قد يكون انتخاب محمد خاتمي لرئاسة الجمهورية في 23 مايو (أيار) 1997، فرصة أمام النظام على رغم إرادته، حيث أسهمت في تخفيف الضغوط الدولية عليه، وتفكيك الحصار والعزلة التي فرضت عليه جراء تصاعد التوتر بينه وبين المجمع الدولي نتيجة اتهامات دولية بالتورط في الوقوف وراء عمليات اغتيال ناشطين إيرانيين معارضين في عواصم غربية، إضافة إلى مسؤوليته عن عدد من التفجيرات التي استهدفت مؤسسات إسرائيلية حول العالم، وكان من نتيجتها قرار الدول الأوروبية سحب سفرائها وقطع علاقاتها الدبلوماسية مع النظام الإيراني.
وعلى رغم ما شكله انتخاب خاتمي من كسر لإرادة النظام والدولة العميقة التي اعتبرت أن مشروعها نحو استكمال مسار التمكين قد أصيب بانتكاسة أو توقف، فإنه حاول توظيف هذا التحول لإعادة ترميم صورته، وتوظيف النتيجة الكبيرة للأصوات التي حصل عليها خاتمي والتي تجاوزت الـ20 مليون صوت وتحويلها إلى استفتاء على شرعية النظام ومشروعية تمثيله الشعبي.
ظهور الخطاب الإصلاحي والمشروع السياسي لخاتمي وضع النظام ومنظومته أمام تحد في اللحظة التي اعتبر نفسه أنه قد تخلص منه، وهو العودة إلى التعامل مع صوت مختلف في الحياة السياسية، بخاصة أن خاتمي عمل على إعادة إحياء مفاهيم كان قد استبعدها أو أخرجها النظام من التداول، خصوصاً ما يتعلق بالتعددية السياسية وحرية العمل الحزبي والمجتمع المدني والممارسات الديمقراطية.
هذه الانفتاحة في الحياة السياسية، وعودة ظهور الأحزاب فيها، جاء بعد تفرد أحزاب النظام بالسيطرة على المشهد الحزبي والسياسي، بالتالي بات النظام ومنظومة السلطة أمام حقيقة صعبة تفرض عليهم التعامل مع ظاهرة أحزاب ترفع خطاباً مغايراً للخطاب السائد للجماعات الموالية له.
أمام هذا التحدي الذي اعتبرته مؤسسات النظام هجوماً يستهدف الأسس والمبادئ التي يقوم عليها مشروع التمكين وبناء سلطته الدينية وحكومته الإسلامية، استنفر كل طاقاته وما في جعبته من وسائل لاستيعاب هذا التحول وإفراغه من مضمونه، خصوصاً بعد أن شعر بخطورة ما قد تنتهي إليه الأمور بعد أن استطاعت القوى الإصلاحية السيطرة على غالبية مقاعد البرلمان في انتخابات مايو عام 2000.
عمل النظام الإيراني على إعادة ترتيب صفوفه وأوراقه واستنفار أدواته لمواجهة هذا التحدي وإفراغه من أهدافه وإعادة الأمور إلى سابق عهدها والتخفيف من الخسائر، وكانت الخطوة الأولى بوضع العراقيل أمام الحكومة الإصلاحية بقيادة خاتمي، وتعطيل العمل البرلماني عن طريق تعطيل إقرار القوانين وتعليقها باستخدام مجلس صيانة الدستور المكلف الموافقة النهائية على أي قانون يقره البرلمان قبل أن يأخذ صفة التنفيذ. ولعل تدخل المرشد الأعلى وإصداره أمراً ولائياً "حكم حكومتي" طلب بموجبه من رئيس البرلمان حينها مهدي كروبي سحب مشروع قانون جديد للإعلام من التداول، لأنه يتعارض مع سياسة النظام الإعلامية ويشكل تهديداً لخطاب النظام الإعلامي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الإحساس بالخطر دفع القوى والأحزاب الموالية للنظام والحاملة لخطابه السياسي والسلطوي للجوء إلى نوع من توحيد الجهود تحت مظلة واحدة فرصت عليهم من الدولة العميقة ومنظومة السلطة، بحيث تجمعت هذه الجهود تحت مسمى التيار المحافظ في محاولة لإخراج صفة تيار اليمين من التداول السياسي في مقابل تيار اليسار الذي وصفت به القوى الإصلاحية.
هذه الوحدة الفوقية داخل القوى المحافظة، أجبرت القوى والأحزاب الإصلاحية حديثة النشأة للذهاب إلى تنسيق جهودها ومواقفها في مواجهة الطرف الآخر المتمرس في العمل الحزبي المتواصل والناشط تحت مظلة النظام، الأمر الذي أسهم في ظهور ما بات يعرف بالجبهة الإصلاحية.
وعلى رغم عدم رغبة النظام ومنظومته لوجود تكتلات سياسية من خارج مشروعه، فإنه انتقل لسياسة الاستيعاب ومن ثم التفكيك، والعمل على عدم تكريس مفهوم الثنائية الحزبية أو السياسية، من خلال التأكيد أولاً أن هذه الأحزاب تحظى بموافقة النظام طالما التزمت بالدستور ومبدأ ولاية الفقيه. وبعدها انتقل إلى محاصرتها والحد من نفوذها، فنجح في إخراجها من الحياة البرلمانية، ولاحقاً من السلطة التنفيذية عندما قطع الطريق على إعادة انتخاب رئيس للجمهورية من صفوفها بحيث يشكل استمراراً لمشروع خاتمي السياسي، ورفع من مستوى الصدمة لهذه القوى من خلال المجيء وانتخاب محمود أحمدي نجاد لقيادة السلطة التنفيذية.
ولم تقف جهود النظام ومنظومة السلطة عند حدود إخراج هذه القوى والأحزاب من مراكز القرار في الدولة ومؤسساتها، بل عمد لاحقاً إلى حظر هذه الأحزاب وحلها بقرارات قضائية سياسية واضحة، فأصدر القضاء قراراً بحل أبرز الأحزاب الإصلاحية حزب المشاركة الإسلامية بقيادة محمد رضا خاتمي شقيق الرئيس خاتمي، ثم الانتقال إلى خطوة ملاحقة واعتقال كل الناشطين والفاعلين والمؤثرين من سياسيين وإعلاميين ومثقفين إصلاحيين، بلغ عددهم 300 معتقل، وصولاً إلى ممارسة أعلى درجات العنف والقمع في التعامل مع الحراك الذي شهدته إيران عام 2009 اعتراضاً على إعادة انتخاب أحمدي نجاد إلى الرئاسة على حساب مرشح القوى الإصلاحية مير حسين موسوي واتهام النظام بالتلاعب بالنتائج.
الممارسات التي قام بها النظام الإيراني في التصدي للحراك السياسي رسخت معادلة جديدة بأن النظام ومؤسساته لن تسمح بأي نوع من الشراكة مع الأطراف الأخرى المختلفة عنه أو التي تحمل خطاباً مغايراً لخطابه الأيديولوجي، وأنه على استعداد للذهاب إلى آخر الخيارات، وقد قدم البرهان على ذلك بحجم الضحايا الذين سقطوا برصاص أجهزة الأمن ووصل عددهم إلى أكثر من 100 شخص بحسب الاعتراف الرسمي والآلاف المعتقلين في أحداث عام 2009، معتبراً ذلك دفاعاً عن الإسلام والدولة الإسلامية في مواجهة المؤامرات الأجنبية، خصوصاً الأميركية والإسرائيلية الساعية لإطاحة النظام الإسلامي ودولته.