ملخص
في الماضي، كانت أشد الأخطار في المكتبات الأكاديمية متمثلة في الزرنيخ المستخدم في أغلفة الكتب القماشية في الحقبة الفيكتورية. أما الآن، تقوم جامعة كامبريدج بمسح مكتباتها بحثاً عن عناوين قد تكون "ضارة". لكن من يمتلك صلاحية تقرير ما الضار وما هو خلاف ذلك؟ وسم الكتب بالتحذيرات: ممارسة ساذجة وضارة
أحياناً تصدر الأفكار السيئة من أماكن جيدة، لكن في بعض الأحيان يكون المكان نفسه سيئاً أيضاً. ما الذي ينبغي أن نستخلصه من المذكرة التي تردد أن مكتبة جامعة كامبريدج أرسلتها إلى الأكاديميين، طالبة منهم تحديد عناوين الكتب التي يمكن اعتبارها "ضارة/مسيئة" وليس فقط "تلك المتعلقة بقضايا إنهاء الاستعمار"؟
الهدف المعلن هو وضع قائمة لمساعدة أمناء المكتبات "الملزمين بالعمل مع مثل هذه المواد" وتمكينهم من "تقديم دعم أفضل للقراء". اللغة المستخدمة في صياغة المذكرة توحي بأنها حريصة على سلامة العاملين في المكتبات والرواد. لكنها تشير ضمنياً أيضاً إلى وجود أخطار غير مرئية بانتظارهم يمكن التحكم فيها بعناية وحذر كبيرين.
من كان يظن أن التعامل مع المكتبات قد ينطوي على مثل هذه الأخطار؟ دعوني أخبركم قصة مختصرة. في عام 2019، انطلق مشروع "الكتب المسمومة" للتعامل مع "الخطر الخفي" في محتويات المكتبات: والمقصود بذلك على وجه التحديد مادة الزرنيخ الموجودة في أغلفة الكتب القماشية من العصر الفيكتوري. يوصي المعهد الدولي للحفظ الموظفين الذين يتعاملون مع مثل هذه الكتب بارتداء قفازات من النايلون المرن والمقاوم وغسل أيديهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كذلك تنصح مكتبة وينترثر في ولاية ديلاوير، التي تقود المشروع، بإزالة الكتب من التداول العام وتحويلها إلى مجموعات الكتب النادرة، وأن يتم تصفحها على أسطح صلبة قابلة للمسح وعدم وضعها على الأثاث اللين، كالأرائك والمساند، حيث قد تتغلغل المخلفات الضارة في أنسجتها.
هناك اختبارات علمية لتحديد كمية رواسب الزرنيخ في أغلفة الكتب، وبروتوكولات متفق عليها للتعامل معها وقاعدة بيانات متاحة للجمهور تدرج النسخ الخطرة. لكن ما هي المعايير التي يمكن استخدامها لقياس محتوى الكتاب – أي أفكاره - حتى يُعتبر "ضاراً/مسيئاً"؟ هل هو تضمنه شيئاً من كراهية النساء؟ قليلاً من العنصرية؟ نفحة من الاستعمار؟ موجة عارمة من العنف؟ ومن يقرر ما هو المحتوى الضار، وضار بمن، وبناء على ماذا؟
منذ سبعينيات القرن الماضي، أُثري الأدب الإنجليزي بشكل كبير من خلال إعادة تقديم كتابات النساء، اللواتي أُسكتت أصوات عديدات منهن لمئات السنين. ظهور الكتّاب السود في مراحل أحدث بدأ يعكس التمثيل غير المتوازن للمجتمع في الثقافة الغربية السائدة. لكن هذه المبادرات تركز على توسيع دائرة القبول. تشكل ثقافتنا هوياتنا، وكلما زاد تنوعنا واختلافنا وتناقضنا وحتى عداؤنا، تضاءلت القيود التي نفرضها على نمونا كبشر بالغين ومتفكرين.
على العكس من ذلك، فإن علامات التحذير ممارسة صبيانية وسخيفة. قيام المكتبات برفض عرض مواد مثيرة للجدل – أو كما هو مرجح، قيام بعض الموظفين بأخذ مهمة "تورية" الكتب المطبوعة التي يعتبرونها مثيرة للمشكلات على عاتقهم – هو أمر مخيف. إن مثل هذه الاتهامات، الهادفة أو العبثية، تتماشى بسهولة مع تضييق اهتمامنا وعدم قدرتنا على التفكير بعمق اللذين يسمان عصر "تويتر"، وتشجع التفكير المبسط المعتمد على تقسيم الأمور إلى أبيض وأسود، أو الغياب التام للتفكير، وتهدد النضج المسؤول والمتعاطف.
