ملخص
تحولات طرأت على المجتمع الجزائري بشكل لافت لتحطم كل التقاليد والعادات التي فشلت في الصمود أمام العولمة
بين العولمة وصعوبة الحياة تبرر العائلات في الجزائر مثل السلطات تراجع الاهتمام بالمسنين، وإن كان هناك بعض الجهود من أجل تحسين الأوضاع غير أنها تبقى منقوصة، ولعل تضاعف عدد دور العجزة كفيل بالكشف عن حقيقة الواقع.
تجدهم في مختلف الأماكن، يقضون أوقاتهم في الأسواق والمقاهي والحدائق والشوارع وفي المساجد، هؤلاء هم فئة المسنين الذين باتوا يواجهون قساوة العائلة، وهم من "الضحايا المحظوظين" على اعتبار أنهم يبيتون في منازلهم وسط بعض الأبناء والأحفاد ويستيقظون قرب الجيران، عكس نظرائهم الذين يعانون في صمت وسط جدران دور المسنين.
وبين من يعتبر الاعتناء بوالديه أمراً شاقاً، ومن يسعى إلى الحصول على ميراث، ومن أطاع زوجته التي رفضت العيش معهما، يبرر أولئك الذين ينقلون أهلهم إلى دار المسنين. ويقول ناشطون اجتماعيون، إنه في هذه الحالة تتغلب المصلحة الشخصية على الروابط الإنسانية ثم العائلية، ويظهر التغير الذي مس المجتمع الجزائري بشكل لافت محطماً كل التقاليد والعادات التي فشلت في الصمود أمام العولمة.
أرقام ونسب
وتوقعت أرقام الديوان الجزائري للإحصاءات أن يبلغ عدد المسنين ستة ملايين وسبعة آلاف شخص في غضون 2030، مما يشكل نسبة 14 في المئة من سكان الجزائر، وهي حالياً ثمانية في المئة. بينما ذكر تقرير أعهدته مديرية الشؤون الاقتصادية والاجتماعية في الأمم المتحدة أن الفئة العمرية التي يتراوح عمرها بين 60 و79 سنة ستشهد ارتفاعاً يصل إلى 20.5 في 2050 مقابل 7.4 في المئة حالياً، كما توقع أن ينخفض عدد الجزائريين الذين تقل أعمارهم عن 15 سنة بشكل لافت من 27.8 في المئة من عدد السكان في 2013 إلى 20 في المئة عام 2050، ثم ينخفض مرة أخرى إلى 16.7 في المئة عام 2100. وأضاف أن نسبة الجزائريين الذين يبلغون 80 سنة سترتفع إلى 2.2 في المئة من مجموع السكان في آفاق 2050 ثم إلى 7.4 في المئة في آفاق 2100.
عاملان رئيسان
وفي السياق، يعتقد الباحث في كلية العلوم الاجتماعية دحو بن مصطفى، في تصريح لـ"اندبندنت عربية"، أن هناك عاملين رئيسين تسببا في هذه الظاهرة، أولهما قانوني والآخر اجتماعي. السبب القانوني يرجع إلى التخلي عن الردع الذي أقره كل من دستور 76 ودستور 89، الذي كان يلزم الأبناء رعاية الوالدين تحت طائلة العقوبات الجزائية، مستنداً في ذلك إلى المرجعية الدينية المتعلقة بالعقاب على عقوق الوالدين، غير أنه مع دساتير الألفية الجديدة تغير الأمر وأصبح العقاب مقتصراً على إهمال الأبناء مع الدعوة إلى الإحسان للوالدين كالتزام وواجب أخلاقي فقط. وتغير قانون العقوبات ليقتصر على العقوق في حالة العنف الجسدي ضد الوالدين فقط، مشيراً إلى أن دستور 2020 أقر في المادة 71 وجوب رعاية الوالدين تحت طائلة العقوبات، لكن القوانين ذات الصلة لم تتغير بعد، وربما القانون الذي سيعرض على البرلمان في الأشهر المقبلة والمتعلق بحماية الأشخاص المسنين، قد يجسد المادة الدستورية، وشدد على أن الأمر يحتاج إلى تغيير قانون العقوبات والأسرة والشؤون الاجتماعية.
