Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
اقرأ الآن

نابوكوف يفضح الأنظمة التوتاليتارية في "الدكتاتور الضفدع"

صاحب "لوليتا" يخوض تجربة روائية فريدة مستعيناً بإرث  شكسبير المسرحي

الروائي فلاديمير نابوكوف في سريره (صفحة الكاتب - فيسبوك)

لربما تبدو حظوظ بعض الروايات للكاتب نفسه أكبر من غيرها، من حيث الشيوع والقبول والاقتباس، لأسباب عدة لا يعيرها النقاد ولا القراء اهتماماً إلا بعد مرور الزمن وتعاقب النظرات النقدية على أعمال سابقة أو لاحقة، ومن تلك الأعمال الروائية رواية "الدكتاتور الضفدع" للكاتب الروسي - الأميركي فلاديمير نابوكوف (1899-1977) الصادرة حديثاً عن "دار سطور" بترجمة عربية أنجزها عمار كاظم محمد.

ولئن كانت هذه الرواية أول عمل أعده نابوكوف باللغة الإنجليزية التي يتقنها إلى جانب الفرنسية والروسية، وانتهى من تأليفها عام 1946 في الولايات المتحدة الأميركية إلى حيث هاجر، فإن لروايته المتأخرة "لوليتا" التي نشرها عام 1955 الفضل في تكريس شهرته العالمية، إذ بلغت أعداد نسخها بعد مسار الحجب والمنع من النشر لأسباب تتصل بالجانب الجنسي في الرواية وإعادة السماح بالنشر، 50 مليون نسخة.

لماذا "الدكتاتور"؟

ولكن لمَ اختار نابوكوف أن يعالج موضوعاً أثار من الخلافات بين مثقفي أوروبا الغربية ذوي الميول اليسارية، أمثال جان بول سارتر ورومان رولان وأندره بريتون وغيرهم، والملتزمين جانب النظام الشيوعي ذي الطابع الدكتاتوري (البروليتاريا) بالقدر الذي أثار تأييد فريق منشق عن السلطة الدكتاتورية والحامل لواء الحرية الجماعية والفردية والمناصر للغرب الديمقراطي؟ للإجابة نقول إن الداعي إلى هذا الاختيار لم يكن سياسيا وحسب، وإنما كان نوعاً من الثأر لمقتل أبيه على يد رجال السلطة عام 1922 بعد أن وصف ثورة أكتوبر عام 1917 بأنها مجرد "انقلاب للبلاشفة".

تدور أحداث الرواية ذات الـ 18 فصلاً حول صراع مميت بين شخصين، بادوك الدكتاتور والبروفسور آدم كروغ، على رغم أنهما كانا منذ طفولتهما زميلين على مقاعد الدراسة، أما فحوى هذا الصراع فهو سعي الدكتاتور المحموم إلى إخضاع البروفسور وإجباره على تبني "الفكر المساواتي" أو "الإيكويلي" أياً يكن الثمن، فكان كلما ازداد تمنع البروفسور من تلبية مطلب الدكتاتور بادوك في التسليم بموجبات "النظام الإيكويلي"، مثل التخلي عن حرية الرأي وأنواع العلاقات السابقة للنظام وحتى تطويع اللغة بالذات لتكون وسيلة ليس إلا لهذا النظام، وهذا من رابع المستحيلات للبروفسور العصامي ربيب الفكر التنويري الحر، ضاعف الدكتاتور انتقامه وأذاه وأوعز إلى رجاله وأجهزته أن ينفذوا تهديداته بحذافيرها.

وعلى هذا النحو أمكن له أن يعتقل كثيرين ويحكم بالقتل على كثيرين ويعتقل أربعة من أصدقاء البروفسور الخلص، ويغلق أبواب الجامعة التي كان لا يزال البروفسور كروغ يدرس فيها إلى حينه، ويصل الأمر بالدكتاتور الضفدع أن يختطف دايفيد ذي الثمانية أعوام ابن البروفسور، باعتبار ذلك العمل ذروة في الابتزاز والضغط عليه ليعلن قبوله بالفكر المساواتي أو "الإيكويلي" الشمولي الذي يقوم عليه نظام بادوك.

وإذ يصاب البروفسور بما يشبه الجنون لدى حصول الاختطاف أمام ناظريه، يسارع إلى القبول بشروط بادوك في مقابل تحرير ابنه الطفل دايفيد، إلا أن المأساة تحصل وتنتهي الرواية إلى مآلات محزنة.

دستوبيا وموسوعية

تندرج الرواية في إطار أكبر يعلي فيه الكتاب أصواتهم ضد جماعات وأنظمة ووجهات نظر سالبة وقامعة ومهلكة وباعثة على التأسي لكونها تعالج إحدى أكثر سيئات الدكتاتورية شراً، عنيت بها سلب الإنسان كرامته وحريته اللتين منحتا له من خالقه، وليس لامرئ فضل عليه بها ولا حق لحرمانه منها، والخضوع لحاكم أوحد مستبد يقوم مقام الإله أو الولي، ويعلو منطقه وخطابه كل الخطب والشعارات.

وعليه تنضم الرواية إلى أخواتها اللاتي نشأن بعيد الحرب العالمية الثانية، وتنبه إلى شرور النظام التوتاليتاري، سواء النازي منه أو الشيوعي، مثل رواية أرتور كويستلر "الصفر واللانهاية" الصادرة عام 1940 وراي برادبوري بعنوان "فهرنهايت 451" وسولجنستين "نهار من حياة إيفان دينسوفيتش" و"العام 1984" لجورج أورويلن وغيرها كثير مما لا يزال يتوالى صدورها إلى اليوم.

بيد أن رواية "الدكتاتور الضفدع" للكاتب الروسي - الأميركي نابوكوف وإن ناور فيها الكاتب بأن جعل غاية الدكتاتور بادوك نشر العقيدة الإكويلية، أسوة بسائر الأنظمة الشمولية في القرن الـ 20، بالحسنى أو غالباً بالإكراه، فإن معالجته المسألة وتخليقه السرد الموافق لها ما كانا ليجريا من دون قسط وافر من موسوعيته التي نماها بفضل اطلاعه على التراث الأدبي العالمي، قديمه وحديثه، شعراً ونثراً ومسرحاً وسينما، وباللغات الثلاث الروسية والفرنسية والإنجليزية التي كان يتقنها ويكتب بها.

وليس أدل على ذلك من اقتباساته الذكية من مسرحية "هاملت" لشكسبير ومن كتابات مونتاني وغيرهما، واستثماره إياها لإضفاء طابع مشهدي درامي على مجريات الرواية وتقريب فصولها من المشاهد المسرحية الحارة.

صراع بين نظامين أم طبقتين؟

ولو نظرنا إلى الأبعاد الفكرية الكامنة في رواية "الدكتاتور الضفدع" ممثلة في شخصية بادوك ومنبته، وتأملنا في مبادئها السلبية، إن صح التعبير، من مثل اعتبار العقيدة "الإيكويلية" الفردية شراً ينبغي التصدي له، ومحاربة الفردية المثالية المتمكنة من البورجوازية الصغيرة، واعتبار الفن الشعبي بل الفولكلوري أرقى مظهر في الحياة الاجتماعية، في مقابل التشكيك بالفن الراقي والكلاسيكي، إضافة إلى طلب المساواة المطلقة بين الناس وتجاوز مسألة التفاوت الطبيعي الانتقائي، لوجدنا تطابقاً بين توصيف الفيلسوفة حنة آرندت للأزمة الثقافية في المجتمعات الغربية وبين الكاتب فلاديمير نابوكوف، وهذا من دون أن ننكر رغبة الكاتب الجامحة في الانتقام لمقتل أبيه من جماعة "روسيا البيضاء" على يد البلاشفة أصحاب النظام الدكتاتوري المسخ على النحو الذي رسمه في الرواية.

لطالما أُثر عن نابوكوف أنه خاض تجربته الروائية مستعيناً بإرث مسرحي غال ويكاد يكون عصياً على المحاكاة، عنيت به مسرح شكسبير وبالتحديد مسرحية "هاملت"، إذ تصير جزءاً لا يتجزأ من نسيج الرواية، ولا سيما الفصل السابع منها (ص:131-157)، فلا يكتفي باقتباس بعض السطور من المسرحية ولا بالمقارنة بين شخصية كروغ البروفسور العصامي والضنين بالقيم والعلم وذي الجوهر الطيب، وبين شخصية فورتنبراس في المسرحية وهو "فارس شاب مزدهر جميل وسليم في جوهره" (ص:135) والذي أعطي "تفويضا من الله لكي يتولى حكم الدنمارك التي أسيء حكمها بشكل إجرامي من قبل الملك المنحط هاملت".

اقرأ المزيد

وبالطبع لا تخفى فائدة هذا الاستحضار من التاريخ المسرحي الذي يمكن إحالته إلى الواقع بحسب صدقية الأدب، وهي أن أمثال نموذج الحاكم المستبد والشرير يعني به بادوك الموجودون في الأعمال المسرحية المستندة إلى التاريخ الواقعي.

وفيما تترسخ شخصيتا آدم كروغ (البروفسور) وبادوك (الدكتاتور) عبر المشابهة والمقارنة مع شخصيات هاملت لشكسبير، يعمد الكاتب إلى استخدام أسلوبي الحوار والسيناريو اللذين يميزان الكتابة المسرحية، من أجل إضفاء مزيد من الحركية على المشاهد الروائية وإدخال القراء إلى حدث جانبي داخل سياق الحدث الرئيس الأكبر، على رغم أن الراوي العليم هو نفسه. "سنرى هاملت وهو يسحب جرذاً ميتاً من تحت الممرات وعلى طول الأرضية صعوداً نحو الدرج المتعرج ليخفيه في ممر غامض، ومع بعض المؤثرات الفورية الغريبة للضوء حينما يقوم حاملُ المصباح بإرسال الضوء لإيجاد الجثة. وهنا ستبدأ إثارة أخرى." (ص:139)

ومن دون أن ننسى بعض الأجواء الميلودرامية الناجمة عن التهكم الخفي والمزاح الذكي اللذين يشيعان في كثير من المفارقات السوداء من مثل: "لم يكن من المفترض أن يحدث هذا على الإطلاق، نحن آسفون للغاية، سيحصل طفلك على أفخم جنازة يمكن أن يحلم بها طفل رجل أبيض" (ص:267)

وبناء على كل ما سبق ولاحظناه في قراءتنا رواية "الدكتاتور الضفدع"، وعلى علمنا بمنجزات نابوكوف، نقول إن الكاتب أضاف جديداً إلى فن الرواية، ولا سيما تقريبه الفن المسرحي بالرواية، ونقش بأسلوبه الحي والمبدع وبلغة شكسبير نفسها الإنجليزية حضوره وعالمه ورؤاه التي تصنع أفقاً جديداً لأدب إنسان أكثر توازناً وتحرراً ووعياً لذاته، من أدب ما بين الحربين العالميتين.

المزيد من ثقافة