ملخص
على مدار الكتاب تنبئ سميث القراء المرة تلو الأخرى أن أميركا مشروع لصناعة الروح وأن صراعها الداخلي ناجم عن روح متصارعة.
قد يتولى باراك أوباما رئاسة أميركا، بعد أن سبقه كولين باول وكوندوليزا رايس وغيرهما إلى مناصب رفيعة وقد تحظى توني موريسن، الحاصلة على نوبل في الأدب، باحترام عظيم من أمتها بمختلف أعراقها وقد يصل مايكل جاكسون إلى مقام في الغناء الأميركي لا ينازعه فيه منازع.
قد ينتشر الأميركيون ذوو الأصل الأفريقي في شتى مناحي الحياة الأميركية العامة نجوماً وقادة، لكن بركان العبودية والتفرقة العنصرية بادي الخمود لم يزل مضطرم الباطن، ولم يزل يثور بين الحين والآخر إثر حادثة هنا أو واقعة هناك ونصادفه أيضاً، أي ذلك البركان، في شعر الأميركيين السود ورواياتهم بل وأغنياتهم. ولا يعني هذا بحال أن الفن يؤبد الغضب أو يؤججه، لكنه ببساطة لا يملك أن يغض الطرف عن دم لم يزل يسيل.
هكذا يظل الفن الأميركي الأسود والأدب بخاصة، مخلصاً لقضية العنصرية، وإرث العبودية، ما لم نقل إنه يظل حبيس هذه التجربة الإنسانية لا يجد له مخرجاً.
أخيراً، صدر لتريسي كيه سميث كتاب سيري عنوانه "من أجل تحرير الأسرى: نداء إلى روح أميركا". وسميث (1972-) شاعرة أميركية من أصل أفريقي، سبق لها الفوز بجائزة بوليتزر، وتولت منصب أميرة شعراء الولايات المتحدة [أي المستشارة الشعرية لمكتبة الكونغرس] في الفترة من 2017 إلى 2019، وهي أستاذة الدراسات الإنجليزية والأفريقية والأفروأميركية في جامعة هارفرد.
تبدأ سميث الكتاب بقولها "يمكن أن يوصف ما أسعى إليه [هنا] بقولي إنني أبحث عن العائلة الروحية التي أنتمي إليها. لأنني أعيش منذ أمد بعيد مع الموتى، ممن يأبون أن يتخلوا عني. في الغالب يكون أبواي الراحلان هما اللذان يأتيان، سواء في الاضطراب أم في الضجر، للمواساة أو للنصيحة".
أشباح الموتى
تستهل بيكا روثفيلد استعراضها للكتاب "واشنطن بوست- 2 نوفمبر (تشرين الأول) 2023"، بسؤال: "ماذا لو أن أشباح الموتى ترجع لا لتطارد أو لتفزع، وإنما لأنها لا تحتمل التخلي عن متع الحياة اليومية؟ في كتاب تريسي كيه سميث الجديد المؤلف من مقالات مترابطة، تتخيل الشاعرة رجوع أبويها الراحلين طيفين مدهشي البساطة".
