
في المقابل انتشرت شجرة عائلة رقمية عبر مواقع متخصصة بذلك، تحاول البحث إلكترونياً في أصول كل من يبحث عن انتمائه. ويجزم الاختصاصي في هندسة البرمجيات أدموند رحمة بنجاح هذه المواقع بنسبة كبيرة في استقطاب الرواد وتمكنها من إعطائهم نتائج ناجحة قاربت 90 في المئة عن أصولهم الأفريقية أو الأوروبية بناء على مواصفات جينية وبيانات شخصية. وأضاف رحمة أن "هذه المواقع تعتمد على اكتشاف تركيبة الحمض النووي (دي إن إيه) الخاص بلون البشرة وشكل الوجه ولون العيون وغيرها من المواصفات، وبالتالي تعتمد نتائج البحث بالعودة للعرق متيحة الفرصة للوصول إلى حلقة واسعة من الأقارب، ومعها يمكن أن تنشأ شجرة عائلة على الحاسوب ويتم توسيعها بواسطة البحث الرقمي المتاح".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حماية الوثيقة
وإزاء ذلك يواصل خبير المخطوطات محمد خواتمي ترميم أوراق النسب بدقة وحرفية عالية معتمداً على سعيه لمتابعة آخر تطورات العلم، مع اتباعه دورات عالية المستوى، أبرزها دورة أقامتها منظمة اليونيسكو في أرمينيا لخبراء ترميم المخطوطات. ولا يبالغ بحسب قوله باعتبار أن هذه "الشجرة" "وثيقة تاريخية وطنية" وهي "علاقة بين العائلة والوطن وكثير من الآباء والأجداد يحتفظون بأوراق النسب وقيود مدنية لاعتبارات عدة ومنها كونها تشكل وثيقة لمستقبل الأبناء".
ويشرح في الوقت ذاته الطريقة المثلى لترميم الوثائق العائلية وكيفية حفظها واستعادة حيويتها بطريقة جيدة "عبر توثيقها أولاً فوتوغرافياً، ومن ثم تدوين مساحتها والعناصر الموجودة فيها. وإذا كانت الوثيقة عبارة عن كتيب، يمكن تدوين أرقام الصفحات وفهرسته. وبعدها نعمل على تنظيف الغبار وتفكيك المخطوطة إلى صفحات خاصة وغسلها بمياه معقمة وتنظيفها من الغبار، وندخل مرحلة الترميم اللاهوائي ومن ثم غسلها وتجفيفها وإزالة الأتربة عنها عبر القشط بآلة حادة وترميم الفتحات والأماكن المتآكلة نتيجة تخلل الطفيليات أو الحشرات وتراكمها، وذلك عن طريق استخدام الورق الياباني الخاص ’السيلوزي‘ ونغطي الورقات، وبالتالي تربط الأنسجة مع بعضها بعضاً وتحفظ المخطوطة وبهذه الطريقة نكون حافظنا بشكل أكاديمي تام على الوثيقة".
صون التراث المادي
وكان الاهتمام قبل الحرب بالوثائق التاريخية الشخصية ضعيفاً، وكان الاحتفاظ بها أو العناية بأوراقها أمراً بعيداً من اهتمام الناس كما يرى الدكتور خواتمي، ولذلك كان كثيرون ممن يملكون هذه المخطوطات القيمة يجدها ترمى أو توضع بالأقبية. وقال "لقد وجدت كتباً قيمة على حافة الطريق، ومنها ما يباع على بسطات الأرصفة بأبخس الأثمان".
لكن وبعد الحرب بدأت الجهات الدولية والأممية التي تعتني بالشأن التراثي والثقافي بالتدخل، وبدأت تهتم بتثبيت الحالة الوطنية، وأطلقت مبادرة صون التراث المادي. وروى خواتمي أنه خلال الحرب والزلزال تأثرت المنازل والشقق بعد دمارها حيث هبطت الجدران، وتبعثرت المكتبات المليئة بالمخطوطات المهمة ووثائق لا يمكن تعويضها.
وفي حين أن بعضهم حافظ على شجرة العائلة مكتوبة، لكن أطرافها بدأت تتآكل بسبب عمرها الطويل، قال خبير ترميم المخطوطات "كنت أقوم بإعادة إحيائها من جديد وإعطائها حيوية لفترة طويلة، للحفاظ على وثيقة وطنية فائقة الأهمية بالنسب إلى تلك العائلات المهتمة".
وتابع "تراثنا اللامادي هو هويتنا ولكننا بعيدون كل البعد من صون تراثنا بشكل أكاديمي وتقني، وذلك لعدم وجود أدوات تقنية. يلزمنا ذاكرة حاسوبية ضخمة تتسع لكم كبير من المعلومات، وماسح ضوئي متطور بشكل علمي وتقني، نتمنى وجود بنك علمي يفيد الباحثين وطلاب الدراسات العليا، وحافظة للكتب والفنون اليدوية التقليدية والنسب".
وبحث الناشطون والمهتمون بالتراث بين الركام والأحجار على هويتهم وأوراق النسب ليحافظوا على جزء مهم منها، بينما روى الطالب الجامعي براء مارديلي عن مشهد ترك أثراً في نفسه حين عاد وعائلته لمنزلهم من رحلة نزوح قصيرة فلاحظ لهفة أبيه أثناء بحثه بين الأغراض المبعثرة في البيت والتأكد من سلامة ورقة النسب. وأردف قائلاً "هنا أيقنت ما لها من قيمة معنوية بالنسبة للآباء والأجداد، ولعل هذا الموقف زادني إصراراً على الحفاظ عليها، على رغم أن عائلات أعمامي وأولادهم هاجروا إلى أوروبا منذ سنوات مع بداية النزوح وانقطعت أخبارهم إلا قليلاً".
قلة من الناس يحاولون الحفاظ على شجرة العائلة من الاندثار، ولعل ذلك يعود للصعوبات المادية الاقتصادية واهتمام الناس بالواقع المعيشي، وبعدما نالت الحرب من أحوالهم الاجتماعية وتفرقوا "في بلاد الله الواسعة" حمل بعضهم شجرة عائلته معه، كي لا يضيع نسب أولاده في بلدان لا تاريخ لهم فيها.