ملخص
حتى تيار اليسار التقليدي المؤيد لإسرائيل والمناهض لـ"حماس" يجد نفسه في مأزق أمام مقتل الفلسطينيين
مع استمرار القصف الإسرائيلي على غزة وسقوط الضحايا بالآلاف يتسع نطاق الاحتجاجات الشعبية في الدول الأوروبية بخاصة من مجموعات ضد الحروب وأغلبها من اليسار السياسي في تلك الدول. إلا أن هجوم فصائل المقاومة الفلسطينية على المستوطنات خارج قطاع غزة في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) ومقتل وأسر إسرائيليين من المستوطنين والجنود يجعل اليسار السياسي في الحكم، كما في إسبانيا، في وضع حرج بخاصة أن إسرائيل تعتبر حربها مع حركة "حماس" المصنفة منظمة إرهابية في معظم الدول الأوروبية.
حتى تيار اليسار التقليدي المؤيد لإسرائيل والمناهض لـ"حماس" والإرهاب، يجد نفسه في مأزق أمام مقتل الفلسطينيين بالمئات بخاصة من النساء والأطفال في قصف إسرائيلي لم يوفر المستشفيات ودور العبادة والمدارس ومخيمات اللاجئين. ومع زيادة الاحتجاجات الشعبية في بعض الدول الأوروبية، مثل بريطانيا، مع استمرار الحرب، تتعمق أزمة اليسار الأوروبي الداخلية إلى جانب الشقاق مع اليمين السياسي، بل إن هناك بوادر انشقاقات أيضاً داخل اليمين، وإن كانت أقل حدة من أزمة اليسار.
وفي مقابل جماعات حقوقية ودعاة السلام ومناوئة الحرب التي تضغط لإدانة إسرائيل أو على الأقل المطالبة بوقف لإطلاق النار للحدّ من وقوع الضحايا المدنيين، تنشط جماعات مؤيدة لإسرائيل سواء من منظمات يهودية أو غيرها ترفع تهمة "معاداة السامية" بوجه من ينتقد إسرائيل أو حتى يطالب بوقف إطلاق النار. وتزيد خشية المطالبين بوقف إطلاق النار من اتهامهم بانتهاك القانون وتأييد حركة إرهابية "حماس".
أزمة حزب العمال
في مقابلة مع شبكة "سكاي نيوز" قبل يومين، نفى زعيم حزب العمال البريطاني المعارض السير كير ستارمر أن تكون الخلافات بشأن الموقف من الحرب في الشرق الأوسط تهدد بانهيار الحزب. ومعروف أن ستارمر تمّ اختياره زعيماً للحزب بعد الإطاحة بزعيمه السابق جيرمي كوربن عام 2020 عقب اتهامه بالتغاضي عن انتشار "معاداة السامية" بين صفوف الحزب. وكان حزب العمال بقيادة كوربن أصبح يمثل منافساً قوياً لحزب المحافظين الحاكم. وتتصاعد مشكلات حزب المحافظين منذ عام 2019، وهو ما أعطى فرصة لحزب العمال لتجاوز مشكلاته الداخلية والاصطفاف حول زعيمه الجديد ستارمر.
لكن ذلك التوافق العمالي بدأ في التصدع في الأسبوعين الأخيرين مع معارضة قيادات الحزب من الصف الأول لموقف ستارمر الرافض دعوة وقف إطلاق النار وتوافقه التام مع رئيس الوزراء وزعيم حزب المحافظين ريشي سوناك. ويدعو عمدة لندن صادق خان، القيادي في حزب العمال، وزعيم الحزب في إسكتلندا أنس سروار علناً إلى وقف إطلاق النار في خلاف واضح مع زعيم الحزب كير ستارمر.
ولا يقتصر الشقاق في صفوف قيادات الحزب على خان وسروار، بل إن قيادات من الصف الأول مثل أندي بيرنهام يعارض علناً أيضاً موقف ستارمر، ذلك بالإضافة إلى وزراء حكومة الظل العمالية مثل جيس فيليبس وعمران حسين وياسمين قريشي. ومع أن ستارمر أكد مراراً في مقابلته التلفزيونية أن ذلك الخلاف "لن يمزق الحزب تماماً"، وحقيقة أنه حتى الآن لم تتم معاقبة القيادات التي تعارض زعيم الحزب بشأن الدعوة لوقف إطلاق النار، إلا أن حزب العمال علّق عضوية النائب في البرلمان أندي ماكدونالد بعد مشاركته في تظاهرة ضد الحرب في غزة.
