ملخص
مع تدمير بنية الحياة في غزة تتزايد الضغوط على سكانها للبحث عن ملاذ ملائم وأصبحت الضرورة الإنسانية تزيد التحدي أمام دول الجوار.
في أغسطس (آب) 2012، أصدر فريق الأمم المتحدة في فلسطين دراسة بعنوان "غزة في عام 2020 هل ستكون مكاناً ملائماً للعيش؟"، تتضمن حقائق عن عدد السكان المتزايد بالنسبة إلى المساحة السكنية المقيدة والبنية التحتية كالكهرباء والمياه والصرف الصحي والخدمات الاجتماعية، إضافة إلى الاقتصاد ووضع القطاع الصحي والتعليم.
توقعت الدراسة أن تزداد حدة التحديات التي تواجه سكان القطاع خلال السنوات التالية وحتى عام 2020، بالنظر إلى التوقعات آنذاك أن يزيد عدد سكان غزة نصف مليون شخص ليصل إلى مليوني نسمة. وحذر التقرير الأممي من أن استمرار الحصار مع استمرار الهجمات الإسرائيلية على القطاع سيؤدي إلى عواقب وخيمة بالنسبة إلى السكان.
التقرير الذي كان يقوم على قراءة مستقبلية، ربما هو نبوءة أقل حدة كثيراً من الواقع الجاري في القطاع الذي يرزح تحت قصف إسرائيلي متواصل منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. كان التقرير يتحدث عن المستقبل إذا لم تطور البنية التحتية وتخفف قيود الحصار عن القطاع ومواكبة الزيادة السكانية بما يتناسب مع احتياجاتها، بينما الواقع حالياً هو أكثر رعباً، فالبنية التحتية والمنازل "مدمرة" وتتطلب "سنوات لإعادة البناء" بحسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وبينما تقول إسرائيل إن عملياتها تتركز في الشمال ومن ثم طالبت سكانه بالرحيل إلى جنوب غزة، فإن جنوب القطاع الذي يعد حتى الآن أكثر أمناً من شماله يتعرض إلى ضربات صاروخية وقصف يودي بحياة عديد من الأشخاص.
مكان غير صالح للعيش
وفق تحليل حديث لصور ملتقطة عبر الأقمار الاصطناعية، أفادت الإذاعة الأميركية العامة "أن بي آر" أن ما يقرب من ثلث مدينة غزة تعرض للدمار نتيجة القصف الإسرائيلي. التحليل الذي أجراه باحثان من جامعة ولاية أوريغون الأميركية ومركز دراسات "كيوني" في جامعة نيويورك، قدر أن ما بين 13 و18 في المئة من المباني في جميع أنحاء قطاع غزة قد تدمرت أو تضررت، ورجح تضرر ما بين 27 إلى 35 في المئة من المباني في النصف الشمالي من القطاع منذ بداية الحرب.
هذا المشهد يعني أن غزة باتت مكاناً غير ملائم للعيش، وهو ما جاء على لسان مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بالحق في السكن الملائم، بالاكريشنان راجاجوبال، الذي حذر الأسبوع الماضي من أن الحرب "تجعل مدينة بأكملها مثل غزة غير صالحة لسكن المدنيين".
مع تحويل القطاع إلى مكان غير صالح للعيش باتت الضغوط تتزايد على سكانه للبحث عن ملاذ ملائم للحياة، وأصبحت الضرورة الإنسانية تزيد التحدي أمام دول الجوار لقبول سكان غزة في أراضيهم، ربما ليس دفعة واحدة وإنما على مراحل بصيغة أو بأخرى، فعلى سبيل المثال تتلقى مصر يومياً عشرات الحالات للعلاج في مستشفيات بمدينة العريش، فوفق حديث خالد زايد رئيس هيئة الهلال الأحمر بشمال سيناء، لـ"اندبندنت عربية" فإن المحافظة توفر أماكن للاستشفاء والدعم النفسي للمصابين الذين تلقوا العلاج بالفعل وتماثلوا للشفاء، مؤكداً أنه لا يتم إجبار أي من الحالات على العودة مرة أخرى إلى القطاع.
وأشار زايد إلى تقارير تتحدث عن استعداد تركيا لنقل مصابين عبر معبر رفح للعلاج لديها، وأوضح أن عدد المصابين من قطاع غزة داخل العريش يقدر بنحو 300 حالة والعدد يرتفع يومياً، حيث يوجد حالياً 150 مصاباً موزعين على أكثر من 12 مستشفى داخل محافظة شمال سيناء وخارجها، إذ تتطلب بعض الحالات العلاج في مستشفيات أخرى متخصصة، لافتاً إلى أن أغلب الإصابات جراحية، وتتراوح بين علاج الحروق والبتر والإصابات الجراحية.
ثلاث مراحل للتهجير
السيناريو الذي جرى تسريبه ونشره على موقع إخباري إسرائيلي محلي يدعى "سيشا ميكوميت"، الشهر الماضي، بعد أيام من اشتعال الحرب بين إسرائيل وحركة "حماس" في غزة، ظهرت تفاصيله في تلك الوثيقة التوجيهية الصادرة عن مركز بحثي إسرائيلي يدعى "وزارة الاستخبارات الإسرائيلية"، التي تقترح تهجير 2.3 مليون فلسطيني من غزة إلى خيام في شمال سيناء بمصر، كمحطة أولى للانتقال في ما بعد إلى دول أخرى عبر مراحل ثلاث.
تنطوي المرحلة الأولى على دفع سكان شمال غزة، الذي يتعرض لضربات جوية مدمرة، إلى جنوب القطاع للبحث عن ملجأ آمن. ووفق الوثيقة فإنه ينبغي "تدمير البنية التحتية بأكملها في غزة حتى لا يكون هناك سبيل للبقاء في القطاع".
ومع بدء المرحلة الثانية التي تتزامن مع التوغل البري الإسرائيلي بهدف الاحتلال الكامل للقطاع، سيفتح ممر إنساني من غزة إلى سيناء لنقل سكان القطاع وبناء بيوت لهم، ولن يسمح لهم بالعودة، ثم المرحلة الثالثة الأخيرة التي تنطوي على توطين النازحين في مصر ودول عدة بما في ذلك تركيا وقطر والسعودية والإمارات وكندا، والأخيرة يسمح نظام الهجرة لديها بتسهيل توطين اللاجئين.
ووفق مؤلفي الوثيقة المكونة من 10 صفحات، فإن مصر يجب أن تقبل دخول اللاجئين بموجب "القانون الدولي"، على حد تعبير الوثيقة، وأن إسرائيل ينبغي أن تقوم بمبادرات دبلوماسية واسعة النطاق وحملات دعائية كبيرة لإقناع الدول في الغرب والشرق باستحالة عودة اللاجئين إلى قطاع غزة. وذهبت الوثيقة إلى وضع الشعار الذي يجب توجيهه إلى سكان غزة والذي يقول "الفضل لله في خسارتكم لهذه الأرض بسبب حماس، ولم يعد أمامكم من خيار سوى الرحيل إلى مكان آخر بمساعدة أشقائكم المسلمين".
في حين قلل مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو من أهمية هذه الوثيقة، مؤكداً أنها تأتي في إطار دراسات لفرضيات عمل وليست خطة اعتمدتها الحكومة للتطبيق، لكن التحركات الإسرائيلية والتطورات على الأرض تشي بمحاولة تمرير هذه الخطة عبر فرض الأمر الواقع.
تطهير عرقي ذاتي
يقول الكاتب البريطاني جوناثان كوك، وهو مؤلف لثلاثة كتب تتناول الصراع بين إسرائيل وفلسطين، إن حملة القصف الإسرائيلية الحالية، التي لا تتفق مع أي مبدأ يمكن تصوره، "هدفها تسريع عملية جعل غزة غير صالحة للسكن، ودفع الفلسطينيين للقيام بعملية تطهير عرقي لأنفسهم" من خلال الحاجة والرغبة في الرحيل، و"في هذه الأثناء تتعرض مصر لانتقادات شديدة لعدم فتح الحدود، مما يدفعها في نهاية المطاف للتراجع".
في عام 2018، كشف الصحافي الإسرائيلي رون بن يشاي، أن جيش بلاده كان يدرس استراتيجية جديدة تجاه غزة تتضمن غزوها وتقسيمها إلى قسمين، مع احتلال إسرائيل للنصف الشمالي، هذا هو السيناريو الذي يتحقق في الوقت الحالي، ففي السابع من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، نجحت القوات الإسرائيلية في تطويق مدينة غزة بشكل كامل، وذلك بعد أيام من بدء الجيش تنفيذ خطة توغله البري في القطاع، وبهذه الخطوة يكون قد استطاع شطر القطاع إلى جزأين. وأعلن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري عن تقسيم قطاع غزة إلى شطرين منفصلين عن بعضهما تماماً قائلاً "قمنا بتقسيم القطاع، من الآن فصاعداً هناك شمال وجنوب غزة".
ومنذ نهاية الأسبوع الماضي، سمحت إسرائيل بهدنة يومياً لمدة أربع ساعات قامت بموجبها بفتح ممر آمن لسكان غزة لمغادرة الشمال والتحرك جنوباً. ومن ثم سرعان ما سيتكدس سكان غزة البالغ عددهم نحو 2.2 مليون نسمة في نصف المنطقة، مع وصول قدر ضئيل فقط من المساعدات عبر معبر رفح الحدودي في سيناء.
ويقول كوك "يبدو أن الهدف هو الضغط على الفلسطينيين في منطقة صغيرة بجنوب غزة، بجوار الحدود مع سيناء، وتدمير جميع البنى التحتية المدنية، وقصف وإرهاب الفلسطينيين في الجنوب أيضاً، وبينما يطالب الفلسطينيون بالفعل بالسماح لهم بدخول سيناء، يتعرض الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي لأقسى الضغوط خلف الكواليس للتراجع وفتح الحدود".
القاهرة ترفض
ترفض القاهرة أي محاولات إسرائيلية لتوطين الفلسطينيين في سيناء، واتخذ الرئيس المصري موقفاً حازماً برفض هذه الخطة جملة وتفصيلاً، واعتبر أنها تشكل تصفية للقضية الفلسطينية، كما حذر من أن تهجير الفلسطينيين من القطاع إلى شبه جزيرة سيناء قد يهدد السلام بين مصر وإسرائيل إذا أصبحت سيناء منطلقاً لهجمات تستهدف الدولة العبرية.
كما شنت أجهزة الإعلام المصرية حملة كبيرة ضد سيناريو "التوطين" في سيناء، وهو ما انعكس أيضاً على شبكات التواصل الاجتماعي التي شهدت مخاوف وجدلاً واسعاً بين المصريين في شأن التآمر ضد مصر والقضية الفلسطينية.
يقول الباحث في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، محمد عباس ناجي، إن القاهرة تضع مسألة الاعتبارات الإنسانية في حساباتها بشكل أساسي، لذا توفر مستشفيات في العريش لاستقبال حالات من القطاع وعلاجها، كما كانت مصر أول دولة ضغطت لدخول مساعدات لغزة في ظل العدوان الجاري.
ويضيف ناجي، "أما في ما يتعلق بالتهجير فهو أمر مرفوض تماماً ليس من مصر فحسب، بل من دول أخرى أيضاً مثل الأردن وهو ما كان واضحاً في القمة العربية الإسلامية الطارئة في الرياض، وذلك لسبب رئيس وهو ما يعنيه التهجير من تصفية للقضية الفلسطينية، الأمر الذي وضعته مصر في الاعتبار، وأكدته في كل تحركاتها الدبلوماسية لإنهاء الحرب الحالية".
وأوضح ناجي أن "الفلسطينيين هم أكثر المتضررين من التهجير، بالتالي فإن مصر تصر على ضرورة الوصول إلى حل سياسي وفقاً لحل الدولتين باعتباره البوابة الرئيسة لحل النزاع". وشكك في قدرة إسرائيل على مواصلة عدوانها وانتقالها إلى الجنوب، مشيراً إلى أنه بعد مرور أكثر من شهر على حربها في شمال غزة لم تصل إلى تحقيق هدفها في القضاء على "حماس"، كما أن تصورات إسرائيل لمستقبل القطاع بعد الحرب ليست واضحة، قائلاً "العقبات والتحديات التي تواجهها إسرائيل ليست سهلة، ولا يمكن توقع انتقالها إلى الجنوب في الوقت الحالي، لا سيما في ظل الضغط الدولي وتغير الرأي العام العالمي الذي بات ضد ما يحدث في غزة".
تمرير الفكرة
ومع ذلك يسعى الغرب لتمرير فكرة الترحيل "الترانسفير" لاعتبارات إنسانية وربما يبتز العالم العربي بفكرة حاجتهم "لإثبات اهتمامهم بالفعل بأرواح الفلسطينيين وليس مجرد الحديث"، مثلما جاء في عمود رأى في صحيفة "ناشونال بوست" الكندية، كتبه ريموند دي سوزا، وهو كاهن كاثوليكي ومدرس بكلية كوينز ورئيس سابق للمجلس الاستشاري لمكتب الحرية الدينية لدى وزارة الخارجية الكندية، إذ قارن بين استقبال الدول الأوروبية للاجئين الأوكرانيين منذ الحرب الروسية العام الماضي، بينما ترفض الدول العربية استقبال الفلسطينيين، وقال "يشعر الفلسطينيون منذ فترة طويلة، ولسبب وجيه أن العالم العربي بغض النظر عن الخطابة لا يهتم حقاً برفاهتهم. والآن هو الوقت المناسب لإثبات خطأ ذلك".
واقترح دي سوزا أن يتبنى العالم العربي برنامجاً متوسط الحجم لإعادة توطين اللاجئين، مشيراً إلى أنه "إذا التزمت الدول العربية الأخرى، إذ يبلغ مجموع سكان الجامعة العربية 430 مليون نسمة، بقبول مليون من سكان غزة، فستكون مصر أكثر ترحيباً بفكرة فتح حدودها واستقبال بقية اللاجئين".
ومضي متحدثاً عن إعادة توطين نحو ستة ملايين سوري في دول مختلفة حول العالم منذ اندلاع الحرب في 2011، قائلاً إن هذا يوضح أن إعادة توطين سكان غزة بالكامل سيكون أمراً عادياً من الناحية التاريخية بالنسبة إلى العالم العربي اليوم، وأضاف "هذا لا يعني أنه ينبغي القيام بذلك بشكل دائم، لكن استيعاب اللاجئين من غزة في وقت الحرب سيكون أمراً سهلاً نسبياً، وهو أمر طبيعي تماماً في تاريخ العالم الحديث، ومن شأنه أن ينقذ حياة عديد من سكان غزة ويوفر عليهم مشقة كبيرة".