ملخص
جردة عام 2023: ما أوضاع القوى الدولية والتوازنات القائمة والمقبلة؟ وما دور "بريكس" و"شنغهاي" في تشكيل النظام العالمي الجديد؟
على مشارف عام جديد وآخر ينسل من بين الأصابع يبدو المشهد الدولي في حاجة إلى ما يشبه جردة العام وأوضاع القوى الدولية والتوازنات القائمة والمقبلة ومدى إمكانية تغييرها أو تعديلها لملامح ومعالم النظام العالمي الحالي.
حفل عام 2023 بتطورات على صعيد ظهور تحالفات جديدة، لا سيما بعدما مضت مجموعة "بريكس" في طريق تطوير كيانها، عبر انضمام أعضاء جدد مع صحوة مماثلة لمنظمة "شنغهاي"، مما طرح - ولا يزال يطرح - تساؤلاً جوهرياً حول مدى إمكانية لعب هذين التحالفين، منفردين أو مجتمعين، دوراً في تشكيل النظام العالمي الجديد، والذي يتحدث عنه كثر حتى الساعة، ومن غير ظهور فعلي لحقائقه على الأرض.
على أنه في أية حال من الأحوال لا يمكن القطع بجواب شافٍ وافٍ عن التساؤل المتقدم من غير بلورة مفهوم التحالفات والائتلافات أول الأمر.
وفي مؤلفه الشيق "العالم بإيجاز" يذهب المفكر الأميركي الشهير الرئيس الفخري لمجلس العلاقات الخارجية في نيويورك ريتشارد هاس إلى أن التحالف هو مجموعة من الدول التي تجتمع معاً لتعزيز ما تعده مصالح أمنية مشتركة، وتحمل جميع التحالفات التزاماً رسمياً بتقديم العون العسكري، وربما أنواعاً أخرى من الدعم، إذا تعرض أي عضو في التحالف للهجوم، أو واجه احتمالاً مباشراً للهجوم عليه. ويمكن أن تتضمن التحالفات تقديم المساعدة (سواء عسكرية أو استخباراتية أو اقتصادية) وتدريبات مشتركة، وفي الأقل بعض التكامل في صنع القرار للاستعداد للطوارئ المحتملة، وللمساعدة في ردعها، وتتطلب التحالفات القوة والإرادة والوفاء بالالتزام، ولا يمكن للتحالف أن ينجح إذا غاب أي منها.
والثابت أنه عادةً ما يمثل قرار تشكيل تحالف أو الانضمام إليه تقدير أن مزايا العضوية تفوق الكلف والالتزام، وأفضل من وقوف الدولة بمفردها، وكما عبر رئيس وزراء بريطانيا العظمى الأسبق ونستون تشرشل إبان الحرب العالمية الثانية ذات مرة، "هناك شيء واحد أسوأ من القتال إلى جانب الحلفاء، وهو القتال من دونهم".
هل تتوافر لشنغهاي و"بريكس" شروط هذه التحالفات؟ وهل يرقيان منفردين أو معاً، إلى قوة وحضور حلف "الناتو" الحالي، أو حلف وراسو الذي كان؟
في هذه السطور نحاول مشاغبة أيقونة التحالفات والائتلافات في منتصف العقد الثالث من القرن الـ21.
"بريكس بلس"... تحالفات أممية جديدة
مثل مؤتمر قمة دول "بريكس" الذي عقد في جنوب أفريقيا خلال أغسطس (آب) الماضي، علامة جديدة على الطريق الدولي، ومحاولة ضمن محاولات عديدة لبلورة صورة مغايرة لنظام عالمي جديد يختلف عما هو قائم الآن.
جذبت قمة "بريكس" 2023 بالفعل اهتماماً دولياً غير مسبوق، وربما مرجع الأمر اتساع دائرة المشاركة وانضمام دول ذات ثقل جغرافي وديموغرافي من جهة، واقتصادي ومالي من جهة ثانية، مما عزز بالفعل السباق الجيوسياسي المتزايد بين المعسكرين الشرقي والغربي، ولو مجازاً، أي بين الولايات المتحدة الأميركية كنقطة ارتكاز، والصين كوجهة مقابلة ومنافسة.
