لعل التحدي الأكبر الذي يواجه الاقتصاد البريطاني هو اعتراف المسؤولين بأهمية معالجة الخلل الحاصل الذي يعترض إيقاف التدهور في البلاد.
وبحسب آخر الإحصاءات فإن حجم الفجوة بين المملكة المتحدة، ودول أوروبية بالجوار بدأ بالارتفاع، فمستوى الفقر في البلاد يزيد على 21 في المئة، بل أنه في بعض المناطق يصل إلى 28 في المئة، وهو مؤشر يوضح الحالة الاقتصادية الصعبة التي تعانيها الطبقات المتدنية، وحتى المتوسطة، إذ كشفت تقارير متخصصة أن هناك تحذيرات من البنك الدولي إلى لندن منذ سنوات، تشير إلى أنها مقبلة على تراجع حاد في مستوى المعيشة، بصورة عامة نتيجة لتداعيات لتغير الاقتصادي المستمر.
فجوة الحالة المعيشية
ومقارنة مع مجموعة أوسع من الدول، تشمل أستراليا وكندا وألمانيا وهولندا، تبدو بريطانيا أفقر بمعدل 16 في المئة، إذ تشكل أميركا في فئة خاصة الأغنى كثيراً من هذه الدول. وحتى تغلق بريطانيا الفجوة في متوسط الدخل للمساواة مع هذه الدول، ينبغي أن يرتفع دخل الأسرة العادية بـ 8300 جنيه استرليني (10400 دولار)، وأن يزيد دخل الأشخاص الأكثر فقراً بنسبة 37 في المئة.
إذ بات مستوى معيشة الأسر البريطانية، هو الأفقر هو ما دون مستوى معيشة الفئة عينها من الفرنسيين بـ4300 جنيه إسترليني (5448 دولاراً)، بحسب ما نشرته "بلومبيرغ " ضمن مجموعة من الإحصاءات.
إلى ذلك يشكل التقرير النهائي من المشروع التحقيقي "اقتصاد 2030" الذي أجرته مؤسسة "ريزولوشن فاونديشن" طوال سنتين توضيح طبيعة المحاولات الجادة لوقف التدهور النسبي لبريطانيا.
وتعليقاً على ذلك، قالت الاقتصادية في مؤسسة "ريزولوشن فاونديشن" لي إيميلي فراي المشاركة في إعداد التقرير إن "تراجع بريطانيا بعض الشيء مقارنة مع الدول الأخرى كان متوقعاً"، مستدركة "غير أن حجم هذه الفجوة كان صادماً".
وأرجع باحثون ذلك بصورة رئيسة إلى انخفاض الإنتاجية، فمستوى كفاءة الاقتصاد في المزج بين العمل ورأس المال ليحولهما إلى إنتاج يمثل الركيزة الأساسية لرفع الأجور ومستوى المعيشة، وهذا الأمر على صلة وثيقة بمشكلة بريطانيا المزدوجة الناجمة عن نمو اقتصادي دون المستوى وتفاقم انعدام المساواة.
في تسعينيات القرن الماضي وخلال العقد الأول من الألفية الثالثة، كانت بريطانيا قادرة على اللحاق بركب الدول الأعلى إنتاجية مثل فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة، إلا أنها توقفت عن ذلك في منتصف العقد الأول من الألفية، وهي في مسار انحداري منذ ذلك الحين، فقد ارتفع مستوى الإنتاجية في بريطانيا بنسبة 0.4 في المئة على أساس سنوي خلال الأعوام الـ12 الماضية بعد الأزمة المالية العالمية، وهو نصف معدل الدول الـ25 الأغنى في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
ماذا عن مكانة لندن؟
مشوار التدهور الذي بات يشكل خطورة على مستقبل البلاد أدى إلى تدهور مكانة لندن المالية بل إن بعض المتخصصين ذكر، أن العاصمة البريطانية فقدت جاذبيتها، مع رحيل لا يقل عن 2000 شركة من السوق المالية إلى أسواق متطورة في التداول وعلى رأسها نيويورك وباريس وفرانكفورت وأمستردام.
ويرى متخصصون أن هذا التدهور في الجاذبية قلل من الثقة الدولية لعاصمة المال التاريخية، إذ فقدت تدريجاً موقعها الاستثماري الأمر الذي أدى إلى ضعف في النشاط الاقتصادي في حي المال.
ويبدو أن معركة الاقتصاد بين الحزبين باتت تجتمع في الفشل وبالإقرار بضعف الاقتصاد لكن المهم هو في التغيير الجوهري المطلوب لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعدما وصلت البلاد لمفترق طرق اقتصادي صعب.
ويؤكد اقتصاديون متخصصون أن نقطة التحول لبريطانيا، عندما تحولت إلى بلد بات غارق في العزلة بل يمكن القول أقل انفتاحاً من غيره على العالم، ومما ضاعف من تلك العزلة خروج لندن من التكتل الأوروبي، بعدما واجه الاقتصاد البريطاني عثرات عدة، أبرزها قيود سلسلة إمداد التجارة مع أوروبا، وفقدان جودة الإنتاج ذات القيمة العالية، فيما زاد من انخفاض صناعة المواد الغذائية المحلية.
