إعلانات باحثة عن أب مستقبلي مناسب، إنذارات تحمل تهديداً ووعيداً بمنع أي "عمو" يسأل مستفسراً "متى نفرح بك؟"، أو "طنط" تمصمص شفتيها مستنكرة تأخر زواج "الآنسة"، خطوتان أو ثلاث أو أربع تؤخذ لإبلاغ الشاب المتجاهل بأن في محيطه من لا تمانع في الارتباط به، قلاعٌ دفاعية ومتاريس هجومية تُشهر مرة شفهياً ومرات فعلياً معلنة أن "الآنسة" تظل واحداً صحيحاً حتى لو بلغت من العمر الثلاثين أو الأربعين وربما الخمسين، وأخيراً بويضات مجمدة للاستخدام وقت اللزوم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المجتمع يتمسك بالعنوسة
بويضات ريم مهنا المجمدة قلبت المجتمع الممسك بتلابيب العنوسة كوصمة نسائية مزمنة، والمستنكر لكل ما أو من شأنه أن يزيح برقع العادات وحجاب التقاليد عن كوارث مجتمعية أكل عليها الدهر وشرب. فقبل أيام، تسرب إلى أثير مواقع التواصل الاجتماعي ما كتبته الشابة المصرية ريم مهنا عن خضوعها لعملية بسيطة لاستخراج بويضاتها وتجميدها لاستخدامها وقت اللزوم.
وشرحت مهنا، عبر فيديو بثته على التواصل الاجتماعي، إنها أقبلت على هذه الخطوة لأنها كانت على قناعة بأن السن المناسبة للزواج هو الـ30، ولكن مع احتمالات تأخر وصول الرجل المناسب خافت أن تخسر احتمالات الإنجاب لحين وصول الزوج المناسب. ورأت ريم أن الحل الآخر لتجميد البويضات هو القبول بأن زوجا يطرق الباب للحاق بسن الإنجاب، وهو ما اعتبرته مرفوضاً.
هاشتاغات كثيرة ابتدعتها مهنا لتعكس فكراً يصنفه البعض بـ"الجديد"، ويراه البعض الآخر مرفوضاً ومنبوذاً. "جمدوا بدل ما تلبسوا" تحول إلى شعار تتبادله وتروجه شابات ونساء رأين في مهنا، وما فعلته من إعلان لخضوعها لهذه العملية، وشرح خطواتها التي وصفتها بـ"السهلة" و"البسيطة" لتعم الفائدة نموذجاً يحتذى وقدوة تتبع.
تقول منار السبع، 37 عاماً، مهندسة غير متزوجة، "إنها تتابع ريم مهنا منذ أسابيع، ولا تحمل لها إلا كل إعجاب واحترام". تتابع "هي لا تسعى إلى الشهرة أو الانتشار، وتحقق مكاسب مادية مثلما يفعل البعض على أثير مواقع التواصل الاجتماعي، لكنها فعلياً شابة مصرية ناجحة، لا تريد أن تتزوج وخلاص، وفي الوقت نفسه لا تريد أن تهدر فرصها في الإنجاب والمحددة بمتوسط سن معينة. لذلك لجأت إلى مسألة تجميد بويضاتها لوقت اللزوم عبر عملية سهلة وبسيطة من شأنها أن تحمي حلم الإنجاب لشابات كثيرات مازال المجتمع يدفعهن دفعاً للزواج إما بدافع درء شبهة العنوسة أو للإنجاب قبل فوات الأوان".
حق الفتاة في تقرير المصير
أوان إيجاد حلول منطقية وعملية وتحترم حق الفتاة في تقرير المصير بعيداً عن شبح العنوسة و"بعبع" القطار الذي يمضي دون تحقيق حلم الأمومة آن لدى بعض القطاعات في مصر، لكن تظل الأغلبية مهمومة بالعنوسة مغموسة في القيل والقال.