وينظر بالفعل إلى دول "بريكس" على أنها يمكن أن تشكل في إجمالي المشهد نوعاً من أنواع التحديات للدوائر الغربية بقيادة أميركا، لا سيما من خلال ما يتوافر لها من قوى أدبية ومادية.
يعن لنا هنا أن نذكر ولو في عجالة بمقدرات دول "بريكس"، والتساؤل في بداية الأمر هو "من الذي يقود تحالف (بريكس)"؟
المؤكد أنه ليس هناك جواب رسمي علني، كما لا يقول أحد إن أميركا هي زعيمة "الناتو"، وهي كذلك بالفعل، لكن القاصي والداني يدرك تمام الإدراك أن الصين هي المحرك الفعلي والرئيس لـ"بريكس"، ثم "بريكس بلس"، فهل من دليل مقنع على صحة هذا الكلام؟
ربما يكون خطاب الرئيس الصيني شي جينبينغ في جوهانسبورغ في أغسطس الماضي، خير دليل على الدور الصيني في "بريكس" وما يتبعها.
اعتبر بينغ أن دول "بريكس" تختار مساراتها التنموية بشكل مستقل، وتدافع بصورة مشتركة عن حقها في التنمية، وتسير جنباً إلى جنب نحو التحديث، مما يمثل اتجاه تقدم المجتمع البشري، وسيؤثر بصورة عميقة على عملية التنمية في العالم.
وأشار بينغ كذلك إلى أن دول "بريكس" تتمسك بالنزاهة والعدالة في الشؤون الدولية، وتدافع عما هو صحيح في ما يتعلق بالقضايا الدولية والإقليمية الكبرى، وتعزز صوت وتأثير الأسواق الناشئة والدول النامية.
ولم يدار أو يوار بينغ رغبته في قيام أعضاء التحالف بالمساعدة في إصلاح نظام الحوكمة العالمية لجعلها أكثر عدلاً وإنصافاً، وجلب مزيد من الاستقرار والطاقة الإيجابية للعالم.
وبمزيد من الصراحة دعا بينغ الدول الأعضاء إلى العمل بصورة مشتركة من أجل درء الأخطار وتعزيز إنشاء آلية دولية للمشاركة العالمية وتطوير أطر ومعايير حوكمة الذكاء الاصطناعي بتوافق واسع النطاق، من أجل جعله أكثر أماناً وموثوقية وقابلية للتحكم بشكل مستمر.
هل تبدو هذه دعوة إلى قيام نظام عالمي جديد؟
الذين طالعوا الكلمة، أو استمعوا إليها، يدركون أن الصينيين يسعون من دون تعجل، ووفقاً للمنهج الكونفوشيوسي، إلى بلورة نظام عالمي مواز في الحال، وربما منافس في الاستقبال، للنظام الأحادي القطبية الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأميركية، ومنذ سقوط الاتحاد السوفياتي أوائل تسعينيات القرن الماضي، أي منذ ثلاثة عقود تقريباً.
لكن، هل "بريكس" بالفعل تجمع على قلب رجل واحد قادر على مناوشة ومشاغبة "الناتو" والتجمع الحضاري الغربي؟ أم أن هناك في عمق هذا التنظيم خلافات تكتونية تمنع "بريكس" بالفعل من أن يصبح قوة عالمية مناوئة للقوى الغربية التقليدية، لا سيما في ظل صحوة حلف "الناتو" بعد الحرب الروسية – الأوكرانية؟
دعونا نؤجل الجواب قليلاً، ونتوقف مع منظمة شنغهاي ومآلاتها وحظوظها على المستوى العالمي، ومدى نجاعتها وقدرتها على المشاركة في الأقل بتشكيل العالم الجديد الغامض حتى الساعة.