وكان ماكدونالد قال في تصريحاته "لن نهدأ حتى تتحقق العدالة. وحتى يتمكن الجميع، إسرائيليون وفلسطينيون، من النهر إلى البحر من العيش في سلام وحرية". وعلى الفور اعتبر مصطلح "من النهر إلى البحر انتقاداً لإسرائيل. بل إن وزيرة الداخلية في حكومة المحافظين سويلا بريفرمان قالت إن المصطلح غالباً ما يشير إلى تدمير إسرائيل". وكيلا يستخدم المحافظون تصريحات ماكدونالد للهجوم مجدداً على العمال قام الحزب بتعليق عضوية النائب.
الانشقاقات والانتخابات
ويتضح من استمرار الاعتراضات العلنية على موقف زعيم حزب العمال أن ذلك التوافق الذي تصور كثيرون أن ستارمر حققه بالتخلص من التيارات اليسارية بعد الإطاحة بكوربن ليس صحيحاً تماماً. وذلك مصدر قلق حقيقي لحزب العمال الذي تشير استطلاعات الرأي ما قبل الحرب في غزة إلى تقدمه على حزب المحافظين الحاكم. لذا لا يريد ستارمر حتى الآن اتخاذ موقف من المعارضين لموقفه من أعضاء الحزب حتى لا يخسر الدعم اللازم للفوز في الانتخابات قبل منتصف العام المقبل 2024.
لكن موقف ستارمر يزداد ضعفاً، إذ بدأ أعضاء في الحزب الاستقالة منه، ومنهم أعضاء مجالس محلية فاز بها الحزب في الانتخابات المحلية على حساب حزب المحافظين الحاكم. على سبيل المثال، استقال تسعة من أعضاء المجلس المحلي في أكسفورد المنتخبين من حزب العمال اعتراضاً على موقف قيادة الحزب الرافض لوقف إطلاق النار وإدخال المساعدات الإنسانية للفلسطينيين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من هؤلاء د. عمار لطيف، الذي نقلت عنه صحيفة "الغارديان" قوله إنه استقال بعد تصريح كير ستارمر في مقابلة مع إذاعة "أل بي سي" حين سأله المذيع إن كان الحصار الخانق على غزة مبرراً فقال: نعم. ومع أن ستارمر حاول تخفيف حدة تصريحاته في المقابلة الإذاعية بعد ذلك إلا أن تصريحاته اعتبرت من قبل كثيرين من أعضاء حزبه "تتجاهل القانون الدولي".
وأصدر المستقيلون من الحزب في أكسفورد بياناً اتهموا فيه زعيم حزبهم بأنه "متواطئ في ارتكاب جرائم حرب". وإذا استمرت تلك الانتقادات والاتهامات والانشقاقات والاستقالات ربما يفقد حزب العمال، وزعيمه ستارمر، تلك الميزة بين الناخبين التي ترشحه للفوز بالانتخابات وتشكيل الحكومة العام المقبل. حتى لو أن ذلك لن يعني بالضرورة فوز حزب المحافظين الحاكم، إنما في الأغلب قد تسفر الانتخابات عن "برلمان بلا حسم" يحتاج فيه أي من الحزبين الرئيسيين إلى تحالفات وائتلافات لتشكيل الحكومة مع عدم حصول أي منهما على غالبية كافية.
حتى عبر الأطلسي، يواجه الحزب الديمقراطي الحاكم في الولايات المتحدة والرئيس جو بايدن خلافات واحتمالات انشقاق وإن كانت أقل حدة مما في أوروبا كما في بريطانيا وإسبانيا مثلاً. إذ إن الجناح اليساري في الحزب الديمقراطي يعارض علناً موقف قيادته في البيت الأبيض بشأن الحرب في غزة. بل إن الجماعات الحزبية مثل المسلمين الديمقراطيين وغيرهم أبلغوا القيادة بأنهم لن يصوتوا للرئيس بايدن في الانتخابات عام 2024 بسبب رفض وقف إطلاق النار.
أزمة اليسار الأوروبي
إلا أن الأزمة تظل أكبر وأعمق لليسار الأوروبي، بخاصة في مواجهة تيارات اليمين الحاكمة أو الصاعدة باتجاه الحكم في أي انتخابات مقبلة. فاليمين موقفه واضح بتأييد حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ومكافحتها الإرهاب المتمثل في حركة "حماس"، وأي دعوة لوقف إطلاق النار أو منع حصار غزة تعطي الحركة الفرصة للاستمرار من دون القضاء عليها.
هذا هو موقف اليمين، أما اليسار فتتأرجح فصائله بين النفعية السياسية من ناحية حرصاً على أصوات الناخبين وبين المواقف المبدئية التقدمية من ناحية أخرى. وتبدو أزمة اليسار الأوروبي أكثر وضوحاً في إسبانيا التي تقودها حالياً حكومة "تسيير أعمال يرأسها الاشتراكي ومعه وزير خارجيته خوزيه مانويل ألباريس". وموقف قيادة الحكومة، وإن كان لا يصف "حماس" بالإرهابية إلا أنه مؤيد أيضاً لإسرائيل ومتمسك بحل الدولتين للتسوية في فلسطين.
لكن بعض الحلفاء في الحكومة الائتلافية ذهبوا بعيداً في انتقاد إسرائيل ووصف ما يجري في غزة بأنه "إبادة جماعية" للشعب الفلسطيني. وقالت وزيرة الحقوق الاجتماعية في الحكومة الائتلافية الموقتة إيوني بيلارا على موقع "إكس" "بقصفها المستشفيات ومخيمات اللاجئين وكبار السنّ العزل والأطفال، تظهر إسرائيل أبشع وجه للإنسانية. إلى متى سيجعلنا القادة الأوروبيون متواطئين في هذه الممارسات البربرية". وتضغط الوزيرة من أجل أن تفعل الحكومة الإسبانية مثل بوليفيا، وتقطع علاقاتها مع إسرائيل.
ويشارك الوزيرة أيضاً عدد من الوزراء في موقفها منهم إيريني مونتيرو ووزير شؤون المستهلكين ألبيرتو غارزون. ويشكل ذلك أزمة حقيقية لرئيس الوزراء الذي يسعى لتشكيل حكومة ائتلاف أوسع تمكّنه من الاستمرار في الحكم، ويحتاج في ذلك إلى تحالف الحزب الشيوعي الإسباني الذي توصل معه بالفعل لاتفاق على انضمامه للائتلاف بنهاية فترة تسيير الأعمال، لكن أنركي سانتياغو الأمين العام للحزب والنائب البرلماني عن تحالف "سومار" اليساري رفض اتهام حركة "حماس" بالإرهاب وأصرّ على حق أي شعب محتل في الدفاع عن نفسه.
وكتب سانتياغو على منصة "إكس" "ليس هناك قانون دولي لأوكرانيا وآخر لفلسطين، ينتهي حق الشعب المحتل بشكل غير قانوني في الدفاع عن نفسه فقط عندما يحصل على الاستقلال. على الأسرة الدولية إجبار إسرائيل على احترام قوانين الأمم المتحدة".
وتبدو أزمة اليسار الأوروبي أعمق في بلد مثل فرنسا، فعلى رغم تظاهرات واحتجاجات بضعة آلاف مطالبين بوقف الحرب، إلا أن قيادات يسارية تاريخية ترددت في الظهور العلني بموقف واضح خشية أن تتهم بمعادة إسرائيل أو التعاطف مع جماعة إرهابية. وإن كانت بعض تلك الرموز اليسارية بدأت تغير موقفها مع استمرار الحرب وتطالب بحماية المدنيين وبدخول المساعدات الإنسانية.
أما في ألمانيا، فلا يبدو لليسار سوى تأثير خافت تماماً في ظل الجو العام المؤيد بشكل مطلق لإسرائيل والذي يتخذ موقفاً أكثر صرامة من أي حركات مقاومة أو مشابه من الشرق الأوسط كله وليس فصائل فلسطينية فحسب.