Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أندريه غِلاسيموف بين موسيقى الراب والمصح والدير

 رواية "كيف خالص" تقدم صورة عن الواقع الروسي المتعدد والمعقد

الروائي الروسي أندريه غلاسيموف (دار المدى)

ملخص

رواية "كيف خالص" تقدم صورة عن الواقع الروسي المتعدد والمعقد

 تتعدّد دلالات العنوان في المتن الروائي لرواية "كيف خالص" للروائي الروسي أندريه غِلاسيموف، الصادرة عن دار المدى، بتعريب ابراهيم استنبولي، وتختلف من سياق إلى آخر. فالكيف هو، أوّلاً، المتعة الناجمة عن تعاطي المخدّرات (ص 45)، والراحة الناتجة عن رائحة طيّبة (ص 129)، والحنين الذي يثيره سماع الجندي المحارب في الشيشان كلمة روسية عبر التلفزيون (ص 312)، والسعادة المتأتية عن الوجود قرب الحبيب (ص 353)، وهو، أخيراً، الطرب الناجم عن الإصغاء إلى نصّ رابّ جميل (ص 362). على أن هذا التحوّل من الدلالة  الأولى السلبية المتعلّقة بالإدمان إلى الأخيرة الإيجابية المرتبطة بالفن، مروراً بالدلالات الأخرى المتعالقة مع الطبيعة والوطن والحب، على مستوى العنوان، يشغل بضع مئات من الصفحات، هي الرواية.

 أمّا على مستوى المتن الروائي فتبدأ الأحداث، في  مايو (أيار) 1996، في مدينة روستوف الروسية، بدخول بطل الرواية الصبي أناتولي، بصحبة أبيه الضابط، المستشفى للمعالجة  من طلق ناري في ذراعه، أُصيب به خلال  مطاردة عصابة مخدّرات إياه. وتنتهي في إبريل (نيسان) 2017، في موسكو، بإحيائه حفل رابّ ضخم في المجمع الأولمبي. أي أنّها تمتدّ على أحد وعشرين عاماً، وتحصل في غير منطقة روسية. وبين البداية والنهاية جلجلة طويلة يكون على البطل أن يقطعها، على مراحل ثلاث، بدءاً من انغماسه في تعاطي المخدّرات، والانضمام إلى مجموعة تقوم بترويجها. مروراً بإقلاعه عن التعاطي، وخضوعه لعلاج جسدي ونفسي، والتحاقه بدير للتكفير عن خطاياه. وانتهاءً باحترافه "الرابّ" كتابةً وموسيقى وغناءً، وتألّقه نجماً تستقطب حفلاته الآلاف.

  ثيمات ثلاث

 على أنّ، قبل الإضاءة على هذه المراحل، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ مواضيع ثلاثة تنتظمها هي المخدّرات، الحب والفن. تُشكّل الأولى الداء بينما يمثّل الموضوعان الآخران الدواء، فالحب والفن، إذا ما أُضيفا إلى العلاج الجسدي والنفسي والروحي للمدمن،  يمكن أن يُسهما في شفائه وإبلاله من  الإدمان. وهو ما نخرج به من المخاض الذي يمرّ به  البطل، في المراحل الثلاث، محفوفاً بشخوص أخرى، تتعالق معه من مواقع مختلفة، من قبيل الجدّة، الأب، الأخ، الأم، الشريك، الصديق، المساعد، الحبيب، مدير الأعمال، الخصم، الزوجة، الابنة والابن. فَيُشكّل هو المحور الذي تتمحور حوله الأحداث. ويُشكّلون هم الشخوص المتمحورة حوله.