يسجل قاموس "مختار الصحاح"، أن كلمة العنوسة مشتقة من لفظ "عنس"؛ أي أسن الرجل أو المرأة ولم يتزوج. ورغم أن جهابذة اللغة لم يختصوا الإناث باللفظ، إلا أن جهابذة المجتمع فعلوا. يقول بعض علماء الاجتماع والطب النفسي وعلم النفس "أن العنوسة منظومة ظالمة للمرأة وأن المجتمعات الشرقية أمعنت في تجذيرها ضمن حبس المرأة في سياقات وكيانات مصطنعة لقهرها وحبسها واستمرار التعامل معها باعتبارها كائناً درجة ثانية ورقماً غير صحيح".
أستاذة الطب النفسي الدكتورة هبة عيسوي تقول "إن مسمى العنوسة نتج عن فهم خاطئ في المجتمعات الشرقية، وأنه كان لفظاً يطلق على الإناث ممن تعدين سن الأربعين دون أن يتزوجن. وتلفت إلى أن كلمة عانس باتت تطلق على فتيات في العشرينيات من العمر وهو أمر بالغ الغرابة، إذ تحول إلى فوبيا تصيب الشابات الصغيرات. هذه الفوبيا سببها الضغط المجتمعي الذي يدفع الفتيات لمنظومة الزواج دفعاً، ويبث فيها الرعب من فوات الأوان وتحولها إلى عانس وضياع حلم الأمومة".
الفصل بين الأمومة والزوج المناسب فكرة غير مستساغة في مصر الكلاسيكية المحافظة، لكن من قال إن غير المستساغ غير موجود؟!
إيمان، 48 عاماً، مطلقة وأم لمراهقتين. تقول "إنها منذ طفولتها تحلم بالأمومة". تقول "كنت كغيري من الفتيات أحلم بقصة حب جميلة تنتهي بزواج وإنجاب أطفال. وجدت قصص حب هزيلة، ولم تتحقق جزئية الزواج. وبينما كل من حولي يحذرني من القطار الذي أوشك أن يفوتني وشبح العنوسة الذي يهددني ووحش الوحدة الذي سيقتلني، قررت أن أتزوج من شخص يسهل الانفصال عنه بعد الزواج إن احتدم الأمر بعد أن أكون قد حققت حلم الإنجاب. وبالفعل تزوجت أحدهم وتحملت عدم التوافق إلى أن أنجبت ثم انفصلنا. وأعتقد أنني بذلك أرضيت الجميع، أنهيت حملات التهديد بالعنوسة والتلويح بالوحدة القاتلة، وحققت في الوقت نفسه حلمي بأن أكون أماً".
وعلى الرغم من تفكير إيمان، الذي يعتبره البعض غريباً وربما غير مقبول، فإنها تعتبر الزواج الشرعي، ثم الإنجاب وبعده الانفصال في حال صعوبة العشرة وقدرة المرأة على الإنفاق على نفسها وأطفالها، أفضل من مسألة تجميد البويضات".
ردود فعل متباينة
تجميد البويضات عبارة تفجر ردود فعل شديدة التباين في الشارع المصري. هناك من يرفضها دون نقاش، وهناك من يلعنها ويلعن من تفكر فيها، وهناك من يتقبلها بشروط، وهناك من لا يفهم المقصود بها من الأصل.
تجميد البويضات يتم عبر عملية لتجميع البويضات من مبيضي المرأة، ثم يتم تجميدها دون تخصيب. ويمكن إذابتها وتلقيحها بالحيوان المنوي ثم زرعها في الرحم في وقت لاحق. ويشير أستاذ طب النساء والتوليد الدكتور أحمد عبد الحميد إلى "أن هذه الطريقة يتم اللجوء إليها في حالات خضوع المرأة لعلاج كيماوي مثلا لإصابتها بالسرطان ورغبتها في الحمل في وقت لاحق، أو الإصابة بأمراض المناعة الذاتية، أو الخضوع لعملية الإخصاب في مختبر إذ تفضل الغالبية في مصر تجميد البويضات وليس الأجنة لأسباب دينية، أو للإبقاء عليها للاستخدام في وقت لاحق لأسباب شخصية، وإن كان السبب الأخير نادر الحدوث في مصر حيث العادات والتقاليد والأعراف تحول دون ذلك".