في مشهد قرب نهاية رواية "منزل كئيب" Bleak House لتشارلز ديكنز. يحاول السيد غابي، كاتب محاماة، مجدداً الظفر بحب البطلة إيستر سامرسن من خلال إحضار والدته للقائها في منزل السيد جارنديس، الوصي عليها. عندما يُرفض السيد غابي مرة أخرى وبشكل قاطع، تصبح والدته اللطيفة عدوانية وتطالب السيد جارنديس بمغادرة المنزل، قائلة له: "لماذا لا تغادر؟... ما الذي يبقيك هنا؟". يرد السيد جارنديس: "سيدتي المحترمة... من غير المعقول أن تطالبيني بمغادرة غرفتي الخاصة". يشبه هذا إلى حد بعيد الطلب الموجه إلى المكتبات لتصنيف بعض الكتب على أنها "مثيرة للمشكلات".
من المفترض أن مكتبة جامعة كامبريدج قد أرسلت طلبها إلى كل الأكاديميين - إلى علماء الرياضيات والأطباء والفيزيائيين؟ لكن ليس من غير المعقول أن نتكهن بأن ثقل الطلب سيكون مرهقاً أكثر للعلوم الإنسانية، وتلك المواضيع الكتابية مثل التاريخ والفلسفة والآداب القديمة والحديثة، التي يُطلب من معلميها فعلياً، الواحد تلو الآخر، إخضاع أنفسهم لوصاية أخلاقية وسياسية. مثلهم مثل السيد جارنديس، إنهم يواجهون الطرد من منطقتهم الخاصة ــ المتمثلة في هذه الحالة بمساحة للتفكير الدقيق حول تدرجات المعنى والرأي في عالم يتطلب منا ما يتجاوز مجرد الإدانة السهلة أو الإشارة إلى الفضيلة.
كتب والتر سكوت وروبرت لويس ستيفنسون وروديارد كيبلينغ وجون بوكان روايات رومانسية استعمارية حظيت بشعبية كبيرة، ولم تعد رائجة الآن، لكن هل ينبغي علينا إضافتها إلى القائمة تحسباً لعودتها المفترضة؟
ماذا عن رواية "منتزه مانسفيلد" Mansfield Park لجين أوستن؟ أم هل تكفي الإشارة إلى إشكالية الاستغلال الاستعماري في إطار الرواية؟
وبالحديث عن أوستن، كنت دائماً أشعر بالقلق من أحد المشاهد في رواية "إيما" Emma - ذلك المشهد الذي يخبر فيه السيد نايتلي البطلة التي يحمل العمل اسمها، بعد طلب يدها وموافقتها، أنه أغرم بها عندما كانت في الـ13 من عمرها (في ذلك الوقت، كان هو في الـ29)، بينما تطالبه هي، التي وعدته بأن تناديه بالسيد نايتلي دائماً، ممازحة بألا يقع في حب أحدث سكان القرية، وهي طفلة رضيعة، عندما تصل إلى سن الـ13. هل سأقوم بوضع تحذير على المقطع، أو تصنيف العمل ضمن الكتب الخاضعة لحماية خاصة في المكتبة؟
بالطبع لا. لا ينبغي لنا افتراض أننا، عندما تستفزنا قراءة مادة معينة، أنها تعرضنا للضرر أو تصيبنا بعدوى – فاستهجان المحتوى ورفضه ليسا بالضرورة علاجاً للضرر النفسي.
يجب على الجامعات أن تشجع النقاش المفتوح والحر. ولا ينبغي لنا أن نعمل على تأجيج التعصب وعدم تبني وجهات النظر التي نعترض عليها. إن مطالبة الأكاديميين بتصنيف الكتب ضمن مجموعة تحمل وسم "إشكالية" تعني مطالبتنا بالتخلي عن المسؤولية التي تكمن في جوهر الهدف الذي تسعى إليه الجامعات: توفير مساحات تفتح آفاق الأفراد، ولا تحد من تطورهم.
اسمحوا لي أن أقترح بأدب على مبتكري قائمة الكتب الإشكالية في كامبريدج كتاباً ينبغي عليهم قراءته: رواية أمبرتو إيكو الأكثر مبيعاً "اسم الوردة" The Name of the Rose. في قلب عناصرها المتشابكة من الشك والسرية والسلطة تكمن مكتبة دهليزية يحرس القائمون عليها النسخة الوحيدة المتبقية من عمل مفقود طليت صفحاته بالسم ليكون رادعاً إضافياً يحول دون قراءته. كان الكتاب أطروحة أرسطو عن الضحك.
كاثرين ساذرلاند أستاذة فخرية في كلية سانت آن بجامعة أكسفورد.
© The Independent