عن شنغهاي الأوراسية أم العالمية؟
هل يختلف تنظيم أو منظمة شنغهاي عن "بريكس"؟ غالب الظن أن شنغهاي غارقة في الحضور الجغرافي الآسيوي، فقد تأسست عام 2001، في شنغهاي على يد قادة 6 دول آسيوية هي الصين وكازاخستان وقيرغيزستان وروسيا وطاجيكستان وأوزبكستان. وتم توقيع ميثاق منظمة شنغهاي للتعاون في يونيو (حزيران) 2002، ودخل حيز التنفيذ في سبتمبر (أيلول) 2003.
تتمحور أهداف "شنغهاي" حول تعزيز سياسات الثقة المتبادلة وحسن الجوار بين الدول الأعضاء ومحاربة الإرهاب وتدعيم الأمن ومكافحة الجريمة وتجارة المخدرات ومواجهة حركات الانفصال والتطرف الديني أو العرقي والتعاون في المجالات السياسية والتجارية والاقتصادية والعلمية والتقنية والثقافية، وكذلك النقل والتعليم والطاقة والسياحة وحماية البيئة، فضلاً عن السعي من أجل توفير السلام والأمن والاستقرار في المنطقة. هنا يبدو واضحاً أننا أمام منظمة إقليمية، وليس أمام كيان دولي جديد مقبل في الطريق. غير أن شنغهاي وعلى خلاف "بريكس"، استطاعت أن تمد جسور تعاون دولي وأممي بصورة واضحة وسريع، فعلى سبيل المثال أقامت علاقات مع الأمم المتحدة عام 2004، وباتت اليوم عضواً مراقباً في الجمعية العامة، وهو وضع لا تتمتع به "بريكس"، كما انضمت إلى عضوية رابطة الدول المستقلة عام 2005، ورابطة دول جنوب شرقي آسيا في العام نفسه ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي ومنظمة التعاون الاقتصادي في عام 2007، ومكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة في عام 2011، والمؤتمر المعني بالتفاعل وتدابير بناء الثقة في آسيا عام 2014، وانضمت للجنة الاقتصادية والاجتماعية لآسيا في العام ذاته، وللجنة الاقتصادية والاجتماعية لآسيا والمحيط الهادئ التابعة للأمم المتحدة عام 2015.
من هذه الشراكات بدأت "شنغهاي" تنمو وتتمدد، وتأخذ طابعاً جغرافياً أوسع يفتح أمامها أبواب الأممية من دون أدنى شك، ففي يونيو 2010، وافقت "شنغهاي" على إجراء قبول أعضاء جدد، إذ أعرب عديد من الدول المراقبة عن رغبتها في الانضمام والعضوية الكاملة، وفي 2017 انضمت كل من الهند وباكستان إلى المنظمة كعضوين كاملي العضوية في قمة "أستانا" بعدما كانتا من المراقبين.
غير أنه من الواضح أن المساحة الدولية والتقاطعات مع النظام الدولي الحالي تغيب عنها، والتي تركز بصورة أساسية على المخاوف الأمنية المتعلقة بـ"آسيا الوسطى"، لدولها الأعضاء، وغالباً ما توصف التهديدات الرئيسة التي تواجهها بأنها الإرهاب والانفصالية والتطرف، ومع ذلك تتزايد الأدلة على أن أنشطتها في مجال التنمية الاجتماعية للدول الأعضاء تتزايد بسرعة.
هل يعني ذلك أن "شنغهاي" باتت رقماً صعباً في النظام العالمي الجديد، أم أن الطريق أمامها لا يزال طويلاً بالضبط كما هو الحال مع "بريكس" كما سنأتي على ذلك لاحقاً؟
شنغهاي تفكير رغائبي أم واقعي؟
لعل المتابع للقمم الأخيرة لمنظمة شنغهاي يمكنه أن يلحظ تطوراً نوعياً في رغبات القائمين عليها، لا سيما الصين وروسيا، لجهة إحداث تغييرات ملحوظة في بنية النظام الدولي. خذ إليك على سبيل المثال لا الحصر ما قاله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في قمة "شنغهاي" التي عقدت في مدينة سمرقند في أوزبكستان، "إن الدور المتعاظم لمراكز النفوذ الجديدة الذي يتضح بصورة متزايدة، ينبغي تشجيعه والاهتمام به".
