ملخص
يظهر هذا التحول في موقف سوناك بالسماح بمعاودة استخراج النفط والغاز من بحر الشمال، وإضعاف بعض سياسات الصفر الصافي من الانبعاثات، ثم غيابه الملحوظ عن اجتماعات "الجمعية العمومية للأمم المتحدة" حيث كانت مسألة الاحتباس الحراري في العالم على رأس أولوياتها
تعد قراءة كتاب "طقس النار" Fire Weather لجون فايلانت (الكاتب الأميركي الكندي) تجربة مقلقة للغاية. فالكتاب الذي فاز بجدارة بجائزة "بايلي غيفورد" Baillie Gifford للمؤلفات غير الخيالية لهذا العام يروي تفاصيل اندلاع حرائق الغابات في "فورت ماكموري" بمقاطعة ألبيرتا الكندية في مايو (أيار) عام 2016، عندما التهمت نيرانها في ظهيرة يوم واحد فقط أحياء سكنية بأكملها وتسببت بنزوح 90 ألف شخص من منازلهم.
وعقب صيف شهد نشوب حرائق هائلة في أجزاء واسعة من العالم ظهر بصورة واضحة ومرعبة مدى قوة تأثيرها المدمر، ومع استمرار تصاعد درجات الحرارة العالمية يمكننا أن نتوقع مزيداً من الجحيم المشابه لذلك الذي وصفه فايلانت بوضوح شديد.
ومن المثير للقلق أن نكتشف أن حكومتنا تبدو أقل اهتماماً والتزاماً بمعالجة تغير المناخ، خصوصاً إذا ما قارنا ذلك بموقفها من هذه القضية في الماضي القريب، ويظهر هذا التحول في قرار ريشي سوناك المتعلق بمعاودة استخراج النفط والغاز من بحر الشمال، وإصدار تراخيص جديدة لاستخراج الوقود الأحفوري وإضعاف بعض سياسات الصفر الصافي من الانبعاثات، ثم غيابه الملحوظ عن اجتماعات "الجمعية العمومية للأمم المتحدة" حيث كانت مسألة الاحتباس الحراري في العالم على رأس أولوياتها.
والآن اكتملت الثلاثية، ثلاثة قرارات مخزية مع قيام وزير الخزانة جيريمي هانت بإزالة مسألة مواجهة تغير المناخ من قائمة الأولويات الأربع الأساس التي يتوقع أن تناقشها "لجنة السياسة المالية" Financial Policy Committee (FPC) التابعة لـ "بنك إنجلترا" Bank of England خلال العام المقبل، وفي بيان الخريف الذي ألقاه قبل أيام، أبلغ هانت محافظ البنك المركزي أندرو بيلي أن الأهداف الرباعية الأساس لابد من أن تتمثل الآن في تعزيز النمو والقدرة التنافسية والمنافسة والإبداع وملكية المساكن وتشجيع التمويل الإنتاجي.
وحتى في ضوء الانتخابات العامة الوشيكة وحرص الحكومة على إعطاء الأولوية لما تعتبره استراتيجيات مفيدة سياسياً للفوز بأصوات الناخبين، فإن هذا التطور يعد حقاً أمراً مثيراً للقلق، وبما أن محادثات مواجهة تغير المناخ على وشك الانطلاق في دبي (في إطار القمة الـ 28 للتغير المناخي Cop28)، فإن حكومة المملكة المتحدة تعمل في الواقع على تقليص أهمية القضية الأكثر إلحاحاً التي تواجه البشرية.
ويبدو أن هذا التحول في الأولويات يأتي مدفوعاً بالرغبة في إعطاء انطباع بأن الحكومة تعطي الأولوية للنمو الاقتصادي على معالجة القضايا الأساس الأخرى المتمثلة في معالجة تغير المناخ.
في العادة يقوم وزير الخزانة بصياغة ما يسمى "خطاب الإحالة" Remit Letter إلى محافظ "بنك إنجلترا" لوضع إطار عمل ومذكرة للأشهر الـ 12 المقبلة للبنك، وفي النسخة السابقة حدد هانت أربع أولويات هي معالجة تغير المناخ وأمن الطاقة والمسائل الدولية والمنافسة وملكية المنازل، لكن موضوع تغير المناخ غاب هذه العام بصورة ملحوظة عن الأولويات الأربع الكبرى، وقد أشار هانت إلى مصطلح "المناخ" في مكان آخر من رسالته لبيلي، إذ أدرج ضمن سياق مناسب لـ "الهدف الأساس" لـ "اللجنة السياسة المالية"، وليس كمسألة مستقلة.