وبين العادات والتقاليد والأعراف من جهة والرؤى الدينية من جهة أخرى خطٌ رفيع كثيراً ما يختفي لتصبح الرؤية واضحة. دار الإفتاء المصرية أشارت في فتوى لها على موقعها إلى "أن تجميد البويضات حلال شرعاً، ما لم تكن هناك مخالفة شرعية، مع وضع ضوابط بينها أن يتم التخصيب بين زوجين، وأن يتم حفظ البويضات المجمدة بطريقة آمنة تماماً تحول دون اختلاط الأنساب، وعدم وضع البويضة المجمدة في رحم امرأة أخرى غير صاحبة البويضة، وألا يكون لتلك العملية آثار سلبية على الجنين".
قلة تربية وهراء
ردود الفعل جاءت متراوحة. آمال سالم، 60 عاماً، أعربت عن رفضها الكامل واستيائها من فكرة قيام "آنسة" غير متزوجة بتجميد بويضات، معتبرة ذلك "قلة تربية وتسيباً وتشبهاً أعمى بالغرب". وطالبت الشابات اللاتي قد يتأثرن بمن قامت بتجميد بويضاتها إلى أن تجد زوجاً يناسبها بتجاهل ما أسمته بـ"الهراء"، والزواج من أحدهم كما يتزوج ملايين المصريين.
ملايين المصريين لا يقفون على قلب رجل واحد فيما يختص بتجميد البويضات. عمر رماح، 24 عاماً، يقول إنها حرية الفتاة الشخصية، وليس لأحد أن يتدخل في اختياراتها. نور سليمان، 25 عاماً، توافقه الرأي، لكنها تشير إلى أنها شخصياً لن تقدم على تجميد بويضاتها حتى وإن لم يظهر زوج مناسب في وقت مناسب للإنجاب لأنها لا تحب أن تتدخل في سير الأمور بطريقة طبيعية. رجب الدغيدي، 68 عاماً، يقول إن هذا يعني بالفعل أن نهاية العالم باتت قريبة، وتتوالى ردود الفعل شديدة الترواح.
لكن ما لا يتراوح أو يتزحزح عن مكانه هو إمساك المجتمع ببعبع العنوسة، وهي المنظومة التي تساعد على دفع الشابات إلى تأمين أنفسهن من خطورة الوصمة بالزواج من أول من يدق الباب بعد بعد سن الـ30. وهي أيضاً التي ترتبط في أذهانهن بالحرمان من الإنجاب.
العوانس الرجال أكثر
المثير أن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أعلن أن إجمالي عدد غير المتزوجين في مصر في الفئة العمرية بين 40 و75 عاماً بلغ نحو 761 ألف شخص في عام 2017، منهم نحو 430 ألف رجل بنسبة 56.5%، ونحو 331 ألف امرأة، وهو ما يعني أن العوانس الرجال يفوقون العوانس النساء في العدد. لكن الفرق الأكبر يكمن في مشاعر نسائية تحن إلى الأمومة يجري التعبير عنها بشكل متصاعد بين غير الراغبات في تطبيق مبدأ "ظل رجل ولا ظل حائط"، ولا تقابلها مشاعر ذكورية تحن إلى الأبوة، على الأقل من حيث التعبير، رغم إمكانية تجميد الحيوانات المنوية شأنها شأن البويضات.
هنا، يعلق الدكتور أحمد عبد الحميد مصححاً المسار، "صحيح أن فرص الرجال في الإنجاب بعد سن الأربعين تنخفض إلى الثلث، وأن حمض الحيوانات المنوية يشيخ مع التقدم في العمر، لكن احتمالات قدرته على الإنجاب تظل قائمة حتى سن متقدمة خلاف المرأة، وربما لهذا لا يقلق الرجل كثيراً من تأخر سن الزواج حتى وإن كان يرغب في الإنجاب".
لكن في وقت لاحق ريم مهنا كتبت على صفحتها على "فيسبوك"، "عملت عملة وقررت احكي. اسمعوا حتى لا تضطروا أن تلبسوا في أي حد"، قبل أن تشرح عملية تجميد البويضات، وذيلت تدوينتها التي قلبت الدنيا ببويضاتها وحيوانتها المنوية رأساً على عقب بهاشتاغ #جمدوا_بدل_ماتلبسوا. وجمهورها حالياً في انتظار لقاء مصور يجيب فيه طبيبها عن مسألة تجميد البويضات "حتى تعم الفائدة".