مُنحت أمس جائزة غونكور لعام 2023، وهي أرفع جائزة أدبية في فرنسا، للكاتب جان باتيست أندريا عن روايته " فييه سور إيل" أو "السهر عليها" الصادرة عن دار "ليكونوكلاست" في باريس. وكانت المنافسة محتدمة بين أندريا وثلاثة روائيين آخرين هم: غاسبار كونيغ صاحب رواية "أوموس" وإريك رينهارت وروايته "سارة، سوزان والكاتب"، والروائية نيج سنو وروايتها "النمر الحزين" التي كانت فازت للتو بجائزة "فيمينا" 2023.
تحكي الرواية الفائزة قصة صداقة وحب امتدت إلى عقود، تنعقد أواصرها منذ الطفولة بين فتاة أرستقراطية وشاب فقير في فترة مظلمة من تاريخ إيطاليا الفاشية وتولي موسوليني الحكم. وقد قدّمها الراوي ببراعة، بحيث جاءت حبكتها المعقّدة وبناؤها الدرامي وشخصياتها المتعددة في قالب جذّاب، إن لجانب تقنيات سردها وجمال حواراتها أو لجانب لغتها الفرنسية السلسة التي أكدت موهبة كاتبها المولود عام 1971، والعامل لأكثر من عشرين عاماً في مجال الإخراج السينمائي وكتابة السيناريو في فرنسا وفي الولايات المتحدة الأميركية.
تأخذنا هذه الرواية إذاً إلى إيطاليا الفاشية في فترة ما بين الحربين العالميتين، لتحكي لنا حياة نحّات عبقري وشغفه بالفن وعلاقته بفتاة مغامرة من أسرة نبيلة بنت إمبراطوريتها وثروتها على زراعة وتجارة الحمضيات. وقد بنى الروائي حكايته هذه على طريقة "الفلاش باك" وكتبها كمنمنمة نثرية تجمع في توازن عميق بين خلفيته الثقافية الرفيعة وإنسانيته العالية واحتفاله بالجمال، هو الحائز على شهادة من معهد العلوم السياسية والمدرسة العليا للتجارة في باريس والمتحدر من عائلة ذات أصول إيطالية. وقد سبق له أن نشر روايات ثلاث وهي على التوالي "قديسون وشياطين" و"ملكتي" و"مئة مليون سنة ويوم واحد" نال بعضها جوائز وتنويهات عدة.
الرجل العجوز
تبدأ الرواية عام 1986 في دير قديم في مقاطعة بيمونت الإيطالية حيث يعيش مايكيل أنجلو فيتالياني الملقب بـ "ميمو الفرنسي"، والبالغ من العمر اثنين وثمانين عاماً ساعاته الأخيرة، محاطاً بالرهبان الذين استضافوه منذ ما يقارب الأربعين سنة. كيف وصل هذا الرجل العجوز، وهو ليس راهباً، إلى هذا الدير المعزول؟ ما هي قصة حياته وما هي الأسرار التي يخفيها؟
تقول لنا الرواية إن البعض يعتقد أنه لجأ إلى هذا الدير "للسهر عليها"، قاصدين بذلك منحوتته الأخيرة المخبأة في هذا الدير بأمر من حاضرة الفاتيكان، بسبب قوتها والهالة المنبعثة منها وتأثيرها في الناظرين إليها والمتأملين فيها. لكن ميمو الذي يصارع الموت على فراشه الديريّ، يستعيد في لمحة بصر محطات من ذكريات حياته المضطربة ولحظات حميمة تكشف لنا عن ولادته في فرنسا لوالد نحّات توفي في الحرب العالمية الأولى. غير أنه ولد صغيراً جداً وبقي كذلك بسبب إصابته بمرض القزامة.
تتابع الرواية إخبارنا أن والدة ميمو قرّرت عند بلوغه الثانية عشرة من عمره، إرساله إلى إيطاليا وتحديداً إلى سهل "بييترا دالبا"، وهي قرية وهمية أرادها الكاتب أن تقع في منطقة ليغوريا، للعمل مع عمه زيو ألبيرتو، وهو أيضاً نحّات غير موهوب، معروف ببخله وطباعه الشرسة ومعاقرته للخمرة، بعد أن وافق مرغماً على رعاية هذا "القزم" وتعليمه فن النحت. لكنه سرعان ما سيكتشف مواهب ابن أخيه ومهاراته الخارقة وشغفه بالفن والجمال وتعلّمه السريع لتقنيات النحت وأسراره، لا سيّما حينما عاونه في عمله في قلعة عائلة أورسيني الأرستقراطية التي تملك المال والسطوة والتاريخ والتي تحكم المنطقة، حيث سيلتقي ميمو بفيولا، ابنة هذه العائلة الثرية الوحيدة، لقاءً سيغير إلى الأبد مجرى حياته.
الحب والصدفة
نحن إذاً أمام قصة حب وصداقة مؤثّرة بين طفلين يفصل بينهما كل شيء، ولا يجمعهما إلا الصدفة وحب الجمال وتاريخ إيطاليا بين الحربين العالميتين وصعود الفاشية، التي يقدمها الراوي من خلال شخصياته في سياق متقاطع، حيث يلعب كل شخص في الرواية دوره، سواء مع أو ضد السلطة.