أما السبب الثاني، فيرتبط بالتحول والتغير الاجتماعي الذي طرأ على منظومة القيم، يضيف الباحث بن مصطفى، الذي أبرز أن أمام تراجع قيم الأسرة الكبيرة لمصلحة الأسرة النواة، وتحول نمط العمران من المنزل إلى الشقة، وبروز النزعة الفردانية وتراجع السلطة الأبوية والوصاية الذكورية تحت ضغط الأزمة الاقتصادية، وتراجع تأثير الأعراف الاجتماعية، كلها عوامل جعلت المجتمع يتقبل تدريجاً ظاهرة إيداع الوالدين في دور العجزة، مبرزاً أن المجتمع أسهم من خلال إنشاء مؤسسات رعاية بديلة عن الأسرة في تشجيع هذه الظاهرة التي هي نتاج التفكك الأسري والميل نحو الاستقلالية والفردانية، معتبراً أنها تشكل تدميراً بطيئاً للأسرة، وتهديداً لتماسك ووحدة النسيج الاجتماعي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأوضح الباحث في العلوم الاجتماعية، أن ما أفسده القانون يجب إصلاحه من طريق القانون الذي هو مطالب بأن يمنح مديري مؤسسات الرعاية صلاحية الإخطار ورفع الدعاوى لكون الآباء المودعين في دور العجزة يرفضون فعل ذلك بدافع الأبوة والحنان، كما يجب تغيير قانون الأسرة وقانون الإجراءات الجزائية ما دام الدستور يقر صراحة في المادة 71 أنه تحت طائلة العقوبات الجزائية، يلزم الأبناء برعاية الآباء والإحسان إليهم. وأردف أنه بات من الضروري إعادة الاعتبار للقيم الاجتماعية والثقافية من خلال الإعلام والمدرسة والأطر الاجتماعية للثقافة.
اهتمام غذائي وصحي
من جانبه، يرى أستاذ علم النفس بوجمعة وردالي، أنه على رغم الإجراءات التي اتخذتها السلطات المعنية في سياق التكفل بالفئات الاجتماعية الهشة، من بينها فئة كبار السن، لا سيما من خلال تمكينهم من بعض الامتيازات الاجتماعية، وتعزيز المرافقة النفسية، إلى جانب اعتماد آلية الوساطة الاجتماعية والأسرية كأداة فعالة في دعم اللحمة الاجتماعية والنسيج الأسري. إلا أن المعاناة لا تزال مستمرة على اعتبار أن الأمر نفسي أكثر منه مادياً، مشيراً إلى أن الرعاية الصحية الشاملة أسهمت في تحسين متوسط العمر، إذ بحسب الإحصاءات الأخيرة فإن نسبة الأشخاص الذين يبلغون سن الـ60 وما فوق، تقارب 10 في المئة من مجموع السكان، وأن نسبة متوسط العمر فاق 76 سنة.
ويواصل وردالي أن "دور العجزة تخفي خلف أسوارها كثيراً من القصص والحكايات لآباء وأمهات لم يعد مرغوباً بهم في منازلهم، وغير مرحب بهم من قبل أبنائهم لأسباب كثيرة ومختلفة". وقال، إن دور المسنين تحولت من دور تأوي من لا يملك منزلاً أو ملجأ إلى مأوى للوالدين، مبرزاً أن دور العجزة تعتبر المكان الأمثل لهذه الفئة كونها تقدم الرعاية الكافية والاهتمام المطلوب من الجانب الغذائي والصحي. وختم بأن "حرقة القلب وحزن الروح قصص لن يفهمها سواهم".
جهود لا تعوض الدفء العائلي
في المقابل، أبرزت وزارة التضامن الوطني أن الشبكة المؤسساتية أنشئت لاستقبال الأشخاص المسنين الذين تخطوا سن الـ65، والمحرومين من سند عائلي والموجودين في وضعية اجتماعية هشة. وأضافت أن هذه المؤسسات المخصصة لاستقبال هؤلاء الأشخاص عرفت تطوراً ملحوظاً من عام إلى آخر، إذ زاد عددها من ثلاث مؤسسات عام 1980 إلى 32 مؤسسة في 2021. ويرجع ذلك إلى سعي الدولة لتغطية مختلف مناطق البلاد، بهدف ضمان التكفل لفائدة هذه الشريحة مع التركيز على سياسة إعادة الإدماج في الوسط الأسري.
وبحسب الوزارة، فقد سجل تراجع مستمر في عدد المقيمين بمؤسسات استقبال الأشخاص المسنين، حيث انخفض عدد الموجودين بهذه المؤسسات من 2185 شخصاً في 2010 إلى 1444 شخصاً عام 2021، وشددت على أنه رغم الإمكانات البشرية والمادية والتدابير والبرامج المتخذة لضمان راحة الشخص المسن والتكفل به في هذه المؤسسات، يبقى للأسرة دور محوري في توفير الدفء العائلي.