 خلال هذه المراحل، يتمّ تظهير الشخصية المحورية، والشخوص الأخرى المتعالقة معها، من هذا الموقع أو ذاك، في تحوّلاتها المختلفة. وإذا بأناتولي يتحوّل من متعاطٍ للمخدّرات، ومروّج لها، وهاوٍ للرابّ تأليفاً وأداءً، في المرحلة الأولى، إلى مريضٍ يخضع للعلاج الجسدي والنفسي في مستشفى متخصّص، وتائبٍ يلتحق بدير للرهبان ويقوم بالتكفير عن خطاياه، في المرحلة الثانية، إلى مكافحٍ، على طريقته، لتجارة المخدّرات، ومُحْيٍ لبعض الحفلات، وعاشقٍ للروسية الغنية الجميلة يوليا، ونجم رابّ لامع، وربّ أسرة ناجح، في المرحلة الأخيرة. وهكذا، تقول الرواية إمكان شفاء المدمن  من إدمانه، والانتقال من حالة المرض والسلبية والانطواء على الذات، إلى حالة التعافي والتصالح مع الذات والانخراط في المجتمع والتألّق في الفن، إذا ما أُتيحت له فرص العلاج، وأُحيط بالاهتمام والتقدير والحب. وهو ما نتلمّسه في الرواية من خلال المراحل الثلاث التي عاشها البطل / الراوي والشخوص الأخرى المتعالقة معه.

 في المرحلة الأولى، نتعرّف إلى نشأة أناتولي أو توليا في أسرة صغيرة، في روستوف، لجدّة صارمة، قوية، يهابها الجميع ولا يجرؤ أحد على خداعها أو العبث معها، وجدٍّ محاربٍ قديم لا يتورّع عن إنزال العقاب بمن يُؤذي حفيده، وأبٍ ضابط منشغلٍ عن الأسرة بحرب الشيشان بحيث يراه الابن للمرة الأولى وله من العمر سبع سنوات، ومُرَبٍّ شيشاني يقوم مقام الأب في غيابه ويحظى بمحبة الجميع، وأمٍّ متفانية في خدمة أسرتها، وأخٍ صغير يحرص على الالتزام بحسن السلوك، ويحاول ردع أخيه الأكبر عن ارتكاب الأخطاء. وفي هذه المرحلة، ينخرط توليا في أعمال مشبوهة، يتعاطى المخدرات، وينضمّ إلى عصابة صديق الطفولة ديوما، حتى إذا ما تورّط الأخير في نزاع مع عصابة أخرى وأصبح مَديناً لها بمبلغ كبير من المال، لا يدخّر توليا جهداً في مساعدته، ويحاول مع سائر أفراد المجموعة تأمين المال اللازم، انطلاقاً من مبدئيّته وشعوره بالشراكة في المسؤولية.

  مستشفى ودير

 في المرحلة الثانية، نتعرّف إلى المدمن في خضوعه للعلاج الجسدي والنفسي، على يد الدكتورة ناتاشا، وخضوعه للعلاج الروحي في دير للرهبان، في إقليم بسكوف، على يد القسّ ميخائيل. ويقوم بتنفيذ كفّارته في بناء مُصَلّى مهدوم، ويُهمل موهبته الفنّية، ويتعرّف إلى حكايات نزلاء الدير، وينخرط في علاقات عابرة مع بعضهم، ولكلٍّ منهم حكايته المختلفة عن الآخر. فالسيبيري العجوز يلتحق بالدير، بعد مقتل ابنه في حرب الشيشان، وينوء تحت شعور ثقيل بالذنب لأنه هو من أرسله إلى مصيره، وتصدر عنه أقوال حكيمة تعكس عمق تجربته وقوّة وجعه. وشنيرك يأتي إلى الدير من دار للأيتام، بعد أن تخلّى عنه والداه، فعاش يتيماً وهما حيّان. ولعل هذا ما يفسّر سوء سلوكه وقيامه بأعمال مشبوهة. ورئيس الدير القسّ ميخائيل يمارس رئاسته بحزم، ويحرص على حسن سير العمل.

على أنّ نقطة التحوّل في هذه المرحلة تكمن في تعرّف توليا إلى الجميلة الغنية الروسية يوليا، ذات زيارة لها مع أبيها إلى الدير، حتى إذا رأته تذكّرت أنّها سبق أن حضرت له حفلة قبل سنتين. وإذ تواجهه بالأمر، يحاول الإنكار وإخفاء شخصيته الحقيقية. غير أن الحقيقة لا تلبث أن تظهر لتأخذ الأمور منحى آخر، فَيُشكّل التعارف بداية علاقة بينهما، تنجح فيها يوليا بإقناعه بموهبته وإخراجه من الدير إلى العالم، وتنمو العلاقة بينهما إلى الحب والزواج وبناء أسرة، وهو ما يحصل في المرحلة الثالثة.