شدد بوتين على أن التعاون بين بلدان المنظمة خلافاً للدول الغربية يستند إلى مبادئ مجردة من أي أنانية. وأضاف، "نحن منفتحون على التعاون مع العالم بأسره، ونأمل في أن يدير الآخرون سياستهم استناداً إلى المبادئ نفسها".
هل كان شي جينبينغ ليغيب عن الساحة؟
بالقطع لا، بل إنه كان الأكثر إقداماً في طريق دفع المنظمة إلى مدارات دولية.
قال بينغ، "على القادة العمل معاً على التشجيع على قيام نظام دولي يسير في اتجاه أكثر عدلاً وعقلانية"، مشدداً على أهمية منع أية محاولة من جانب قوى خارجية لتنظيم ثورات ملونة في الدول الأعضاء في منظمة شنغهاي". وأضاف، "يجب أن ندعم جهود بعضنا بعضاً لحماية الأمن والتنمية".
هل يعني هذا بالفعل أن شنغهاي قوة فاعلة على الصعيد الأممي، أم أن الأمر جله تفكير رغائبي قائم على الآمال والطموحات، ولا علاقة له بالواقع؟
من دون تهوين أو تهويل، تبدو شنغهاي وكأنها كيان تنسيقي تشاوري أقرب منها إلى الكيان المؤسسي القائم والمستقر.
هنا لا يمكن لنا في واقع الحال مقارنة منظمة شنغهاي مع كيانات أممية قائمة بالفعل من عينة الاتحاد الأوروبي من جهة، أو حلف "الناتو" من جهة أخرى.
الأمر الآخر الذي يلفت النظر هو أن دول شنغهاي برمتها لا تزال تدور وتعمل في أطر النظام العالمي الغربي لما بعد الحرب العالمية الثانية، لا سيما الأنظمة المالية والنقدية، وفي مقدمها "نظام بريتون وودز" وما يتبعه من مؤسسات عميقة وفاعلة، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
هنا التساؤل هل باتت شنغهاي تمتلك قواعد سياسية أو اقتصادية، وربما عسكرية قادرة على تغيير طرق التبادلات والتعاملات المالية الغربية أو الدخول في معارك لجيوش "الناتو"؟
المؤكد أن أياً من دول المنظمة يمكنها أن تتعرض لأضرار بالغة حال حزمت أمرها على العمل خارج المنظومة التي ضمنت لها صعوداً سياسياً واقتصادياً، ولهذا تعرف جميعها أنها ستكون مستهدفة إذا أرادت الانسلال من سياقات النظام العالمي الحالي لسبب بسيط، وهو غياب البديل.
هل يعني ذلك أنها غير ذات جدوى على صعيد العمل الدولي؟ بالقطع الأمر ليس على هذا النحو، لا سيما إذا قدر لها التعاون مع تجمع "بريكس بلس" في المستقبل القريب، شريطة أن يكون "بريكس" عينه قادراً على لعب الدور المطلوب والمرغوب في تغيير مشهد القطبية العالمية، فهل هو على هذا النحو بالفعل؟
"بريكس" تحديات على أرض الواقع
ليس سراً القول إن حجر الزاوية في "بريكس" هو التعاون الصيني – الروسي، ومن حوله تلتئم بقية الأطراف الدولية الأخرى، فروسيا من دون أدنى شك هي الوريث الشرعي للاتحاد السوفياتي، وبما يتوافر لها من القوة العسكرية، المحددة والمهددة للأهداف الغربية، وعلى غير المصدق النظر إلى معركة أوكرانيا.
أما الصين، فتظل هي قلب آسيا الاقتصادي النابض والعون والسند لبقية أطراف "بريكس"، و"بريكس بلس" في آمالهم وأحلامهم المالية بنوع خاص.
