ملخص
قدم مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان مراجعة لسياسة واشنطن الخارجية وسقط في فخ الاجتزاء
نشرت دورية "فورين أفيرز" في إصدارها لشهر نوفمبر (تشرين الثاني) - ديسمبر (كانون الأول) مقالاً مهماً لمستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان. وبطبيعة الحال كان الموضوع الرئيس للعدد.
والرؤية التي طرحها سوليفان تتضمن كثيراً من الأبعاد، يبدأ فيه من مقولة تعكس محاولة أميركية لمواصلة دورها العالمي في تبوؤ موقع الصدارة، وينطلق من أن الديموغرافيا والموارد الطبيعية وغيرها من عناصر القوة الصلبة على أهميتها الكبيرة ليست كافية لتحديد أي البلدان ستشكل المستقبل، بل القرارات الاستراتيجية التي تتخذها الدول وعلى رأسها كيف تنظم الدولة نفسها داخلياً؟ وما الذي تستثمر فيه؟ ومن تختار أن تصطف معه؟ ومع من تتحالف والحروب التي تخوضها وحساباتها الرشيدة؟
وهو بذلك ينقل مفهوم القوة الناعمة نقلة أعمق تربطها بالسياسات وكيفية ترجمة كل من عناصر القوة الخشنة والناعمة بشكل عملي، والهدف واضح أن الخصوم وبشكل خاص الصين على رغم مواصلتها تنمية القوة الخشنة لا تملك مقومات القوة الناعمة الأميركية ولا السياسات التي تبرز هذا.
أبعاد الرؤية
على رغم أن الحاجة إلى مراجعة السياسة الخارجية الأميركية تستند إلى اعتبارات كثيرة فقد ركز سوليفان على بعضها فحسب، بينها ما ذكره من انتهاء حقبة ما بعد الحرب الباردة التي هيمنت عليها واشنطن، ولكنه بالغ في التركيز على إصلاح ما أفسده ترمب، وهو أمر له مبرراته خصوصاً في ما يتعلق بإساءة ترمب لحلفاء واشنطن التقليديين وأهميته الواضحة في ضوء أن المقال بالأساس مخصص لإبراز رؤية إدارة بايدن استعداداً للانتخابات، إلا أنه لم يعر اهتماماً كافياً بأزمة الثقة المزمنة لدى كثير من حلفاء الولايات المتحدة بخاصة غير الأوروبيين.
كما أن ما طرحه لا يكفي وحده لفهم عناصر المراجعة الضرورية الأخرى التي من أبرزها الإشكال الأخلاقي والتناقض المزمن في السياسة الأميركية وسنعطي هذا تفصيلاً لاحقاً، والثاني أنه لم يقر صراحة بأن سبب الطرح الجديد هو النمو المتواصل لعناصر القوة الشاملة والصلبة بشكل خاص لدى الصين وربما أطراف دولية أخرى قادمة في المستقبل.
ومع ذلك فقد تضمنت رؤيته كثيراً من الخيارات الرشيدة الضرورية لإعادة الحيوية لسياسة بلاده تبدأ من الداخل ومنها إعطاء حيوية للاقتصاد وللابتكار والتصنيع وبناء سلاسل توريد مرنة وفنية في المجالات الحيوية وإعادة بناء القاعدة الصناعية للجيش الأميركي، ومواصلة تعزيز التحالف التقليدي مع أوروبا وكذا الشراكات الجديدة وعلى رأسها الهند باسيفيك، كما عرض إدارة المنافسة الرشيدة مع الصين لتقليل التوترات وإيجاد طريقة للمضي قدماً في مواجهة التحديات المشتركة والحفاظ على قنوات الاتصال مع الصين وإنشاء قنوات جديدة.
ومن ناحية أخرى كانت رؤيته للشرق الأوسط مبنية على أوهام وافتراضات حطمتها حرب غزة الجارية الآن، وعموماً لا تعكس أي جدية في التناول الأميركي لجهود تحقيق تسوية حقيقية.
الإشكال الأخلاقي المزمن في السياسة الأميركية
الطرح الذي تريد إدارة بايدن إعادة صياغته هو ما سبق للإدارة الديمقراطية لأوباما طرحه حين كان بايدن نائبه، هو أن الولايات المتحدة هي القوة التي لا يستغني عنها العالم، وقد قدمت الولايات المتحدة نفسها تاريخياً كقوة أخلاقية لا تدعم السياسات الإمبريالية التوسعية الأوروبية وكأنها عانت سياسة المحتل البريطاني وتخلصت منه، والإشكال في هذا الطرح أن الولايات المتحدة واجهت ازدواجية منذ البداية بسبب عدم المراجعة الكافية والحقيقية لجريمتها ضد السكان الأصليين ثم ممارسات العنصرية ضد المواطنين الأفارقة، التي جلبتهم للعمل حتى الحرب الأهلية وما بعده ومن إشكالات عنصرية لم يشف منها المجتمع الأميركي تماماً حتى الآن على رغم مرور كل هذه العقود والسنوات.
هذه الخلفية السابقة ضرورية لفهم السرديتين المتناقضتين للسياسة الأميركية داخلياً وخارجياً بصرف النظر عن توجهات متطرفة هنا وهناك ومن مرحلة زمنية لأخرى، وقد اعتادت الدراسات الأكاديمية والفكرية على اختزالها في توجهين المحافظ والليبرالي، وفي التطبيق السياسي أو لنقل عبر انتقال الإدارات الأميركية بين الحزبين الحاكمين الديمقراطي والجمهوري، كانت التجاوزات والارتباكات تحدث، وكانت الإصلاحات والتجميليات أيضاً تحدث.