 نجم فنّي

في المرحلة الثالثة والأخيرة، نتعرّف إلى توليا وقد أنهى كفّارته في الدير وغادره إلى شقة صغيرة. وهنا، يقتحم حياته جورا، أحد رفاق السوء القدامى، ويكون له دور مضاف إلى دور يوليا في إخراجه من عزلته، وتفتيح عينيه على موهبته الكبيرة، وتعريفه إلى بعض المنتجين، مما يسهم في انطلاقةٍ فنّية يؤسّس معها فرقته الخاصّة، وتصل شهرته إلى مدينة دورتموند الألمانية، وتبلغ نجوميّته الذروة، في نهاية الرواية، حين يُحيي حفلة ضخمة في المجمع الأولمبي في موسكو، يحضره الآلاف من الناس. وبذلك، تتضافر الموهبة والحب والإدارة في صناعة نجمٍ فنّي وإتاحة الفرصة له للتألّق. على أنّ تحوّل المسار السلبي إلى مصير إيجابي لا يقتصرعلى الشخصية المحورية في "كيف خالص" بحيث يتحوّل متعاطي المخدّرات، بعد مخاضٍ عسير، إلى نجم راب، بل يشمل شخوصاً أخرى متعالقة معه، بشكل أو بآخر، من دون أن تخوض بالضرورة المخاض نفسه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 الوالد الذي كان يُعيّر ابنه صغيراً بسلوكه المنحرف، ويُسمّيه الابن بـ"الرفيق القائد"، من باب السخرية منه والتعبير عن العلاقة الملتبسة بينهما، لا يلبث أن يتصالح مع ابنه ويعبّر عن فخره به. ولعل واقعة إعطاء الابن أباه مبلغاً كبيراً من المال، لدى عودته من موسكو إلى روستوف، لشراء الهدايا للأسرة، تشي بعودة المياه إلى مجاريها بين الاثنين.

اما يوليا الجميلة التي تطوي النفس على فشل سابق في إتقان الرقص على الجليد، وتمرّد ظاهر على أبيها، وحبٍّ دفين لتوليا، فلا تلبث أن تقود الأخير إلى الهدف الصحيح، وتُسهم في صنع نجوميّته، وتؤسس معه أسرة هانئة. 

وجورا القادم من تجارة المخدّرات وتعاطيها يلعب دوراً في إخراج موهبة توليا من الظل إلى النور وينجح في إدارة أعماله. وهكذا، تقول الرواية إنّ المصائر السلبية ليست قَدَراً للمسارات العاثرة، وإنّ تحويلها إلى أخرى إيجابية، ممكنٌ إذا ما أُتيحت الظروف المناسبة لذلك.

 يضع أندريه غِلاسيموف روايته في ثلاثة أجزاء متوازنة، يُفرِد لكلٍّ منها عنواناً خاصاًّ به، فَيُعَنْوِنُ الأول بـ"بيستوليتو"، والثاني بـ"توليا"، والثالث بـ"الداعم". وكلٌّ من هذه العناوين يشكّل تكثيفاً للمتن المتعلّق به. على أن السرد داخل الجزء الواحد يتحرّك بين زمنين اثنين بالتناوب، تفصل بينهما مسافة زمنية، تختلف من جزء إلى آخر؛ فتبلغ في الجزء الأول عشرين عاماً، وفي الثاني عاماً واحداً، وفي الثالث خمسة عشر عاماً، مما يعني أن الجزء الأول يُشكّل إطاراً زمنياًّ يحتوي الجزءين الآخرين.  وبذلك، تتوزّع الأحداث على ثلاثة أجزاء، وستة أزمنة، وأماكن عديدة. وتنخرط فيها شخوص كثيرة. ويكون على المتلقّي أن يقوم بتفكيك الخطاب وتركيب الحكاية، وأن يجمع بين متعة الأوّل وفائدة الثانية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة