لم يكن الرسام المغربي الراحل عباس صلادي (1950-1992)، الذي باع أول لوحة فنية له بخمسة دولات في ساحة جامع لفنا في مراكش، يعرف أن إحدى لوحاته ستباع بعد رحيله بنصف مليون دولار، لتكون بذلك أغلى لوحة في تاريخ التشكيل المغربي.
لذلك عملت المؤسسة الوطنية للمتاحف في المغرب، خلال الآونة الأخيرة، على استعادة هذا الفنان النادر، عبر افتتاح متحف التراث اللامادي، بعرض أعماله الفنية لزوار ساحة جامع الفنا في مراكش، المدينة التي ولد وعاش فيها عباس صلادي 42 سنة، هي كل حياته التي اتسمت بالثراء الفني بالرغم من قصرها.
يحمل المعرض عنوان "صلادي الخيميائي" في إشارة إلى العوالم الخاصة التي كانت تتشكل فيها لوحات الفنان المغربي الراحل، بغرائبيتها وأبعادها التراثية والماورائية. وأشار بيان الجهة المنظمة أن الأعمال المعروضة "تأخذنا في رحلة مليئة بالخيال والأحلام"، فيغدو عبرها صلادي قصاصاً "يروي لنا من خلال اللون والصورة، حكايات تنقلنا إلى عوالم غريبة مليئة بالرموز والأشكال المثيرة للدهشة، كأن تمزج الأجساد البشرية بالنبات وكائنات أخرى من وحي خيال الفنان، بينما يستمد الإلهام من هذا المكان الأسطوري لساحة جامع الفنا".
واقترح المعرض تقسيم تجربة صلادي إلى ثلاث مراحل. الأولى تحضر فيها الأعمال التي تنقل واقع الفنان ومحيطه بأسلوب ينحو إلى البساطة، بينما تشمل المرحلة الثانية حضور عنصر التركيب في لوحاته وتأثره بالمنمنمات المشرقية، سواء الفرعونية أو الفارسية. في حين تترجم الأعمال المنجزة في المرحلة الثالثة حالة الاضطراب النفسي لدى الفنان واشتغاله المكثف على الجسد.
يشكل عباس صلادي علامة فارقة في تاريخ الفن في المغرب، ويكاد يكون هذا الفنان الذي غادر عالمنا قبل أكثر من ثلاثين سنة، وهو في عز شبابه، ملتقى المفارقات. فهو لم يتعلم التشكيل في المدارس والمعاهد المتخصصة، وعاش حياة فقيرة وبسيطة جدا، لكنه صاحب أغلى لوحة في تاريخ الفن المغربي، وإن كان لم يحظ بالشهرة التي حظي بها فنانون مغاربة جايلوه أو سبقوه. وهم ليسوا بالضرورة أقل شأناً وموهبة منه، لكنهم لم يصلوا في سوق الأرقام إلى ما وصل إليه. فلوحته الغرائبية "الهدية " بيعت ب 5 ملايين درهم مغربي، أي ما يعادل نصف مليون دولار.
حياة فقيرة وهروب إلى الخيال
كان عباس صلادي ينتحي برفقة شقيقته مكاناً في ساحة جامع الفنا أو في شارع الأمراء في مدينة مراكش، ليعرض لوحاته على العابرين. كانت تلك اللوحات المعروضة على المارة هي طريقته الوحيدة في تحصيل مبالغ بسيطة لشراء الطعام والتبغ. ولم يكن أحد من الذين اقتنوا أعماله بثمن بخس، يدرك أن تلك المقتنيات ستتحول إلى أرقام كبيرة في سوق الفن في العواصم الأوروبية.
في إحدى لوحاته المتداولة على الأنترنت، يبدو عباس صلادي بجلبابه البلدي الأبيض ولحيته السوداء، كما لو أنه فقيه مغربي يحبّر طلسما ما. غير أن وظيفة هذا الفنان كانت ربما هي فك الطلاسم والتماهي معها. فقد كان مولعاً بالغرائبية، كما لو أنه أراد أن يعيش العوالم الغامضة والمبهجة التي وصلت إليه عبر محكيات تراثية متوارثة عن الأجداد، أو مدونة في المخطوطات والكتب القديمة، لا سيما أنه عاش في مراكش المدينة المسكونة بأرواح قادمة من عمق التاريخ، الواقعي أو المتخيل، والصاعدة من أفواه الرواة والحكواتيين في الساحة الشهيرة.
ولد عباس صلادي في مدينة مراكش سنة 1950، توفي والده وهو لا يزال في عامه الرابع، فتكفل به أحد أعمامه ونقله معه إلى مدينة الدار البيضاء. وبين مدينة تعتمد على الحكي وأخرى على المادة البصرية، تشكلت طفولة الفنان المغربي. عمل مع عمه نادلاً في المقهى، وانقطع عن الدراسة لفترة، ثم عاد إليها مستعيناً بالدروس المسائية، وحصل على البكالوريا/ الثانوية العامة، من دون الحضور إلى المدرسة، في سياق الترشح الحر. ثم التحق بالجامعة لدراسة الفلسفة، غير أن اضطرابات نفسية حالت دون أن يواصل دراساته العليا.
كان صلادي ميالا إلى العزلة والهدوء. دخل عالم الزواج، غير أنه لم يمكث فيه إلا سنتين. عرف عنه جنوحه إلى الصمت، لكن صمت صلادي كان يخفي وراءه قسطاً من الأسئلة. فالذي لا يتحدث كثيراً مع الناس يعوض ذلك بحديث مسهب مع نفسه. لقد كان الهاجس الوجودي يشغله على الدوام، فضلاً عن تقاطعاته الدائمة مع خيالاته غير المنتهية. في لوحاته الغرائبية تظهر كائنات عجيبة، عارية أو شبه عارية، برؤوس مسننة، وأقدام رقيقة مدبّبة، تصير أحياناً أغصاناً بورقة واحدة، غالباً ما ترفع نظرها إلى أعلى. وهي كائنات تبدو كما لو أنها قادمة من زمن الفراعنة، أو زمن النبي سليمان، أو من عهود متخيلة، نسمع بها ولا نعرف إن كانت حقيقة أو خيالاً. شخوصه تنتمي إلى عالم الجن والأساطير والأفضية الغامضة والغريية. وحين كان رسّامُها يسأل عن هذه الشخوص كان يقول: "إنني أراها". ولا يمكن إغفال تأثير قراءته على أعماله الفنية، فقد عرف عنه ولعه بالنصوص التراثية القديمة مثل "ألف ليلة وليلة" و"منطق الطير". لقد حاول باستمرار تحويل المقروء التراثي إلى مادة بصرية.
الخوف من الفراغ
في تصريح خاص ب أندبندنت عربية، يقول الشاعر عبد الله زريقة عن علاقة الفنان بالمساحات والفراغ: "أتخيل دائماً صَلَادي مُنكباً على ملء الكثير من أوراق نباتاته أو أجنحة عصافيره بمئات الخطوط الصغيرة والدقيقة، كأنه يحاول أن يملأ أي فراغ موجود من حوله. كانت حركة يده قبل أن يضع خطاً ما، كأنها حركة الوجود نفسه، هو الذي يظل أمام خطوطه هذه ساعات النهار كلها، وربما أثناء الليل أيضاً، جالساً كمتعبد أمام جناح عصفور أو ورقة شجرة، إلى أن ينهد جسده من التعب. لا يتحمل أي فضاء فارغ حتى ولو كان صغيراً جداً، كل شيء فارغ إذا لم يملأه هو بخطوطه اللا متناهية. كان متعلقاً بأرض خطوطه هذه وبالسماء أيضاً، رغم أن سقف غرفته التي يشتغل فيها انهار يوماً، هذا العلو الذي ألَّهَهُ خانه مرة، وتحدث صلدي عن ذلك ضاحكاً، فهو لم يملً من الاعتقاد بأن الأشياء الكبيرة تأتي من هذا العلو الذي قد ينهار يوماً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يرى زريقة أن صلادي كان منقسماً بين عالمين، الأول الذي يعيشه، والثاني الذي يرسمه، غير أنّ إقامته في المكان الثاني كانت أكثر تجذراً وديمومة. يدنو الفنان عموماً من مناطق الاختلاف، التي تبدو للآخر، أنها مناطق اضطرابات نفسية، حين تتسع بالتدريج المسافة بينه وبين واقعه، وتبدو في التناهي تلك المسافة الفاصلة بينه وبين متخيله. لنقل إن عباس صلادي كان مقيماً في الخيال أكثر من إقامته في الواقع.
يتحدث عبد الله زريقة عن هذه التجربة على هذا النحو: "لهذا تكلم كثيراً عن هذه الهبة، هبة شُخوص كبيرة وأسطورية. تحدّث مثلاً عن هذا الشخص التاريخي - كما يقول- الذي سلَّمه ورقاً، أو هذا الشخص الأسطوري الذي أعطاه ثوباً، أو منحوتة امرأة. حتى لو لم يقع كل هذا حقاً، كان يتخيل أن كلَّ ما سُلَّمَ إليه يملكه حقاً، فيحمله في محفظته الكبيرة التي لا يتعب من ملئها بهذه الطريقة، والتي كانت فارغة تماماً".
يضيف صاحب "مقبرة السعادة" في رصده لتجربة عباس صلادي: "لم يتحمل الحياة بلا هذه الهبة، وبهذه الطريقة أتخيله يبحث عن هذه الهبة في كل مكان. لكن كل ذلك يختفي ويتبخر، فيهرع إلى طاولته التي تشبه طاولة نجار، وينكب على ملء هذه الخواءات بتزويقاته اللامتناهية، كما لو أنه يحاول أن يُسَوّي بين هذا الامتلاء وهذا الخواء الذي كان يرعبه حقا. لكن بين يوم وآخر يغير رأيه ، فلا شيء يدوم طويلاً، كل شيء يمكن أن يتحول إلى شيء آخر، حتى العلو يمكن أن يصبح أسفل. لكن شيئاً واحداً يبقى كما هو: هذه الخطوط الصغيرة جدا. ولهذا حين طلبت منه ثلاثة أو أربعة رسوم لديواني "تفاحة المثلث" قام هو بوضع رسم لكل صفحة في الديوان".