ملخص
هل تتركز أفلام المخرج الشهير مارتن سكورسيزي حقاً على تمجيد الذكورية والعنف؟
كل ما يفعله مارتن سكورسيزي هو صناعة أفلام عن العصابات وتمجيد العنف وهو يعتقد بأن الأدوار النسائية مضيعة للوقت. أقله، هذا ما تقوله لنا باستمرار زمرة غبية من الخبراء على شبكات التواصل الاجتماعي. كلما طرح فيلم جديد لسكورسيزي في الأسواق - ويسجل هذا الشهر إطلاق فيلمه "قتلة زهرة القمر" Killers of the Flower Moon الذي ينتمي إلى النوع التاريخي القائم على التشويق والإثارة - تتردد الحجج القديمة ذاتها. ألا يصنع غير أفلام رجال العصابات؟ أرجوكم! من بين 26 فيلماً طويلاً أخرجه، قد يصح القول إن نحو ستة فقط تدور حول هذا الموضوع نوعاً ما. هل يمجد العنف والفساد؟ لا يصح ذلك سوى إن كنتم بحاجة أن يلقنكم المرء الرسالة الأخلاقية باستخدام كلمات من مقطع لفظي واحد، كيلا يخيل إليكم بأن شخصية هنري هيل التي لعبها راي ليوتا في "أصدقاء طيبون" Goodfellas (1990) أو شخصية جوردن بيلفورت التي لعبها ليوناردو دي كابريو في ذئب وول ستريت (2013) جديرة بأن تكون مثالاً أعلى.
ولا شك في أن المزاعم القديمة عينها تظهر عن أن أفلامه تجمعات للفتية حصراً. تعرض فيلم الجريمة اللامع، الإيرلندي The Irishman، الذي أخرجه سكورسيزي عام 2019، إلى انتقادات شديدة بسبب قلة الأدوار النسائية فيه، إذ اقتصر الحوار المسند لآنا باكوين على سبع كلمات. تؤدي باكوين في الفيلم دور ابنة الشخصية الرئيسة، وهو قاتل مأجور (يلعب دوره روبرت دي نيرو)، وهي تمثل إجمالاً ضمير الفيلم وسط بحر من انعدام الأخلاق. هي تعرف من أين يكسب والدها قوته ولهذا تحتقره. كل ذلك واضح على وجهها، لكن يبدو أن بعض المشاهدين أرادوا أن تشرح لنا بالكلام كل ما نعرفه أساساً.
بعد مواجهة أحد الصحافيين له عام 2019 بسبب ما اعتبر نقصاً في الشخصيات النسائية في أفلامه، رد سكورسيزي بتبرم "إن لم تستدع القصة وجودها. فهي مضيعة لوقت الجميع". وفسر بعض الأشخاص على الإنترنت هذا التصريح لمارتي بأنه يقول إن الشخصيات النسائية مضيعة للوقت. وأعلن موقع "ماري سو" The Mary Sue المختص بالثقافة الشعبية أن سكورسيزي "يعتقد بأن الشخصيات النسائية قد تنتقص من القصة"، والموقع تواق إلى الشعور بالغضب لدرجة جعلته يتجاهل ما أضافه المخرج الذي قال "إن استدعت القصة وجود شخصية رئيسة نسائية، فلم لا؟".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هل كان على سكورسيزي أن يحاول إقحام شخصية نسائية رئيسة في فيلم "صمت" Silence (2016)، ولو أن أحداثه تدور حول رهبان يسوعيين برتغاليين يمرون بأزمة تمتحن إيمانهم خلال القرن الـ17 في اليابان، البلد الذي كان ذكورياً في حقبة إيدو أكثر مما هو عليه اليوم حتى؟ ماذا لو أضاف شخصية نسائية مشاكسة تساند الدالاي لاما في فيلم "كوندون" Kundun (1997)؟ هل على سكورسيزي أن يتخلى عن مشاريع شخصية جداً لا تسمح طبيعتها الاجتماعية والسياسية أو التاريخية بوجود شخصيات نسائية يمكن تصديق أهمية وجودها في القصة؟
يلخص كاتب في موقع النقد السينمائي "سكرين كوينز" Screen Queens إنتاجه وأعماله بقوله "غالباً ما يشار إلى النساء على أنهن ’ماجنات‘ أو ’عاهرات‘ فيما الرجال هم المسيطرون تماماً. لا يعتبرون النساء بشراً، بل إما شيئاً يمكن استهلاكه والتخلص منه أو جائزة للاستعراض". هذا هراء- ولا سيما أن المثال الذي يذكرونه هو لقطة التتبع الشهيرة في فيلم "أصدقاء طيبون" حين يصطحب هنري زوجته المستقبلية، كارين، عبر الباب الخلفي لنادي كوباكابانا، وعبر الأروقة والمطابخ باتجاه أفضل نقطة في المكان، في مقابل المسرح تماماً. والتفصيل الذي تختار مجلة "سكرين كوينز" ألا تلاحظه هو أن كل هذه الأحداث تعرض من وجهة نظر كارين نفسها. لم يحضر هنري هذا المشهد كاملاً بتفاصيله لكي يستعرض زوجته المستقبلية كأنها جائزة كبرى أمام أعين الآخرين، بل لكي يبهرها بمعارفه ومكانته الاجتماعية. صحيح أن الأبطال الرئيسين الثلاثة في الفيلم ذكور، لكن كارين (وتلعب دورها لورين براكو) ليست مهمشة أبداً، وخلافاً لدي نيرو وجو بيشي، يصاحب براكو تعليق صوتي، ونرى من خلال عيونها الفساد الداخلي في قلب العصابة التي تتزوج أحد أعضائها.