توقعات اقتصادية
ولا تظهر أرقام صندوق النقد الدولي ومنظمات دولية عدة مؤشرات على خروج الاقتصاد البريطاني من مأزقه، إذ تؤكد إحصاءات الصندوق أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي في المملكة المتحدة بنسبة 0.5 في المئة في عام 2023 ارتفاعاً من 0.4 في المئة عن توقعاته السابقة، وبنسبة 0.6 في المئة في عام 2024 انخفاضاً من 1.0 في المئة.
وأوضحت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ومقرها باريس (تضم 38 دولة عضواً غنياً) أن أفضل تقديراتها للبلاد هو أن تعاني للعام الثاني من نمو بطيء في عام 2024، وتوقعت بصورة ضئيلة زيادة في النشاط قبل الانتخابات.
وفي توقعاتها الاقتصادية نصف السنوية، قالت المنظمة إن "النمو في المملكة المتحدة سيظل مستقراً"، مستدركة "لكنه سيكون منخفضاً مع ارتفاع الناتج الوطني بنسبة 0.5 في المئة في عام 2023 وبنسبة 0.7 في المئة في عام 2024".
وقبل ستة أشهر، كانت تتوقع المنظمة نمواً بنسبة 0.3 في المئة هذا العام وواحد في المئة بعد ذلك.
قوة قطاع الخدمات
بالطبع بحسب دراسات اقتصادية فالأمور ليست كلها سيئة، فما زال قطاع الخدمات يمتلك القوة، فالبلاد هي ثاني أكبر مصدر للخدمات في العالم بعد أميركا، ولا تزال البلاد تمتلك مهناً متقدمة من الموسيقيين والمهندسين المعماريين والمحامين الناجحين، لكن ذلك لا يكفي لانتشال البلاد من الأزمة الحالية مع فقدانها لمؤشرات النمو، وغياب السياسة التجارية الواضحة، مع غياب أي إبرام لاتفاقات تجارية خدماتية مع دول ذات دخل مرتفع مثل سنغافورة وأستراليا واليابان، ودول الخليج.
ووفقاً لشركة "كي بي أم غي"، سيكون نمو بريطانيا في عام 2024 متواضعاً، في أحسن الأحوال.
في حين تحذر أحدث التوقعات الاقتصادية العالمية لعملاق المحاسبة" كي بي أم غي"، والتي صدرت اليوم، من أن اقتصاد بريطانيا "يعاني من التواء في الكاحل"، في وقت يتراجع النمو العالمي بسبب ارتفاع أسعار الفائدة وعدم اليقين في شأن السياسات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتابعت " كي بي أم غي"، أنه على رغم أن أسعار الفائدة في بريطانيا ظلت عالقة عند 5.25 في المئة منذ أغسطس (آب) الماضي، إلا أن الكثير من التأثير لم يكن ملموساً، إذ لم تلجأ العديد من الأسر بعد إلى صفقات الرهن العقاري الجديدة والأكثر كلفة.
وأضافت "على رغم أن اقتصاد بريطانيا يتمتع بالمرونة، فإنه يحتاج إلى استعادة سحره، ومن المتوقع أن تعمل السياسات النقدية والمالية بمثابة رياح معاكسة للنمو على مدى العامين المقبلين، ومن غير المرجح أن يأتي الانتعاش المفاجئ في الإنتاجية لإنقاذنا، وهذا يعني أنه حتى الاستمرار المتوقع للنمو الإيجابي لا ينبغي الاحتفال به قبل الأوان، إذ تهيمن الأخطار السلبية على التوقعات.
وأشارت إلى أنه من الممكن أن يؤدي تباطؤ النمو في بعض أكبر الاقتصادات في العالم، إلى جانب ضعف الزخم في أماكن أخرى، إلى تراجع طفيف في نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي في عام 2024، ومن المفترض أن يساعد الزخم الأضعف في دفع التضخم إلى الانخفاض، إذ من المتوقع أن ينخفض متوسط التضخم العالمي إلى النصف بحلول عام 2025.
تزايد السحب المحلي من ارتفاع أسعار الفائدة
وكشف تحليل مكتب الإحصاءات الوطني التفصيلي للناتج المحلي الإجمالي في بريطانيا للربع الثالث أن الإنفاق الاستهلاكي انخفض بنسبة 0.4 في المئة، وهو أول انخفاض ربع سنوي منذ نهاية عام 2022 وانخفاضاً عن نمو بنسبة 0.5 في المئة في الربع الثاني من العام الحالي. وكانت أكبر الإسهامات في الانخفاض في هذا الربع من انخفاض الإنفاق على النقل والمواد الغذائية والمشروبات.
من جانبه، قال المتخصص في شؤون الاقتصاد صالح طربية، إن "المستثمرين المحليين والدوليين قلقون جداً من الانقسامات السياسة في بريطانيا وغياب الرؤية الواضحة للنمو الاقتصادي، إضافة إلى منع الشركات المدرجة في بورصة لندن من الرحيل إلى مؤشرات أخرى مثل نيويورك".
وتابع أن الحكومة البريطانية تركز قطاعات ضيقة شعبوية لا تخلق وظائف جديدة ولا تنعش الاقتصاد، مشيراً إلى أن آخر بيان للناتج القومي البريطاني أشار إلى انكماش جميع القطاعات"، مؤكداً "حتى البنوك ترفض إقراض الشركات الناشئة من دون رهن أصول وهذا مؤشر خطر"، وقال إنه "يجب على بريطانيا تبنى التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وليس الخوف منه".