Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بوصلة الحداد... نقاش فلسفي حول كولونيالية الرد الإسرائيلي وعنف "حماس"

تخلص الفيلسوفة الأميركية جوديث بتلر إلى أن حرية تسمية عنف إسرائيل، وصور العنف الأخرى، ووصفه ومعارضته، من غير خشية تهمة كراهية السامية، من شروط الجمع بين الإدانة وبين المعرفة والفهم

من تظاهرة تنديد بجوديث بتلر (غيتي)

ملخص

هل يجوز انتقاد إسرائيل من دون خشية الاتهام بمعاداة السامية؟ هذا ما تناولته جوديث بتلر في مقالة نشرتها "لندن ريفيو أوف بوكس"

أثارت رسالة صدرت عن لجنة التضامن الطلابي مع فلسطين في جامعة هارفرد الأميركية لغطاً وخلافاً في الأوساط الإعلامية والأكاديمية. ومن أبرز الذين تناولوا الرسالة بالنقاش كانت الفيلسوفة الأميركية جوديث بتلر في "لندن ريفيو أوف بوكس" في 19 أكتوبر (تشرين الأول) المنصرم بعد أيام من اندلاع حرب غزة. ووجهت سهام النقد والتخوين إلى بتلر في عدد من الصحف العربية جزاء مقالتها هذه. وفيما يلي تنقل "اندبندنت عربية" هذه الرسالة لأهميتها في النقاش الدائر:

"يبدو تناول حملات القصف على غزة، ومجازر "حماس" في إسرائيل، أمراً عسيراً في أطر المناقشة المتاحة اليوم. فمن يعالج الموضوعين المترابطين بوصفهما جزءاً من تاريخ العنف يتعرض للتهمة بالنسبية والظرفية، والتهوين من فظاعتهما. فعلينا إما الإدانة وإما الرضا. ولكن هل هذا يطلب منا أخلاقياً؟

والحق أنني أدين من غير تحفّظ العنف الذي ارتكبته "حماس"، فهو مجزرة مرعبة. وكان هذا ردي ولا يزال، ويجبه الواحد، حين يدلي برأيه، عن حزبه أو معسكره. ويُظن أن تساؤلنا عما إذا كنا نستعمل اللغة المناسبة، ونفهم فهماً صحيحاً الوضع التاريخي الذي نفكر فيه، يحول بيننا وبين إدانتنا إدانة أخلاقية جازمة الحادثة التي تعنينا. ولا يُنتبه إلى أنه من الغريب معارضة شيء، أو واقعة إنسانية، من غير فهمه أو وصفه وصفاً دقيقاً. وأشد غرابة حسبان أن الإدانة تقتضي رفض الفهم خشية أن تتولى المعرفة وظيفة التخفيف من دلالة الواقعة، وإضعاف قدرتنا على الإدانة.

ألسنا نحتاج إلى تقويم نقدي ومستنير للأحوال يصحب إدانتنا الأخلاقية والسياسية، من غير خشية أن تجعلنا معرفتنا المكتسبة، في نظر الآخرين، إما معوقين أخلاقيين، وإما شركاء في جرائم بشعة؟

ويتذرع بعضهم بتاريخ العنف الإسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط إلى تبرئة "حماس". ومنطقهم فاسد. فما لا شك فيه أن العنف الإسرائيلي في حق الفلسطينيين ساحق. وهو يعمد إلى القصف، والاغتيالات، والتجويع، والتعذيب، والمصادرة. وتعمل هذه كلها في شعب أُخضع للتمييز العنصري، والاستعماري، ونزع الهوية. ولكن قول لجنة التضامن مع فلسطين، في جامعة هارفرد الأميركية، إن نظام التمييز (العنصري) وحده المسؤول عن هجوم "حماس"، القاتل على أهداف إسرائيلية، يحيد عن الصواب.

فمن الخطأ تقسيم المسؤولية أو تجزئتها على هذا النحو. ولا ينبغي لشيء أو أمر أن يعفي "حماس"، من كل مسؤولية عن القتل البشع الذي ارتكبته. وفي الوقت نفسه، لا تستحق الجماعة وأعضاؤها، تسجيلها أو وضعها في اللائحة السوداء. فهي محقة في تشديدها على تاريخ العنف في المنطقة، وعلى مصادرة الأراضي، والقصف الجوي، والتوقيف الاعتباطي على الحواجز، وتفريق الأسر، والاغتيالات المستهدفة...

ولا يسوّغ هذا القولَ إن عنف "حماس" هو عنف إسرائيل تحت مسمى آخر. وعلينا فهم السبب في تعاظم قوة جماعات، مثل "حماس"، في ضوء إخلاف وعود "اتفاقات أوسلو" (1993) بالدولة الوطنية الفلسطينية، والحصار الذي ضُرب على سكان غزّة وحرمهم الدواء والغذاء والمال. إلا أن التأريخ لهذه الوقائع لا يسوّغ أفعال "حماس" أخلاقياً. فليس ثمة مصدر وحيد للانتهاك الأخلاقي.

