ملخص
يرى البعض أن اسم غزة أطلق على المدينة بعدما تصدت لكثير من الغزوات على مر العصور وأظهرت خلالها العزة والمنعة والقوة
تعد غزة من أقدم المدن التي عرفها التاريخ، إذ ثمة إجماع في طيات المصادر والمراجع أنها وليدة الأجيال الماضية كلها ورفيقة العصور الماضية، بعدما صمدت لنوائب الزمان بجميع أنواعها وطوارئ الحدثين بجميع ألوانها، حتى إنه لم يبق فاتح من الفاتحين أو غاز من الغزاة المتقدمين والمتأخرين الذين كانت لهم صلة بالشرق إلا ونازلته فإما صرعها وإما صرعته.
التسمية
يقول عارف العارف في كتابه "تاريخ غزة" إن اسم غزة تبدل بتبدل الأمم والأقوام التي مرت عليها، فقد سماها الكنعانيون (هزاتي) والمصريون (غازاتو وغاداتو) والأشوريون (عزاتي)، وقد جاء في المعجم اليوناني أنها أعطيت في العصور المختلفة أسماء عدة، منها إيوني ومينووا وقسطنديا.
وتضاربت الآراء واختلفت التفاسير في معنى كلمة غزة، فهناك من يقول إن هذه الكلمة مشتقة من العزة والمنعة والقوة، ومن القائلين بهذا المؤرخ أوسابيوس في كتابه Onomostica Sacara، ويعلل هذا الفريق قوله بالحروب الكثيرة التي جرت فيها وحولها وصمدت فيها.
هناك من يقول إن معناها الخزانة أو الثروة ويرجع ذلك إلى أصل فارسي، إذ إن (غازا) كلمة فارسية معناها الكنز الملكي، وهناك من يقول إنها يونانية الأصل وإن معناها أيضاً الثروة أو الخزانة، ويعلل هذا الفريق رأيه برواية وردت في كتب التاريخ أن ملكاً من ملوك الفرس دفن فيها ثروته وغاب عنها ثم رجع إليها فوجدها فيها.
أما العرب فقد سموها وما زالوا غزة أو غزة هاشم، وقد جاء في معجم البلدان عند تفسير كلمة غزة "أن العرب تقول قد غزا فلان بفلان واغتز به إذا اختصه من بين أصحابه"، ومعنى ذلك أن الذين بنوها اختصوا هذا الموقع لبنائها من بين المواقع الأخرى الواقعة على حوض البحر الأبيض المتوسط.
أهمية جغرافية
بنيت غزة القديمة على تل يرتفع 45 م فوق سطح البحر ويحيط بها سور يحميها، وقد أنشئت قبل الميلاد بـ3 آلاف سنة، ونمت المدينة وتطورت وامتد عمرانها.
يقول هارون رشيد في كتابه "قصة مدينة غزة" إنه "كان لموقع غزة المتميز على حافة الأراضي الخصبة التي تأتي مباشرة بعد برية سيناء الأثر في وجودها وبقائها وأهميتها، فهي المحطة الطبيعية لكل من الآتين من مصر ووجهتهم الشام، كما أنها المحطة الأخيرة لكل قادم من الشام وجهته مصر، فهي ملتقى القوافل التجارية وغيرها قبل دخول البادية، وفيها يستكملون ما يلزمهم قبل المرور بالصحراء القاحلة التي ستعترضهم في طريقهم إلى مصر".
موقعها الجغرافي أكسبها أيضاً أهمية كبيرة منذ القدم لأنها كانت واقعة على أبرز الطرق التجارية التي تبدأ في حضرموت واليمن، حيث تتجمع تجارة البلاد وتجارة الهند، ثم تسير شمالاً إلى مكة والمدينة والبتراء، ومن هناك إلى فرعين ينتهي أحدهما في غزة على البحر المتوسط وآخر يمتد شمالاً إلى دمشق وتدمر.
زاد موقع غزة أهمية في العصر الحديث بعد إنشاء الإنجليز خط السكك الحديد الذي يربط القنطرة بحيفا، لخدمة أغراضهم العسكرية أثناء الحرب العالمية الأولى، ثم غدا لهذا الخط في ما بعد أهمية اقتصادية كبرى.
أقدم سكانها
كان أقدم من سكن غزة من القبائل الكنعانية هم الأليقيم والعناقيون، كما سكنها معهم بطون من المعينيين اليمنيين الذين رأى بعض المؤرخين أنهم هم الذين أسسوها، وهم أول من ارتادها، فقد كان هؤلاء يحملون إليها بضائعهم وسلعهم التجارية كالطيب والبهار والبخور واللبان فينقلونها عبر الصحراء إلى غزة، إذ كانت هذه أهم فرصة تجارية واقعة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وكانت البضائع والسلع تصرف فيها فإما تستهلك وإما تصدر إلى البلاد المجاورة.
بحسب مصطفى الدباغ في كتابه "بلادنا فلسطين" كانت مصر في مقدمة تلك البلدان، لأن المصريين كانوا يستعملون اللبان والتوابل في طقوسهم الدينية وفي تحنيط أجساد موتاهم.
وبعد هزيمة المعينيين أخذ السبائيون يؤمون غزة بقوافلهم التجارية، وزهت البلاد وشاعت الثروة، ومن أقدم من استوطن غزة العويون ثم الكفتاريون ثم العناقيون، كما استوطنها المديانيون والأدوميون والعموريون والكنعانيون وغيرهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويذهب عارف العارف إلى أن الكنعانيين نزلوا غزة في عهد لا يعرف له تاريخ، ويعتقد السير فلندرس بتري أن قسماً كبيراً من سور المدينة الذي عثروا على بقاياه قرب الجامع القديم أنشئ في عهد الكنعانيين، وأن المنقبين لم يعثروا على حجارة ضخمة بهذا الحجم بعد الكنعانيين.
يضيف أن تاريخ بناء هذا السور غير معلوم بالضبط، وإنما يظن أنه بني قبيل القرن السابع قبل الميلاد، ويستدل على ذلك بقطع الفخار التي عثر عليها الأب فنسان، ففي الطرف الجنوبي من تل العجول عثروا على أطلال مدينة كنعانية كانت على ما يظهر تحت سلطة الهكسوس، وعلى مقابر يعود تاريخ بعضها إلى العصر البرونزي، 4 آلاف قبل الميلاد، وقد كانت تدعى هذه البلاد أرض كنعان وكانت غزة الحد الجنوبي لهذه الأرض.
غزة هدية عرس
قديماً كانت غزة موضع اهتمام جميع الملوك والسلاطين والفاتحين الذين اعتلوا عرش النيل من أيام الفراعنة، إذ كان المصريون أهم عنصر من عناصر السكان الذين استوطنوا غزة على مر الأحقاب لأن الجيوش كانت تعبر الصحراء من مصر إلى سوريا والعكس صحيح، وكان المصريون في زمن السلم أيضاً يؤمونها مستثمرين العيش.
وفي عهد الهكسوس أصبحت غزة عامرة ومزدهرة، ويستدل من الأواني والحلوى الذهبية والكنوز الثمينة التي عثر عليها في قبورهم أنهم كانوا على غاية قصوى من الترف والثروة والبذخ.
أما الفلسطينيون فقد فتحوا غزة من أزمنة غارقة في القدم، ويظن أنها دخلت في حوزتها قبل زمن إبراهيم أي منذ نحو 40 قرناً، وكانت غزة أهم المدن الفلسطينية الخمس التي ذكرها التاريخ وهي غزة وأسدود وعسقلان وعقرون وجات.
ويذكر عارف العارف في كتابه أنها لم تدخل في حكم بني إسرائيل إلا في أيام سليمان الذي اعتلى منصة الحكم بعد أبيه عام 960 -930 قبل الميلاد، ويقال إن فرعون أهداها إلى سليمان في عرس ابنته.
وتعتبر غزة من أمهات المدن الفلسطينية التي وقفت في وجوه الإسرائيليين وأبت الخضوع لحكمهم، فكان عداء وكان خصام وكانت الحرب سجالاً بين الفريقين، تارة تغلب غزة وطوراً تغلب على أمرها، وكان بنو إسرائيل يعتبرون غزة شوكة في جسم مملكتهم، ولذلك وبحسب المراجع حمل عليها أنبياء بني إسرائيل حملة شعواء وصبوا عليها جام غضبهم وتمنوا لها الخراب والدمار.
جاء في الإصحاح الأول من سفر "عاموس 6-7" ما نصه "هكذا قال الرب من أجل ذنوب غزة الثلاثة والأربعة لا أرجع عنه لأنهم سبوا سبياً كاملاً لكي يسلموه إلى آدوم، فأرسل ناراً على سور غزة فتأكل قصورها، وأقطع الساكن في أشدود وماسك القضيب من أشقلون، وأرد يدي على عقرون فتهلك بقية الفلسطينيين".
مركز في الشرق
استولى الأشوريون على غزة في عهد ملكهم بلازر الأول، وكان ذلك في عام 734 قبل الميلاد، ثم جاءها سرغون بجيشه الجرار فأخضعها، وسميت غزة على عهده مارانا أو سيدنا عام 674 قبل الميلاد، ولم يكن الأشوريون يرمون إلى احتلال المدينة نفسها بل طمحوا إلى ما وراءها من البلاد كمصر وليبيا والحبشة والبلاد الواقعة في حوض البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط.
وعند احتلال الفرس غزة اتخذوها مركزاً حربياً لحركات جيوشهم التي أعدوها لفتح مصر، وواصل العرب ارتيادهم المدينة في عهد الفرس كما فعلوا من قبل وثابروا على رحلة الصيف التي اعتادوها وتجارتها التي ألفوها منذ سنين وأحقاب.
أما في زمن الإسكندر فقد أدرك قيمة غزة الحربية والتجارية بعد فتحها فزاد اهتمامه بها، وبعد أن كان غاضباً على سكانها عاد فعفا عنهم وعن الذين هربوا من وجههم وأمر ببناء مساكنهم التي تهدمت أثناء الحرب وإعادتها إلى سالف عزها، ثم أحضر بحسب عادته من اليونان وآسيا الصغرى عدداً كبيراً من اليونانيين ليسكنوها، وأصبحت غزة مركزاً من أهم المراكز في الشرق لثقافة يونانية مزدهرة.
كما كان هيرودوت يحب غزة ويقول عنها إنها مدينة عظيمة، وبعد موته أصبحت مقاطعة رومانية وازدهرت في العلم والتجارة والعمران، وظلت مزدهرة وعاشت حرة مستقلة طوال الحكم الروماني وأطلقوا عليها اسم مينوا.
أحد العروسين
وكانت غزة يوماً ما معقلاً للوثنية، وكان يومئذ فيها ثمانية هياكل للمعابد الوثنية مثل بعل إله الشمس وأفرودت إلهة الجمال وأبولو إله النور، وعندما ظهر الدين المسيحي بالبلاد كان انتشاره في غزة بطيئاً في بادئ الأمر، وحينما ازداد عدد المسيحيين في غزة ازداد الصراع بينهم وبين الوثنيين وأصبح الاصطدام عنيفاً ودام طويلاً.
ووفق العارف، فإن الحياة العلمية ازدهرت في غزة على عهد الوثنية وأن جامعاتها طار صيتها وأصبحت محجاً لطلاب العلم من أثينا وروما، وكان كثر يفدون إليها لدرس فن الخطابة. ولقد دخلت المسيحية مدينة غزة في عهد الدولة الرومانية، ولكنها لم تقو على الانتشار إلا بعد تأسيس الدولة البيزنطية.
وعاش المسيحيون بعد الفتح الإسلامي في غزة وسائر المدن الفلسطينية بأمان واطمئنان إلى أن قامت الحروب الصليبية 1096 ميلادي، كما عاش فيها عمر بن الخطاب ردحاً من الزمن وهبطها أيضاً عبدالله والد النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) يوم خرج في تجارة إلى الشام. وقال عنها النبي محمد "طوبى لمن سكن أحد العروسين غزة وعسقلان".
احتلها العرب سنة 634 ميلادي، وكان احتلالهم لها أول نصر نالوه في هذه الديار وفي هذه المدينة، وكان هناك اصطدام عنيف بين العرب والبيزنطيين. واحتل المسلمون غزة فدخلوها مهللين مكبرين وكان جيش الروم انسحب منها وانسحب معه المسيحيون، إلا أن هؤلاء عادوا إليها فدخل بعضهم في دين الإسلام وقسموا الكنائس مع إخوانهم الذين بقوا على دينهم، فحكم للذين أسلموا منهم وكان عددهم أكثر من الآخرين بالكنيسة الكبرى فاتخذوها مسجداً، واحتفظ المسيحيون الذين بقوا على دينهم وكانوا أقلية بالكنيسة الصغرى.
طردت تشرشل
لعبت غزة دوراً مهماً إبان الحكم العثماني، وكانت معظم الأوقات سنجقاً أو لواء في ولاية الشام، وألحقت لفترة قصيرة بولاية صيدا، وكذلك بمتصرفية ثم ولاية القدس.
وفي زمن الانتداب البريطاني شاركت غزة في مواجهة ومقاومة الصهيونية، وتكونت فيها عام 1920 جمعية إسلامية مسيحية على غرار الجمعيات في باقي المدن الفلسطينية، ويروى أنه لدى زيارة وزير المستعمرات البريطاني تشرشل 1921 وكان في طريقه من القاهرة للقدس فنزل من القطار ومعه هربرت صموئيل المندوب السامي وغيره لتفقد المدينة ومشاهدة آثارها، وقابلهم السكان بتظاهرة صاخبة وهتافات معادية بالحجارة، فحالوا بينهم وبين حضور حفلة أعدها الحاكم في غزة على شرفهم، وعادوا تحت حراسة مشددة، بحسب جاريس في كتابه Arab Command.
وقبل عام 1948 كان قطاع غزة يسمى لواء، إذ كان يشمل ثلاث مدن (غزة والمجدل وخان يونس) و54 قرية، وأخذت قوات الاحتلال الإسرائيلي منه المجدل و45 قرية دمرتها تدميراً كاملاً، أما الذي تبقى بعد 1948 فيمثل الشريط الساحلي، وانحصر في مساحة ضيقة تبدأ من رفح جنوباً إلى بيت حانون شمالاً بمسافة تتراوح بين 40 و45 كيلومتراً شمالاً وبعرض خمسة إلى سبعة كيلومترات.