غير أن التساؤل الذي لا مفر منه هو "هل هذا التعاون عميق وأصيل، أم براغماتي ثانوي قائم تحت تهديد ومصالحة متبادلة من الطرفين"؟
من دون الغوص عميقاً في التحليلات السوسيولوجية والتاريخية، لا يمكن أبداً اعتبار الطبقات الحضارية الروسية والصينية، رقائق متشابهة، فالروس السلافيون يختلفون جذرياً عن الصين الكونفوشيسيين، وهذا يجعل خلق نظام عالمي جديد مسألة صعبة إلى حد المستحيلة.
والشاهد أنه على العكس من حلف "الناتو"، والذي لديه ميثاق دفاع مشترك، وفيه البند الخامس الذي ينص على أنه "أي اعتداء مسلح ضد عضو أو أعضاء في الحلف، يعد اعتداءً على جميعهم"، مما يعني الرد الجماعي السريع الجامع المانع.
لا يوجد في "بريكس" هذا التوجه، وتغيب تلك الروح، مما يعني أننا في أفضل الأحوال في منتدى اقتصادي غير قادر على التأثير عسكرياً حال القارعة.
ولعل خير مثال على ذلك، هو الأزمة الروسية – الأوكرانية، ذلك أن الصين، وعلى رغم مخاوفها من أن تكون الثور الملون المقبل الذي يتهيأ العم سام لأكله، لم تبادر إلى مناصرة روسيا عسكرياً، وإنما اقتصادياً وفي أضيق الحدود، خوفاً من أن يكون ذلك فخاً منصوباً يقطع عليها طريق قطبيتها المقبلة.
هذا المثال يوضح لنا تهافت القول إن تجمع "بريكس" يمكنه أن يشكل العالم من جديد، إذ يواجه في الحقيقة تحديات في طريق الصعود كمنافس جيوسياسي يكافئ مجموعة السبع الكبار (أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وكندا وإيطاليا واليابان)، فهل من أسباب منطقية وعقلانية؟
يمكن الحديث في أول الأمر عن عدم التجانس الحضاري والثقافي بين الدول الأعضاء على خلاف الهوية الغربية التي تكاد تكون واحدة. ثانياً يختلف الأعضاء سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، فضلاً عن عدم وجود ميثاق أو معايير رسمية. ويعني هذا أنه على رغم قدرة كتلة "بريكس"، و"بريكس بلس" الموسعة على انتقاد النظام الدولي بصوت أعلى، فإنها ستواجه صعوبات أكبر في الانسجام الداخلي بين أعضائها، بخاصة أنهم لا يتبادلون فحسب مصالحهم الجيوساسية.
ويعد الخلاف بين الصين والهند المثال الواضح على الشرخ العميق الذي يتهدد مستقبل "بريكس"، لا سيما حال اشتعلت معارك النيران الحدودية بين الجانبين، وهو أمر حدث أخيراً، وراح ضحيته عشرات من الجانبين، مما لم يسمع به بين دول الاتحاد الأوروبي، ولا بين أميركا وكندا، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
هناك كذلك قضية العملة الموحدة، والتي لم يقدر لدول "بريكس" بدورهم الاتفاق عليها، مما يجعل الدولار الأميركي حتى الساعة سيد اللعبة، كما أن بنك "بريكس" الذي أعلن عنه برأس مال 100 مليار دولار، لا يزال في واقع الحال بعيداً كل البعد من منافسة البنك الدولي، أو صندوق النقد الدولي.
ولعل هناك عديداً من الأسباب التي تجعل "بريكس" كتلة غير قادرة على مشابهة التكتلات الاقتصادية الغربية، لا سيما في ظل التفاوت الكبير في الدخول بين أعضائها، فعلى سبيل المثال يمثل نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الهند خمس نظيره في الصين وروسيا، وكذلك يختلف الأعضاء الجدد من حيث حجم الاقتصاد وعلاقاتهم الاقتصادية مع الدول غير الأعضاء في مجموعة "بريكس".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن نافلة القول إن "بريكس" ومن حولها، يدورون بصورة رئيسة في فلك الصين اقتصادياً، مما يعني أنه في حال تعرض المشروع الاقتصادي الصيني الجديد لأية انتكاسات، سيهتز كيان المجموعة من أدناه إلى أقصاه، وهو ما تبدت أخيراً علامات عديدة سلبية من حوله، وبخاصة بعد أعوام تفشي جائحة "كوفيد–19"، وفقدان كثير من دول العالم، لا سيما الغربية منها، رغبتها في الاستثمار في الصين.