لعل أشهر عودة لأب ميت في الأدب على الإطلاق هي عودة ملك أحالت حياة ولده إلى مأساة. ومن أجل ظهور طيف ذلك الأب الملكي، كان لا بد من قلعة وأمير كئيب وعم غادر وأم خائنة، فضلاً عن حفار قبور عصي على النسيان ومسرحية داخل مسرحية وجمل خالدة ومنولوجات لم يزل ينكب عليها الأساتذة والطلبة في أربعة أركان الأرض، لكن الوضع عند سميث مختلف تماماً عنه في هاملت، فهنا تكون الشاعرة واقفة في المطبخ:
"كنت واقفة في مطبخي بماساتشوستس، ناظرة إلى صف الأشجار الطوال إذ تتلوى وتتلألأ في ريح أواخر الخريف". وحينها ظهرت الأم، لا شبحاً يتعابث على أسوار قلعة شاهقة وإنما فكرة في روع ابنتها:
"اشتري سيارة جديدة، لا تهدري دولاراً آخر على هذه اللاندروفر. تجاوزي المشكلة. هاتي لنفسك واحدة متينة بسعر معقول، هاتي أضخم تويوتا تعثرين عليها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صحيح أن هذه لا تبدو نصيحة من عالم آخر بقدر ما تبدو أشبه بلغة موظف مبيعات يعمل بالعمولة في وكالة سيارات، لكن هذا ما تكبدت الأم، أو روحها، عناء المجيء من العالم الآخر لتنبئ به ابنتها، وما كان لابنتها، ابنة أميركا السوداء، أن تتعالى عليه. تقول روثفيلد إن أشباح سميث "لا تحمل رسائل جليلة ولا نبوءات ملحة، لكنها تتوق بدلاً من ذلك إلى ما هو أصغر، وما لعله، في الوقت نفسه أسمى: تريد أن تواصل الوجود الذي كان لها من قبل. فمثلما تشير روح والدة سميث بشراء سيارة جديدة قبل أن تنهار القديمة، يرشدها شبح أبيها إلى الجمال البسيط: (طائر مالك الحزين على بحيرة أو نقار الخشب ينهال على شجرة)".
تكتب سميث كما تقول روثفيلد "نثراً مبهراً ودقيقاً. ففي كل صفحة من هذا الكتاب تقريباً عبارة أو جملة تقف أمامها ملياً، أو كلمة (تكون صفة في العادة) تبدو في مكانها الدقيق، وغير المتوقع أيضاً، فتضفي الطزاجة على لغة عادية ومألوفة.
يكتب الشاعر الأميركي شين مكراي (نيويورك تايمز 3 نوفمبر 2023) أن كتاب تريسي كيه سميث الأخير يأتي في نوع مختلف كل الاختلاف عن كتبها السابقة التي بدأت نشرها في عام 2003 بديوان "سؤال الجسد". فالكتاب الأحدث في آن واحد "سيرة ودراسة للعلاقات بين الأعراق في أميركا"، ويجدر القول هنا إن عنوان الكتاب الفرعي هو "نداء إلى روح أميركا".
يقول مكراي إن "أميرة الشعراء السابقة تكتب هنا حياتها بوصفها نموذجاً مصغراً لتجربة الأميركيين السود. لقد كنت أنتظر من الكتاب في البداية أن يكون دراسة للحظتنا السياسية الراهنة، وحينما استهلته سميث بنظرة على تاريخ أسرتها الخاصة، رأيت أن هذه هي الطريقة المنطقية لهذه الدراسة، ولكوني أسود أنا الآخر، فقد كنت أعلم أن أي قصة تتبع أجيال عائلة سوداء في أميركا هي قصة أميركا نفسها... ولحظة أن توقعت من سميث الانتقال إلى الخارجي، وجدتها تنفذ هذه الانتقالة بسلاسة لتقول إنها -بكونها أميركية سوداء- ليست (حرة) لكن (محررة)".
تكتب سميث: "غلطتي، أراها الآن، هي أنني آمنت أني حرة، تلك الحرية التي اغتنمت لأجلي قبل زمن بعيد. غلطتي هي أنني مارست حرية لم أكن، في واقع الأمر، أمتلكها. ففي الواقع أنا لست حرة وإنما محررة". و"في موضع ما بين (الحرة) و(المحررة) تكمن روح أميركا" كما ينقل مكراي عن سميث.
رحلة إلى روح أميركا
يكتب شين مكراي أن "من الممكن قراءة كتاب (تحرير الأسرى) بوصفه قصة رحلة إلى تلك الروح -وهي إلى حد كبير رحلة داخلية- وبوصفه أيضاً، في ظل أوصاف سميث لبعض الممارسات الروحانية، شعيرة لاستحضار تلك الروح. وسميث لا تعطينا فقط لمحة عن هذا البلد من خلال أعين أبويها وأقاربها، لكنها تقدم أيضاً دييغو، زوجها الأول، المكسيكي، إذ تكتب أنه يحمل "جسده النحيل صارماً" ماضياً في أحياء السود. "فهل يحييهم حينما يقابلهم؟ تقريباً". و"يشد جسده، ويرفع ذقنه ثم يعود فيدنيها، مومئاً أو يكاد. مثبتاً عينيه على الطريق من أمامه، واضعاً يديه في جيبيه، سريع القدمين، مارقاً من بينهم. متقياً. غير راغب في أن يبطئه سؤال قد يطرحونه. يشعر أحياناً أنه مرغم على الكلام، على الرد. هاي يا رجل. يقولها ممتثلاً. هاي يا رجل. يقولها متدرعاً بها".
يرى مكراي أن وصف سميث "الحاسم" لجسد دييغو يجعل القراء على مقربة منه، فـ"يرون عن قرب كيف تنظر أميركا إلى السود، وإن تكن أميركا هذه مجسدة في شخص ينحدر من بلد بينه وبين أميركا حدود ملتهبة".
ويتابع "على مدار الكتاب، تنبئ سميث القراء المرة تلو الأخرى أن أميركا مشروع لصناعة الروح، وبوصف مشية دييغو في حي السود تشير إلى أن روح دييغو -إلى حد ما- صناعة أميركية. وماذا يكون البلد الديمقراطي في نهاية المطاف لو لم يكن الروح المؤسسية؟ لكن لو أن البلد محض روح مؤسسية، فلماذا يشتد الأميركيون بهذه الدرجة في الخلاف مع بعضهم بعضاً، وفي الحب بين بعضهم بعضاً؟ إن صراع أميركا الداخلي ناجم عن روح متصارعة. فأجزاء الجسد تنزع غريزياً إلى التعاضد في العمل لمساعدة الجسد على البقاء، بينما الروح مولعة بتمزيق نفسها بنفسها".
ويواصل "قرب نهاية الكتاب، تتذكر سميث مقابلتها امرأة بيضاء في ندوة شعرية. تسارع هذه المرأة راجعة إلى البيت لتحضر تسجيلاً لجدتها إذ تغني أغنيات شعبية ذكرتها بها قصائد سميث. وحينما ترجع "تبدو المرأة مبهورة الأنفاس، وكأنها قطعت الطريق جرياً في الذهاب والرجوع". تعتذر المرأة قائلة "ما كانت جدتي لترغب مطلقاً في الإساءة إليك، لكن هذه الأغنيات...". ولا يرى مكراي داعياً لإكمال الاقتباس.
لكن سميث تكمله في الكتاب:
"بالطبع، لم أفهمها بسرعة، لكنني الآن أرى الصورة واضحة أمام عيني. هذه الأغنيات. هذه الأغنيات القديمة من كنتاكي. هي مليئة بأفكار وعبارات من المؤكد أن فيها إساءة لي. أشياء ستذكرني بالنظرة التي كانت سائدة للشخص الأسود، وتصنيفه القديم في عقل شخص لا يهتم بإنسانيته أو يؤمن بها. أتصور أن ذلك لم يخطر من قبل لهذه المرأة، التي لم تسمع من قبل في تلك الأغنيات إلا ذكرى طفولتها في بيت جدتها، وما ورثت جدتها من الذكريات عن أبويها وجديها".
يعلق مكراي على تلك الواقعة بقوله إن "تلك الأغنيات هي روح أميركا، كما أن ما فيها من أذى محتمل هو أيضاً جزء من روح أميركا"، وينهي مقاله بقوله إن "كتاب (تحرير الأسرى) هو دعوة سميث إلى أن تغني تلك المرأة أغنية جديدة".
تقول بيكا روثفيلد، إن جمال "تحرير الأسرى" يجعله أقرب إلى قصيدة النثر منه إلى المقالات التي تتألف منها أقسامه الست الطويلة فضلاً عن خاتمته، بخاصة أنه لا يكاد يحتوي على حجج مفصلة أو سرديات مكتملة بقدر ما يحتوي "خيوط شبكة متصلة من الذكريات والتأملات".
تلفت روثفيلد النظر إلى انعطافات في الكتاب إذ "يؤرخ لرحلة مشحونة قامت بها سميث إلى جورجيا، فقضت ليلة في منزل مهجور، بدا ملعوناً، في إحدى مزارع العبيد السابقة، ويؤرخ لأول شهورها في الأمومة حيث شعرت بها في أول الأمر وكأنها أشبه بالاختطاف (كنت أحب نفسي حباً عارماً حتى تقت إلى أن أستردها، وكنت أبكي في بعض الأحيان وأنا أفكر أين تراها ذهبت). تكتب سميث عن زواجها الأول الذي ضيق عالمها وزواجها الثاني الذي وسعه، لكن القدر الأكبر من الكتاب بحث في الأنساب".
وتضيف "حينما تبدأ الشاعرة الغوص في ماضي عائلتها، تعجز في كثير من الحالات عن العثور على معلومات عن أقاربها فتلجأ إلى طرق البحث الأكثر عمومية. هي تعرف أن جدها تطوع في الجيش خلال الحرب العالمية الأولى فإذا بالبحث يكون عن (صور الجنود السود في زمان جدي) وتقرأ عن رجال انضموا إلى الجيش راجين أنهم بالمساعدة في الدفاع عن الديمقراطية في أوروبا قد يثبتون ولاءهم -أي ولاءنا- لهذه الأمة". فهل كانت تلك هي دوافع جدها؟ تكتشف أن لها من العمات والأعمام 14، لكن ثمانية فقط هم المسجلون في ما بقي من سجلات. "من المفقودون؟ متى كان ميلادهم؟ ما الذي خضعوا له في حياتهم؟". وفي مرحلة معينة، تدلها وثائق الإحصاء الرسمي أن جدها (عاش في بيتين منفصلين في وقت واحد، في أحدهما كان ابناً غير متزوج، وفي الآخر كان رجلاً حديث الزواج)".
"ترغمها هذا الارتباكات والتناقضات على التخلي عن الأرشيف بانحرافاته اللطيفة، فتعمد بدلاً من ذلك إلى أن تستحضر أسلافها بحمية روائية. فهي لم تشهد قط شباب أبيها، لكن بوسعها أن تتصوره طفلاً فضولياً، يلعب بالعجلات في ورشة جدها الحداد. وإحصاء عام 1940 يشير إلى أعمامها بوصفهم "عمالاً يشتغلون 40 ساعة في الأسبوع"، لكن من وراء هذا الوصف الباهت حيوات لا تملك سميث إلا أن تتكهن بها، فـ(لعل المزرعة كانت في حاجة إليهم. وربما النقود التي كانوا يجنونها من وظائفهم كانت ضرورية لتلبية حاجات أسرة كبيرة. ويحتمل أنهم تركوا الدراسة طوعاً لا كرهاً، وأنهم ما كانوا متعلقين بالكتب)".
"كثير من شطحات سميث الخيالية محاولات لتبين ما تخفيه السجلات التاريخية ـ ولبث الروح في جسد الإحصاءات الميت ـ كما أن لغتها الغنائية ترياق لمقاومة التعتيم الحربائي في لغة البيروقراطية".
لعل انصراف سميث عن الأرشيف ليس نتيجة فقط لقصوره أو "انحرافاته اللطيفة"، ولعل لجوءها إلى الخيال ليس انحيازاً وبحسب لطبيعتها الشاعرة، لعله احتماء بالإنساني في مواجهة البيروقراطي والمؤسساتي، لعله استدفاء بالأهل في مواجهة الدولة. لعل كلمات من عينة الأرشيف والبيروقراطية ليست إلا بدائل وأقنعة للمسدس والقانون والدولة. ولعل هذا مما يجعل أدب الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية يسيراً على كثيرين ممن لا يعانون مشكلات واضحة مع العنصرية أو لا يجدون في تاريخهم مظالم العبودية، لكنهم يتماهون مع ذلك الأدب، وناسه، بقوة ما تعرضوا له من قهر وتهميش وتنكر للإنسانية، ويجدون أنفسهم في تجربة تبدو في الظاهر بعيدة كل البعد عن تجاربهم.
عنوان الكتاب: TO FREE THE CAPTIVES: A Plea for the American Soul
الكاتب: Tracy K. Smith
الناشر: Knopf