صحيح بأن معظم أعمال سكورسيزي تصور العالم من خلال عيون الرجل. ويعد أول فيلم طويل أخرجه عام 1967، بعنوان "من يطرق بابي؟" Who’s That Knocking at My Door?، بمثابة تجربة لفيلمه "شوارع شريرة" Mean Streets، الذي كان أول فيلم يحقق نجاحاً كبيراً. وهو يروي قصة شاب من نيويورك اسمه جاي آر (هارفي كايتل)، يصارع الذنب والعنف فيما داخله منقسم بين دينه الكاثوليكي من جهة وحياة العصابة التي يعيشها مع أصدقائه من جهة أخرى. ويقول جاي آر "هناك فتيات وهناك ماجنات"، والرجل يحب فتاة لا يذكر اسمها حتى في الفيلم، إذ يشار إليها باسم "الفتاة" التي تلعب دورها زينا بيثون. لكنها تظهر كثيراً في الفيلم وليس من الصعب أن نشاركها شعور الخيبة الذي اعتراها عندما أسرت إلى جي آر بأن صديقها الحميم السابق اغتصبها، فيرفض جاي آر أن يصدق روايتها ويلمح بأنها المسؤولة عن ذلك ويدعوها "عاهرة". لكنها ليست الضحية المستسلمة هنا، بل تتحلى بإرادة وقوة وهي تستخدمها لكي تهجره.
عادت ازدواجية "الفتيات في مقابل الماجنات" التي طرحتها شخصية جاي آر للظهور في "سائق التاكسي" Taxi Driver (1976) من خلال بيتسي "المحترمة" (تلعب دورها سيبيل شيبرد) وأيريس، المومس ذات الـ12 سنة (جودي فوستر). لكنه منظور للنساء من جهة شخصية البطل السلبي التي يؤديها روبرت دي نيرو، وليس نظرة سكورسيزي. كما أنه أخرج قبلها فيلماً بطلته امرأة، وهو بوكسار بيرثا Boxcar Bertha الصادر عام 1972 بموازنة منخفضة للمنتج روجر كورمان. ويوثق الفيلم لجوء بيرثا (باربرا هيرشي التي أدت في ما بعد دور مريم المجدلية في فيلم سكورسيزي الشهير، "الإغواء الأخير للمسيح" The Last Temptation of Christ الصادر عام 1988) إلى الدعارة لكي تستمر بالحياة خلال فترة الكساد العظيم، لكنه يفعل ذلك من دون إطلاق أحكام أخلاقية عليها.
كما أن فيلم "أليس ما عادت تسكن هنا" Alice Doesn’t Live Here Anymore، الصادر عام 1974، فلا يحمل فقط اسم بطلته التي تنطلق في رحلة مع ابنها بعد مقتل زوجها المعنف في حادثة سيارة، لكنه يظل يتبع نظرتها إجمالاً. تلتقي السيدة برجال معنفين آخرين، لكن أحد أكثر العناصر المحببة للقلب في الفيلم هو الصداقة التي تنمو بين أليس وغيرها من النادلات في المطعم الذي تعثر فيه على وظيفة. وأليس ليست نسوية، بل مجرد أم ترملت وتسعى إلى تأمين قوتها والتمسك بأحلام التحول إلى مغنية. فازت إلين بورستين لدورها هذا بجائزة الأوسكار عن فئة أفضل ممثلة.
كما يبدو بأن جماعة "أفلام سكورسيزي خالية من الاستروجين" [الهرمون النسائي] تغاضوا عن فيلمه الهوليوودي الموسيقي الكلاسيكي "نيويورك نيويورك" New York, New York (1977)، بحبكته التي تتداخل فيها الواقعية الاجتماعية، الذي يقسم وجهة نظره بين عازف الساكسوفون جيمي (دي نيرو) والمغنية فرانسين (ليزا مينيللي). يبدأ الفيلم بمشهد تحرش تقليدي لا بد أن تشعر كل النساء اللاتي يشاهدنه بأنه مألوف بشكل مزعج، حين يحاول جيمي التحدث إلى فرانسين والتعرف عليها ولا يقبل بصدها له. لو كان الفيلم من نوع الكوميديا العاطفية، لصور المشهد على أنه لطيف، لكنه هنا ينذر بسلوك سيئ وبسوء معاملة جيمي لزوجته لاحقاً، قبل أن يهجرها ويهجر طفلهما بعد أن غطت مسيرتها المهنية على مسيرته.
ويأخذ موضوع التعنيف الأسري دوراً مركزياً أكبر في فيلم "الثور الهائج" Raging Bull (1980)، إذ يصب الملاكم من الوزن المتوسط جايك لاموتا (دي نيرو مجدداً) ذكوريته السامة على زوجته فيكي (كاثي موريارتي). لكن لا شك في أن أي مخرج أفلام يستخف بالنساء لن ينتقي أبداً ممثلة شخصيتها قوية مثل مويارتي لتأدية ذلك الدور. قد لا تكون نساء سكورسيزي دائماً الشخصيات الرئيسة ولا المحببة، لكنهن لسن شخصيات نمطية أو هامشية. تتلبس سارة بيرنارد دور المعتوهة والمريضة النفسية تماماً عندما تؤدي دور المعجبة التي تختطف مضيف برنامج حواري في فيلم "ملك الكوميديا" The King of Comedy (1982)، فيما يصور فيلم الكوميديا السوداء "بعد ساعات الدوام" After Hours (1985) مجموعة متوحشة من النساء المخبولات اللاتي يغطين على رجولة الرجال. لكن الأهم أن صاحب هذا المنظور هو بول المرتاب (غريفين دان)، وهو موظف في شركة يجد نفسه كالسمكة خارج الماء حين يقصد وسط المدينة كي يلتقي بفتاة تعرف إليها في مقهى. ثم يصبح مطارداً من بائعات المثلجات ونادلات معتوهات.
وهكذا دواليك. في فيلم "عصر البراءة" The Age of Innocence الذي صدر عام 1993 اقتباساً عن رواية إديث وارتون التي تدور أحداثها في أوساط الطبقة المخملية في نيويورك خلال سبعينيات القرن الـ18، يبدو أن البطل هو بيولاند آرتشر (دانييل داي لويس)، المحامي البليد الذي خطب ماي المحترمة (وينونا رايدر) لكنه منجذب إلى الكونتيسة أولينسكا صاحبة الفضائح (ميشيل فايفر) التي هربت من زواج تعرضت خلاله للتعنيف في أوروبا. لكن الصورة تتضح لاحقاً، ونفهم أن السيطرة للسيدتين، من دون علم آرتشر.
وفي فيلم "كازينو" Casino الشهير من عام 1985 الذي أنتجه سكورسيزي عن العصابات وتدور أحداثه في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي في لاس فيغاس، فتكاد شارون ستون تسرق كل القصة والأضواء بدور جينجر، فتاة الاستعراض التي تتحول إلى محتالة. ويخصص فيلم الدراما والجريمة المذهل التركيز نفسه لملابسها الرائعة وخياراتها المريعة في الرجال وسقوطها في هوة الإدمان ولصعود نجم زوجها سام "آيس" روثشتاين (دي نيرو) ومنفذ الأوامر (بيشي) وسقوطهما. تلعب ستون الدور بإتقان- وأداؤها مدهش في الفيلم- وفازت بترشيح لجائزة الأوسكار عنه.
لكن الشخصية النسائية الأقرب إلى تجسيد دور الزوجة التحفة التقليدية في أعمال سكورسيزي هي ناومي، المرأة التي يحبها جوردان بيلفورت في "ذئب وول ستريت". لكن حتى في هذا الدور، تؤدي مارغو روبي في الدور الذي أشهرها كل حواراتها بقوة، فتحول التحفة الشقراء إلى شيء أكبر من ملحق لزوجها الذي يغرق أكثر فأكثر في المجون، إلى شخص يمسك بزمام حياته. على غرار النساء الأخريات في أفلام سكورسيزي، ليست مجرد متعة للعين، بل هي مؤثرة.
في هذه الأثناء، بدأ بالفعل أداء ليلي غلادستون في دور مولي بوركهارت في "قتلة زهرة القمر" يوصف فعلاً بأنه جدير بالترشيح للأوسكار العام المقبل. وفيما تشاركها البطولة شخصيتان ثابتتان في أفلام سكورسيزي هما دي نيرو ودي كابريو، مولي هي التي تقدم قلباً وقالباً نسخة سكورسيزي عن كتاب الجريمة الحقيقي الذي تصدر قوائم المبيعات للمؤلف ديفيد غران. لم يكن الفيلم على هذا الشكل طول الوقت، فقبل الجائحة، ركز السيناريو على أول عميل في مكتب التحقيقات الفدرالي الذي كان يحقق في عمليات اغتيال أعضاء قبيلة "أوساج" Osage في أوكلاهوما خلال عشرينيات القرن الماضي. لكن سكورسيزي والعاملين معه حثوا على إضافة محتوى من شعب الأوساج فتغير التركيز من رواية "المخلص الأبيض" نحو بوركهارت وشقيقاتها وزوجها الأبيض (دي كابريو). وقال عنها سكورسيزي "لا يمكنك الإشاحة بنظرك عنها". فلنضف هذه الشخصية الأخرى إلى مجموعة شخصياته النسائية الفاتنة.
"قتلة زهرة القمر" في دور السينما منذ الـ20 من أكتوبر (تشرين الأول)
© The Independent