عطفاً على ذلك فإنه ينظر إلى الصين على أنها أكبر ملوث للمناخ في العالم، مما قاد درجات الحرارة فيها إلى الارتفاع بصورة غير مسبوقة خلال الصيف الماضي، مما رفع من مستوى استهلاك الكهرباء وتسبب في أزمة شديدة أثرت بصورة واضحة في قدرتها على الإنتاج كما كان الحال من قبل.
أوكرانيا وإضعاف "بريكس" و"شنغهاي"
ما الذي يتبقى في هذا الجدل حول قدرة "بريكس" و"شنغهاي" على تغيير النظام الدولي في المدى الزمني المنظور؟
بحسب الاستراتيجي الأميركي جورج فريدمان فإن حرب أوكرانيا قد أضعفت بصورة كبيرة كلاً من روسيا والصين وتركتهما في حالة ضعف اقتصادي، وهي فرصة للولايات المتحدة الأميركية لتعزيز نفوذها وحضورها حول العالم، مع توقع بروز اليابان في آسيا بصفتها قوة مهيمنة تحل محل الصين وبروز إيرلندا في أوروبا.
ويذهب فريدمان إلى أن هناك أسباباً لضعف قدرة الصين على المنافسة، ليس أقلها التداعيات الاقتصادية، ولا تتمتع واشنطن وطوكيو باثنين من أكبر الاقتصادات في العالم فحسب، بل إنهما من أبرز عملاء الصين الرئيسين تجارياً.
وهنا يبدو التهديد العسكري من واشنطن لبكين بنوع خاص، مقروناً على الدوام بالتهديد الاقتصادي، مما يعني أن طوكيو واليابان قادرتان عند نقطة زمنية بعينها على إحداث خلل عميق في توجهات الصين المالية والتجارية.
هل تعمل واشنطن وبروكسل على إفساد طريق الأقطاب الصاعدة، وزعزعة التحالفات المقبلة لمواجهة الأحادية القطبية؟
قد يكون ذلك الأمر صحيحاً بالفعل، لا سيما أن هناك الآن بندقيتين موجهتين ضد الصين، إحداهما عسكرية، وتتضمن الحوار الأمني الرباعي، لليابان والهند وأستراليا والولايات المتحدة، والأخرى اقتصادية، وتشكل تحدياً خطراً لاستراتيجية التصدير الصينية قبل أن تكون مستعدة للتحول إلى الاستهلاك المحلي. ويمكن للحروب أن تحل المشكلات الاقتصادية كما فعلت الحرب العالمية الثانية للولايات المتحدة، لكن من غير المرجح أن يبدأ التحالف العسكري المصطف ضد الصين حرباً، في حين أن بكين قد تواجه تحالفاً خطراً إذا بدأت هي حرباً بنفسها، والبندقيتان يدعم بعضهما بعضاً.
ماذا يعني ذلك؟
باختصار غير مخل، يعني أن قلب العالم القديم، لا يزال لديه الأدوات القادرة على إفشال مخططات التحالفات والائتلافات الساعية إلى ملء مربعات النفوذ الإمبراطوري الغربي المستمر منذ خمسة قرون وحتى الساعة.
التساؤل الأخير قبل الانصراف "هل يعني ما تقدم أنه ما من فائدة ترجى من (بريكس) و(شنغهاي)، في طريق تغيير شكل النظام العالمي الحالي؟".
بالقطع لا، بل ستكون هناك بصمة لهما، لكن الأمر قد يقتضي عقداً أو اثنين، مع شرط تدهور أوضاع الغرب بقيادة أميركا، ولهذا حديث آخر.