وإحجام الفلسطينيين عن نسبة عنف أفعالهم إلى أنفسهم لا يؤدي إلى الإقرار بقيام الفعل الفلسطيني، التحرري، بنفسه، واستقلاله بها. وضرورة فصل فهم العنف الإسرائيلي، الماثل والمتمادي، عن أضعف تسويغ للعنف، مسألة حاسمة إذا شئنا التفكير في الوسائل الأخرى الآيلة إلى إلغاء النظام الكولونيالي، وإلى التخلص من التوقيف الاعتباطي، والتعذيب في السجون الإسرائيلية، ورفع الحصار عن غزة. فمعرفة أي عالم لا يزال متاحاً لكل سكان المنطقة تتعلق بطبيعة الوسائل التي تنهي النظام الكولونيالي. وجواب "حماس" عن هذه المسألة مرعب ورهيب.

والحق أن ثمة وسائل أخرى غير الهجمات على المدنيين. ولكن إذا حيل بيننا وبين سؤالنا عما إذا كان النظام العسكري الإسرائيلي في المنطقة تمييزاً عنصرياً أم استعماراً، فلا سبيل لنا إلى فهم الماضي والحاضر والمستقبل، وإلى صوغ مبادئ أخلاق سياسية مناسبة. ويقتضي هذا وقتاً، وتعلماً، وشجاعة على التسمية، تمهد إلى صحبة الإدانة الأخلاقية برؤيا أخلاقية.

ويتساءل بعضهم، حين إدانة "حماس" على هجومها، عن الحاجة إلى إرساء هذه الإدانة على فهم ما يدان. فما فعلته يستحق الإنكار من غير معرفة شيء عن فلسطين. أو عن المنظمة. وهذا يعني قبول الإطار الجاهز. والعزوف عن التساؤل يعني صرف النظر عن بلورة رأي في هذه الأفعال، والاقتصار على تناقل الآراء والروايات، وعلى روايتها. وذوو النوايا الحسنة، الناس الطيبون، يعيشون على هذا النحو. ولكن لقاء أي ثمن؟

وإذ مضينا على السؤال، على خلاف هذا، عن السبيل إلى تحرير المنطقة من مثل هذا العنف، وعن صورة الحياة التي تؤدي إلى هذا التحرير، وإذا شئنا بناء مستقبل ينتفي منه العنف المتناسل، فلا مناص من الإلمام بتاريخ أحوال المنطقة، و"حماس" جزء من هذا التاريخ: نموها واشتداد عودها في أعقاب دمار ما بعد "أوسلو"، وتاريخ الشعب الفلسطيني وتطلعه إلى الحرية، وإلى حقه في تقرير مصيره السياسي خارج النظام الكولونيالي، والعنف البوليسي، والاعتقال المخيِّم.

وقد تسهم هذه المعرفة في النضال من أجل قيام فلسطين حرة تذوب فيها "حماس"، أو تحل محلها جماعات تتطلع إلى مساكنة من غير عنف.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وينبغي رفض اعتبار كل فهم للظروف والملابسات تبريراً للوقائع، وحملاً على النسبية، وامتناعاً من الحكم الأخلاقي. وتغليب فظاعة اليوم الحاضر، والحادثة التي وقعت فيه، قد يحول دون احتساب المظالم التي كابدها الشعب الفلسطيني عقوداً، على شاكلة متفجرات واعتقالات واغتيالات، وعلى شاكلة الكارثة الإنسانية والخسائر البشرية، في غزة اليوم.

وتؤدي اللغة التي تستعمل في وصف الحوادث دوراً في الفهم ينبغي التنبّه إليه. فالقول إن الحال في غزة هي "حرب" بين إسرائيل وبين "حماس" يملي إطاراً للفهم، ويقيد الفهم بهذا الإطار. أما إذا وصفت غزة بأنها محتلة، أو بأنها سجن من غير سقف، وجب تأويل الوقائع على نحو مختلف. وإذا قيل إننا لا نحتاج، في صوغ حكمنا الأخلاقي، إلى معرفة عدد الأطفال والفتيان الفلسطينيين الذين قتلوا في الضفة وغزة هذه السنة، أو في أثناء سنوات الاحتلال السابقة، فمعنى هذا أننا لا نريد معرفة تاريخ العنف والحداد والغضب التي عاناها الفلسطينيون.

ولكن ألا تمر لحظة يتصور فيها الإسرائيلي المفجوع بخسارته في أهله فجيعة الفلسطيني؟ فلا شك في أن اليهودي مسكون بهاجس الفظائع التي حلت في ناس مثله. وفظائع مثلها نزلت في ناس ليسوا مثله، ولكن ينبغي ألا يستحيل عليه تصوّرها.

والمقارنة بين حياة شخص من قوم وبين حياة شخص من قوم آخرين، على سبيل التقويم والترتيب، يدخل في باب العنصرية. وتأطير العنف في إطار عنصري تجدد المقابلة بين "المتحضرين" و"الحيوانات". وقبول العبارات العنصرية يحيل إلى المشكلة التي يتوجب حلها، وإلى إطارها البنيوي، أي النظام الكولونيالي، لذا، لا يجوز صرف النظر عن تاريخ المَظلمة باسم اليقين الأخلاقي. وذلك لأن صرف النظر يقود إلى ارتكاب مظالم جديدة، ويضعف يقيننا، في آخر المطاف، ويفقده سنده الواقعي والخارجي.

وفي وسعنا، من غير شك، أن ندين أفعالاً بشعة وكريهة أخلاقياً، من غير خسارة قدرتنا على التفكير والمعرفة والرأي. وحرية تسمية عنف إسرائيل، وصور العنف الأخرى، ووصفه ومعارضته، من غير خشية تهمة العصبية على السامية، من شروط الجمع بين الإدانة وبين المعرفة والفهم".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير