أضحت العائلة والتحديات الأسرية والصراعات المفتوحة المتناسلة منها، محور أحداث العديد من الأفلام المعروضة في الدورة السادسة من مهرجان الجونة السينمائي (14 - 21 ديسمبر/ كانون الأول الجاري) التي تُعقد في المنتجع السياحي الواقع على البحر الأحمر. كثيراً ما يشكّل برنامج التظاهرات السينمائية فرصة لالتقاط الأمزجة الجديدة والأنماط المعمول بها والأفكار التي يرزح تحتها عدد من الأعمال المنبثقة من أحوال شعوب وناس وبلدان. وفي هذه الدورة من الجونة، يمكن، وبكل سهولة، جمع عدد من الأفلام التي تحمل توقيع مخرجات تحت عنوان واحد: العائلة. هذا الاهتمام بالعائلة وشؤونها، سواء تولّد من عمق التجربة الشخصية أو لم يتولّد منه، يبقى الهاجس الأبرز للمخرجات، في عالم ما بعد الجائحة.
في "آل شنب"، تعرفنا المصرية أيتن أمين (صاحبة "سعاد")، على عائلة تتكوّن من أربع عمّات وأولادهن وأحفادهن، وهذا إثر موت أحد أفرادها، حين تضطر ليلى التي تعاني من سيطرة أمها عليها، إلى التوجّه إلى الإسكندرية لتقديم واجب العزاء. خلال أيام الحداد الثلاثة، يحدث الكثير من التفاصيل. زميلتها المغربية ليلي كيلاني، العائدة بفيلم "شيوع" بعد غياب بضع سنوات عن الشاشة، تموضع كاميراتها وسط عائلة ثرية لتروي حكاية مراهقة تعيش بالقرب من غابة طنجة الغنية بالطيور، لكن ثمة مؤامرة تُحاك ضد المنزل العائلي الواقع في الغابات. لكم أن تتخيلوا بقية الأحداث، على رغم أن المخرجة تترك حيزاً ضيقاً للخيال.
في "وداعاً طبرية"، أحد أقوى الأفلام الوثائقية المشاركة في هذه الدورة، تتناول المخرجة لينا سوالم حكاية أمها الممثّلة الفلسطينية الشهيرة هيام عباس وتداخل سيرتها مع سيرة أمّها وجدّتها وأم جدّتها، منذ النكبة حتى زمننا الراهن. فيلمها محاولة فهم تاريخ عائلتها في ظل الاحتلال والشتات الفلسطينيين، إضافة إلى رهانات أمها التي تحدّت محيطها وأهلها، وتفاصيل عيش بقية أفراد عائلتها. هذا كله ما هو سوى مساءلة للذات وللآخرين لدى المخرجة للتواصل مع جذورها وتقبّل هويتها المركبة كإمرأة ولدت وعاشت بعيداً من العالم العربي. من خلال الغوص في الرحلة الشخصية لكلّ واحدة من هذه النساء، يتنقل فيلمها المرهف هذا بين الأزمنة والأماكن، ملتقطاً حكايات أربعة أجيال من الفلسطينيات، اللواتي تميزت كل واحدة منهن، على طريقتها الخاصة. هذا فيلم يجمع الذاكرة والتاريخ والمصالحة مع الذات في إطار العائلة وحميميتها، بعيداً من أي تدليس سياسي.
الروابط العائلية هي أيضاً جوهر فيلمين وثائقيين عربيين: الأول هو "ماشطات" للتونسية صونيا بن سلامة. الفيلم عن فاطمة وابنتيها نجاح ووفاء، اللتين تمتهنان حرفة "الماشطات"، العازفات في حفلات الزفاف التقليدية. تحاول نجاح أن تتزوج مرة أخرى بعد طلاقها، في حين ترغب أختها وفاء في الحصول على الطلاق من زوجها المُعنِّف. أما الثاني فهو "من عبدول إلى ليلى" للمخرجة الفرنسية من أصول عراقية ليلى البياتي. بعد تعرضّها لحادث أدى إلى فقدان ذاكرتها وبقائها لسنوات عدة في المنفى، تتواصل امرأة شابة عراقية فرنسية مع عائلتها لتعرف مَن هي. على أثر لم شملها في منزل عائلتها الواقع في جنوب فرنسا، تواجه ليلى والدها بماضيه، وتقرر تعلّم اللغة العربية لتغني القصائد التي كتبها لها. اللغة والموسيقى تشرعان الطريق تدريجاً أمام الذكريات المكبوتة منذ فترة طويلة وتفضيان بها إلى اكتشاف أصولها. "من عبدول إلى ليلى" ملحمة امرأة توثّق تاريخها لتعيد اكتشاف نفسها.
في "بورتريه عائلي"، تقدّم المخرجة الأميركية لوسي كير فيلماً حميمياً متمهّل الإيقاع، في أولى تجاربها الطويلة. هذا عمل سينمائي "نخبوي" يعجب الذين لا يحتاجون إلى فهم كلّ شيء، ولا يزعجهم أن يبقى جزء من الحكاية في العتمة. السيناريو يشتت الانتباه من خلال سلسلة مشاهد حوارات تجري في أماكن مختلفة بين شخصيات تظهر وتختفي. تتعمّد المخرجة تعميق إحساس الواقعية، فلا تذهب إلى الموضوع مباشرةً، لاستزادة التلاعب بالمشاعر. هذه التقنية تولّد نتائج إيجابية تظهر في ختام الفيلم، لكن قبل الوصول إلى تلك النقطة، هناك حكاية تدور على صورة. إنها صورة عائلة يجب أن تُلتقَط خلال وجود أفرادها في منزل ريفي أنيق. تسعى كاتي عبثاً إلى لمّ شمل الجميع أمام عدسة صديقها أوليك. في تلك الأثناء، تحضّر أمّها الغداء، ويحكي والدها عن صورة معلّقة على الجدار... هنا وهناك، أشخاص يفعلون أشياء مختلفة، لكن الكاميرا لا تفارق كاتي، في رحلة بحثها عن أمّها التي تختفي فجأة.
تنقل لوسي كير هنا تجربة شخصية، إذ تقول إنها كانت تتعذّب في لمّ شمل أفراد عائلتها لالتقاط صورة جماعية في مناسبة الأعياد. يبدأ الفيلم وينتهي ولا يحدث الكثير بين اللحظتين، ما عدا تلك التي تنمو في أحشاء كاتي، وهي الوحيدة التي تعرف ما هو. "بورتريه عائلي" دراما أسرية غامضة تسلّم نفسها للتأويلات الكثيرة، وتذكّرنا بمقولة "لا يتعلّق الأمر بأن نفهم ما نراه، بل أن نصدّقه".
الأم العزباء
في "لا خسارة" لدلفين دولوجيه، تعرفنا المخرجة الفرنسية على سيلفي، أم عزباء على عاتقها ابنان، أصغرهما سنّاً سفيان (ثماني سنوات)، يتعرض ذات مساء لحادث منزلي خلال غيابها. هذا الحادث يكون نقطة انطلاقة الفيلم، فندخل في حميمية العائلة بأسلوب أشبه باقتحام أو دهم أو انتهاك خصوصية. غداة الحادثة، تتلقّى سيلفي زيارة الجهة الرسمية المكلّفة حماية الطفل، وتطلب منها تسليمها سفيان بغية وضعه في مكان أكثر أماناً، علماً أن لا الطفل ولا الأم يحتاجان إلى هذا الإجراء الوقائي الذي يبدو مبالغاً فيه منذ اللحظة الأولى، فنحن كمشاهدين نعلم طبيعة العلاقة بين الأم وولدها. في النهاية، سيذعن سفيان وأمه لإرادة السلطات المختصة، لتبدأ عندها معركة سيلفي الصعبة والقاسية لاستعادة ابنها الذي سُلب منها، من دون أن تقيم أي حساب للنتائج المترتبة على دخولها في مواجهة عنيفة مع البيروقراطية القضائية.
"لا خسارة" هو مسح شامل لظروف عيش المرأة التي لا تملك سنداً قوياً، في مدينة فرنسية حيث الفرص محدودة، وعليها أن توزّع طاقتها بين العمل وإعالة ولدها. لكن قراءة متأنية للفيلم تكشف حقيقة أخرى: هذا فيلم يدين إجراءات الدولة التعسفية التي تعتقد بأنها تحمي الطفل بانتزاعه من أمّه، لكن ما تفعله يتسبب بالمزيد من الأضرار النفسية والصراعات العائلية. وهذا ما يريه الفيلم من دون أن يذهب في خطاب الإدانة إلى بعيد، لكن اللبيب من الإشارة يفهم. في الختام، تصنع هذه المعاناة يقظة جديدة سواء عند سفيان أو أمّه، يقظة ستسمح لهما بمعانقة المستقبل بنظرة جديدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يبلغ الهوس بالعائلة وكشف أسرارها حداً غير مسبوق في "تشريح سقوط" للفرنسية جوستين ترييه الذي نال "سعفة" مهرجان "كان" في دورته الأخيرة، وهو أحد أجمل أفلام هذا العام. رجل يسقط من شرفة بيته في جبال الألب، كان انتقل للعيش فيه قبل عام مع زوجته وابنه الضرير. وفاته على الفور تترك عائلته، وكل مَن يحاول الإحاطة بالحادثة، في حال من حيرة وارتباك. الأسئلة تتواصل وتلح: هل السقوط قتل متعمّد أو انتحار؟ وسرعان ما تصبح الزوجة متهمة وعليها أن تثبت براءتها. نكتشف طبيعة علاقتهما من خلال سلسلة من الجلسات تعيد سرد حكايتهما الزوجية من وجهات نظر ومستويات مختلفة. هذه الجلسات تكون أشبه بقطع بازل تعيد بناء لوحة شاملة تسهم في بلوغ الحقيقة وتعيد صوغ علاقة الأم بابنها الضرير. العلاقة بين الأم والابنة، هي أيضاً ما تطرحه المخرجة السلوفينية هانا سلاك في "ولا كلمة" من خلال نينا التي تضطر إلى الابتعاد عن حياتها المهنية للاهتمام بابنها المراهق الذي وقع حديثاً ضحية حادثة مدرسية غريبة. والحل لهما هو اللجوء إلى منزل واقع على ساحل المحيط الأطلسي، ممّا يزيد من حدّة علاقتهما المتوترة، التي تغرق في غياهب الصمت.