وتاريخياً أخطأت السياسة الأميركية في مواضع عديدة منها جرائم كان لا ينبغي أن تغتفر وعلى رأسها هيروشيما ونغازاكي وجرائمها في فيتنام وتجاوزاتها العديدة في أميركا اللاتينية وإن كانت من طبيعة مختلفة، ثم مشاركتها في الظلم التاريخي للشعب الفلسطيني ثم جرائمها وتجاوزاتها الخطرة في العراق، ومع كل ذلك كانت الولايات المتحدة تتمكن بفرض سيطرتها على الإعلام العالمي وذاكرة العالم القصيرة في تجميل صورتها وطرح مسألة دورها الأخلاقي العالمي.
والحقيقة أن هذا الدور لم يكن أبداً حقيقياً على رغم البريق الكاذب الذي أطلقته آلة الدعاية الأميركية، وقد ناقشنا في مقالنا السابق تأثير المعايير المزدوجة في شأن القضية الفلسطينية في ترسيخ صورة سلبية للولايات المتحدة في العالم العربي، ولكن الحقيقة أن هناك كثيراً من التفاصيل الأخرى التي قد توضح الأمور أكثر، فثمة صورة تاريخية مترسبة لدى كثير من شعوب أميركا اللاتينية في شأن التدخلات السلبية لواشنطن في هذه المجتمعات واعتبارها نطاقاً حيوياً للنفوذ الأميركي عبرت عنه في القرن الـ19 تحت اسم مبدأ مونرو الذي كان وزيراً للخارجية وطرح هذا المبدأ حول منع النفوذ الأوروبي في الأميركتين، وكان القصد واضحاً يفيد بأن يكون النفوذ على هذه الدول لبلاده وحدها وطبقت ذلك بالفعل، وفي معظم الوقت كان نفوذاً سلبياً هدفه تشجيع الانقلابات العسكرية وضمان وجود حكومات عميلة لواشنطن أياً كانت مصالح هذه الشعوب اللاتينية من المكسيك إلى تشيلي في أقصى الجنوب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وربما كانت المكسيك هي النموذج الأكثر تعقيداً في العلاقة مع الولايات المتحدة، ورغبة فقرائها في الهجرة غير المشروعة إلى الولايات المتحدة مسألة ربما تفسرها دراسات معقدة، ولكنها في النهاية هجرة بحث عن فرص حياة أفضل لدى الجار الأكبر الذي مارس كثيراً من سياسات العدوان والتأثير السلبي في التطور السياسي والاقتصادي للمكسيك، بما في ذلك اقتطاع مساحات شاسعة من أراضي المكسيك بكل الوسائل الممكنة.
ولا نريد أن نغرق في تفاصيل ولكن المؤكد أيضاً أن فترة انفراد واشنطن بقيادة العالم التي انتهت كما عبر عن ذلك سوليفان وأدركت ذلك إدارة أوباما سابقاً، كانت هذه الفترة حافلة بالتجاوزات والأخطاء، وشاهد ذلك تدخلاتها المتأخرة أو الغائبة خلال احتدام بؤر التوتر في يوغوسلافيا السابقة أو أفريقيا كما في حالة رواندا على سبيل المثال، وعموماً اختتمت الولايات المتحدة هذه الحقبة القصيرة من تاريخ العالم بتدخلها في العراق الذي لا تتوقف الأدلة عن تأكيد أخطائه وتجاوزاته التي تصل إلى حد جرائم الحرب التي لن يغفرها التاريخ، عندما يسجل ويوثق ما بعد اكتمال انتهاء دور الصدارة الأميركي.
ولن نكرر هنا ما ذكرناه في مقالنا السابق حول المشاركة الأميركية في جريمة ظلم الشعب الفلسطيني، التي تتجه نحو مسارات بالغة الخطورة ولا تزال في طور التشكل، وهي تضيف بصورة كبير للصورة السلبية التي تتكرس لواشنطن بالمنطقة العربية والأرجح سيكون لها امتدادات أوسع.
لم تكن السياسة الدولية يوماً مثالياً لا في الماضي ولا الحاضر ولا شواهد على ذلك في المستقبل، ولم يحدث أن ساد النظام الدولي قوة رسخت القيم ومبادئ العدالة الدولية، وتظل الدول والإمبراطوريات تلعب أدواراً حاسمة ليس فقط بناءً على قوتها الصلبة فقط، بل كانت المهارات والتخطيط عنصراً مهماً دوماً ولكن في عالمنا المعقد والمتداخل ستلعب عناصر الثقة والاحترام أدواراً مهمة إضافية ومكملة فحسب في تكريس مكانة الدول، وفي هذا الصدد تعاني الولايات المتحدة صورة متراجعة ستتكرس مع الزمن بسبب صعود أطراف أخرى وليس فقط تراجعها النسبي.
من الأمور الإيجابية أن تحاول السياسة الأميركية البحث عن إطار فكري متكامل يسعى إلى تحقيق مصالح هذه الدولة، وإيجاد التبريرات الفلسفية التي تعبئ المجتمع الأميركي، وتقدم أساساً لمحاولة مواصلة هذه الدولة موقعها القيادي في العالم في صورة رسالة حضارية تقنع العالم وتتناسب مع التطور البشرى، ولكن في التقدير أن الخلل المزمن بازدواجية اعتبارات السياسة الخارجية الأميركية سيؤدي إلى نكسات حتمية لهذه السياسة وقدرتها على تحقيق هذه الأهداف، ومن المؤسف أنه لا توجد شواهد على نوايا جادة لإصلاح هذه السياسة.