وبعبارة أخرى فهذا يعني أن تغير المناخ لا يعتبر أولوية تستحق التعامل معها بصورة مباشرة، بل عاملاً إضافياً لأهداف أكثر إلحاحاً وذات أولوية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان ريشي سوناك قد كشف بنفسه قبل عامين فقط عن خطط طموحة لتحويل البلاد إلى مركز للأنشطة والخدمات المالية التي تركز بخاصة على الاستثمارات المستدامة بيئياً، وحشد الاستثمارات والقروض لمعالجة مشكلة تغير المناخ والقضايا البيئية الأخرى، لكن هذا التحول الأخير في سياسة الحكومة يتناقض مع تحذيرات كل من محافظ المصرف المركزي أندرو بيلي وسلفه مارك كارني اللذين أكدا الأخطار الكارثية التي يفرضها تغير المناخ على الأسواق، مما يعرض الممتلكات والبنية التحتية وسبل العيش للخطر، ويكبد الاقتصاد كلفاً بتريليونات الجنيهات الاسترلينية، لكن من الواضح أن التركيز على النمو الاقتصادي له الأسبقية.
ومن اللافت للنظر الطبيعة التكرارية للرسالة، فعلى المستوى الشخصي لا يمكنني في الواقع التمييز بين عبارات "النمو والقدرة التنافسية" و"المنافسة والإبداع" و"تعزيز التمويل الإنتاجي" المتداخلة بصورة كبيرة، فهذه المصطلحات تبدو متطابقة تقريباً.
يذكر أن هذه القائمة تتوافق بصورة وثيقة مع الأجندة التي كان وضعها وزير الخزانة في عهد رئيسة الوزراء السابقة ليز تراس، كوازي كوارتينغ، وكان الشعار السائد فيها هو "تحقيق النمو"، ولقي هذا النهج صدى لدى مجموعة واسعة من أعضاء حزب "المحافظين" الذين انتخبوا تراس، فالانتخابات آتية ومن المرجح أن كلاً من سوناك وهانت سيقومان مرة أخرى بتقديم شعبوية حزب "المحافظين" على الضرورات الوطنية.
إن الادعاء القائل بأن "أحداً لا يصوت لمصلحة حزب الخضر" لم يكن دقيقاً تماماً، فقد قطع الحزب أشواطاً كبيرة في تحقيق إنجازات مع النائبة كارولاين لوكاس ومئات من أعضاء المجالس المحلية، فعلى الصعيد العالمي شكّل "حزب الخضر" في بلدان أخرى قوة انتخابية لا يستهان بها.
ومع ذلك أشار ذلك إلى عقلية شكلت الرسائل التي أملت على وجه التحديد ما يجب التأكيد عليه لإقناع الناس بالتصويت لمصلحة حزب "المحافظين"، فيمكننا الجمع بين جهود النمو وتغير المناخ كما فعل رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون خلال فترة توليه السلطة عندما كشف عن "خطته الطموحة ذات النقاط الـ 10" لتحقيق "ثورة صناعية خضراء" في بريطانيا، وكانت تهدف إلى جعل البلاد دولة رائدة عالمياً في مجال الطاقة المتجددة، وبناء توربينات توليد الطاقة من الرياح وتصنيع السيارات الكهربائية وتعزيز كفاءة استخدام الطاقة في المنازل.
لكن اليوم لا يؤتى على ذكر هذه الأهداف لأن القيام بذلك يعني إحياء ذكرى نظام مختلف فقد صدقيته، وكما كانت هي الحال مع سياسة "تحسين أوضاع المناطق البريطانية وإحيائها" فقد رُميت في سلة مهملات السياسات والضرورات المهجورة، ولا تعد هذه طريقة مستحيلة لحكم البلاد تتسم بالتخبط والتحولات المتكررة وحسب، بل تعتبر أيضاً ممارسة غير مسؤولة على الإطلاق.
نعم من حق "المحافظين" السعي إلى الحصول على دعم الأفراد لهم في الانتخابات ما استطاعوا ذلك، إلا أنهم مدينون بالمقدار نفسه بواجب رعاية مصالح الناس، وفي النهاية ينبغي ألا نتجاهل تحديات تغير المناخ، بل يتوجب علينا وضعها على رأس قائمة "المهمات التي يجب أن تقوم بها" كل حكومة في مختلف أنحاء العالم، ومن الواضح أن "المحافظين" في مناوراتهم الانتخابية إنما يلعبون في الحقيقة بالنار، وإذا لم يتوافقوا على شيء فيتعين عليهم قراءة كتاب جون فايلانت بتمعن، وعنوانه الكامل "الطقس الناري: قصة حقيقية من عالم أكثر احتراراً" Fire Weather: A True Story from a Hotter World، فلربما يدفعهم ذلك إلى إعادة النظر في سياساتهم ومواقفهم.
© The Independent