في هذا الإطار، لا يتردّد الراوي عن إخبارنا أن عائلة أورسيني، التي تنبّهت إلى موهبة النحّات الصغير وفهمت المزايا التي يمكن أن يقدمها لها وهو في ذروة إبداعه الفنيّ، يحدثنا أيضاً عن نباهة فيولا وشخصيتها المتوهجة ذكاءً وثقافة، وانتقاداتها الشديدة للنظام الفاشي، غائصاً على هامش قصة العلاقة بين ميمو وفيولا، في تاريخ إيطاليا السياسي وتقلبات النفس البشرية، رابطاً القارئ بأرضٍ ولد فيها العديد من الفنانين المبدعين، لكنها كانت على حدّ قول ميمو، "مملكة من الرخام والقمامة".
كما في رواية "ملكتي"، يسرد لنا جان باتيست أندريا قصة حب مليئة بالوعود والأقسام، ولدت في مرحلة الطفولة في فترة من القمع السياسي فرضت على حياة البطلين الشابين ورؤيتهما الخاصة للوجود الإنساني تقلباتها الكثيرة، والتي لطالما انتهت، على رغم الخلافات والاختلافات العديدة بينهما إلى عودتهما إلى بعضهما البعض. وسيكون هذا الحب الأفلاطوني سبباً في تفتّح عبقرية ميمو ونحته أجمل أعماله وأكثرها إثارة وإبداعاً، ولو أن الراوي لم يصف لنا هذه المنحوتة الغامضة، بل اكتفى بالإشارة إلى ما تثيره في نفس الناظر والمتأمل بجمالها من ذهول وانخطاف.
تقدم لنا هذه الرواية كذلك صورة جميلة عن امرأة حرّة وشجاعة، مغرمة برجل قزم ذو طباع مضطربة؛ رجل يتقلب دوماً بين ملاك وشيطان، يحفّزه الحب المستحيل الذي يكنّه لفيولا على شحذ مواهبه الفنية. فيها تظهر فيولا، التي تدعو ميمو إلى قراءة الكتب والانفتاح على الثقافة بوصفها السبيل الوحيد للخروج من ظروفه، كشخصية مضيئة، تجمع في هذه السردية الضخمة والتي تقع في 600 صفحة تقريباً، بين الحيوية والتشويق والرومانسية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولئن نجح ميمو في صعود السلم الاجتماعي، بعد أن أصبح واحداً من أعظم نحاتي عصره وانتقل للعيش في فلورنسا وروما، علماً أن زياراته المتكرّرة إلى بيترا دالبا بقيت البلسم الوحيد في حياته، فإن فيولا بقيت أسيرة وضعها كامرأة أرستقراطية ولدت في بدايات القرن العشرين، تجبرها مكانتها الاجتماعية على قبول زواج مدّبر من رجل لا تكنّ له أية مشاعر، في حين أن ذكاءها الحاد يدفعها نحو طموحات كبيرة لا عدّ لها. ولعلها، على رغم خطوبته، كانت تفعل ما تشاء، كأن تقتحم مكتبة والدها المليئة بالكتب لتلتهم حروفها ولتعطي ميمو كتباً عن الرسام فرا أنجيليكو الذي وصفه جورجيو فازاري بأنه صاحب "موهبة نادرة ومثالية"، بينما تستمع إلى أصوات الموتى في الليل أثناء لقاءاتها السرية وسط المدافن في مقبرة بيترا دالبا، حالمةً بالتحليق فوق الكون والانطلاق بنفسها في فضاء العالم الأرحب للهروب من هذا الزواج المقرّر من المحامي الأرستقراطي الثري والفظّ، من خلال اللجوء إلى أجنحة مستعارة صنعتها بمساعدة أصدقائها يوم خطوبتها. كأني بالروائي يطرح في سرديته مسألة استقلالية المرأة في النصف الأول من القرن العشرين وحريتها باختيار شريك حياتها.
وقد نجح جان باتيست أندريا في جذب القرّاء لروايته هذه عبر تقنيات سرده وشخصياته التي أضفى عليها هالة قدسية سيطرت على مجريات الأحداث من أولها إلى آخرها، من دون أن ننسى ومضاته الإبداعية التي رسمت بإتقان التناقض بين شخصية ميمو وشخصية فيولا من دون أن تطغى شخصية على أخرى، مازجاً بين الحرفية والموهبة والإبداع والثقافة والمعارف المتعلقة بتاريخ الفن التي اختزنها في ذاكرته، مما جعل هذه الرواية تستحق بجدارة جائزة "غونكور" لهذا العام، لما فيها من الجسارة في البوح ومن التقنية في السرد التي لا يقدر عليها إلا كاتب متمكن ومجدد.
باختصار، إن "السهر عليها" رواية تحتفل بالثقافة والجمال والحب والصداقة التي تستمر على رغم التحديات. تخترق أرواحنا وتبث فيها نبضاً من الحرية والمشاعر، كما تقدم لنا وصفاً جميلاً لأحوال ومسالك الطبقات الاجتماعية الراقية في إيطاليا وسياقاً تاريخياً لصعود الفاشية على خلفية الحروب العالمية يمتد على مدى نصف قرن من التاريخ، من دون أن تنسى التطلع إلى الفن وجمالاته التي لا تعدّ ولا تحصى.