في مشهد يعيد إلى الأذهان بعضاً من مشاهد "الميدان" و"الانتفاضة البرتقالية" في كييف، وما حدث في مينسك عقب الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية في بيلاروس بشهر أغسطس (آب) 2020، خرج ممثلو المعارضة الصربية إلى شوارع العاصمة بلغراد، احتجاجاً على نتائج الانتخابات البرلمانية التي جرت في الـ18 من ديسمبر (كانون الأول) الجاري. وكانت النتائج المعلنة تقول بفوز الائتلاف الحاكم بقيادة الحزب التقدمي الصربي بزعامة الرئيس ألكسندر فوتشيتش، بحصوله على نسبة 46.7 في المئة من الأصوات، مقابل 34.6 في المئة، وفي قول آخر على نسبة 23.62 في المئة من الأصوات حصل عليها ائتلاف "صربيا ضد العنف" المعارض الذي جاء في المركز الثاني، بينما حصل "البديل الديمقراطي الوطني" على نسبة ستة في المئة من الأصوات وضعته في المركز الثالث، متقدماً عن "نحن صوت الشعب" و"الاشتراكيون"، الذين شغلوا المركز الرابع بنسبة خمسة في المئة من الأصوات، وذلك مما دفع ممثليهم إلى الخروج للشارع ومحاولة اقتحام مبنى البرلمان على وقع تعالي الاتهامات في حق قيادة البلاد بـ"التزوير"، حسب تصريحات المتخصص السياسي أوليغ بوندارينكو التي أدلى بها إلى الموقع الإلكتروني الروسي Lenta.ru.
وكانت موسكو سارعت بالتعليق على ما يجري في بلغراد، بما أعلنته الناطقة الرسمية باسم وزارة الخارجة الروسية ماريا زاخاروفا، في تعليقها على الوضع لصحيفة "إزفستيا" الروسية، حول رغبة الغرب في "إقامة ميدان" في البلقان لزعزعة الأوضاع في البلاد باستخدام "تقنيات الميدان"، على غرار ما سبق وحدث في كييف، مما يعيد إلى الأذهان مشاهد "الانتفاضة البرتقالية" التي أطاحت الرئيس الأوكراني الأسبق فيكتور يانوكوفيتش، في وقت قال آخرون إنها تعيد إلى الأذهان مشاهد "انتفاضة الجرافات - البولدوزرات"، أولى صور "الانتفاضات الملونة" التي دمرت يوغوسلافيا وأصبحت نموذجاً لإطاحة السلطة في أرجاء كثيرة من العالم.
تدخل "قوى أجنبية"؟
وقد سارع الرئيس ألكسندر فوتشيتش إلى إعلان رفضه هذه الأحداث، في وقت وصف فيه هذه المشاهد بأنها "ثورة تقف وراءها أجهزة استخبارات أجنبية" بما يهدد أمن البلاد. وإذ استبعد فوتشيتش احتمالات "حدوث تغيير عنيف في قيادة البلاد"، علق على تصريح الممثلة الرسمية لوزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا حول رغبة الغرب في "إقامة ميدان" في البلقان، بقوله "ما الهدف غير ذلك، إن لم يكن الميدان". ودعا فوتشيتش إلى اجتماع عاجل لمجلس الأمن القومي في صربيا على خلفية الاضطرابات التي تشهدها بلغراد، وفي أعقاب ما جرى من مواجهات أسفرت عن إصابة اثنين من ضباط الشرطة، واعتقال ما يزيد على 35 شخصاً من المتظاهرين. وقال أيضاً إن أجهزة الاستخبارات الأجنبية حذرت السلطات الصربية من التحضير لهذا الإجراء. من جانبه، أعلن الناطق الرسمي باسم الكرملين دميتري بيسكوف عن عمليات ومحاولات من جانب قوى أجنبية وصفها بـ"القوى الثالثة"، لإثارة الاضطرابات في صربيا. وأضاف "ليس لدينا أدنى شك في أن قيادة الجمهورية ستضمن سيادة القانون في البلاد"، كما أشار إلى أن السلطات الصربية لم تسجل أية انتهاكات خلال الانتخابات، ووصف الاحتجاجات التي جرت في البلاد بأنها "مسألة داخلية بحتة تخص صربيا". وأعرب بيسكوف عن ثقته في أن قيادة البلاد قادرة على اتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لتسوية الأوضاع في البلاد.
من جانبها، قالت الناطقة الرسمية باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا "إن احتجاجات الشوارع التي جرت الأسبوع الماضي في عاصمة صربيا لا علاقة لها بالتعبير عن إرادة الشعب، بل تهدف فقط إلى زعزعة استقرار الوضع في البلاد". وأضافت "بعد أسبوع من الانتخابات المبكرة لبرلمان جمهورية صربيا"، بحجة التزوير الذي وصفته بـ"المزعوم" جرت محاولة لـ"تأجيج الاحتجاجات في الشوارع في بلغراد"، مؤكدة أن "هذه الأحداث لا علاقة لها بالانتخابات، وأن الصرب دعموا الرئيس الحالي ألكسندر فوتشيتش بغالبية مقنعة من الأصوات". وكانت أشارت في الوقت نفسه إلى عملية التصويت، التي تمت مراقبتها بمشاركة ممثلين روس "لم تشبها انتهاكات كبيرة". وكان المتظاهرون اشتبكوا مع الشرطة في بلغراد، وبلغت الاحتجاجات ذروتها في الـ24 من ديسمبر عندما حاول المتظاهرون اقتحام مكتب رئيس بلدية العاصمة، في وقت اتسمت فيه تصرفات الشرطة بـ"ضبط النفس الشديد"، بحسب متابعين، ولم تبدأ في إجراء الاعتقالات إلا بعد أن ألحق "المتظاهرون" أضراراً جسيمة بالمبنى. وأصيب خلال الاشتباكات العشرات من عناصر قوات الأمن، بعضهم في حالة خطرة. واختتمت زاخاروفا تصريحاتها بقولها "إن الرغبة في استخدام القوة من خلال التحريض على الفوضى لتحقيق مراجعة نتائج التصويت، لا علاقة لها بالديمقراطية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"صربيا ضد العنف"!
وكانت الانتخابات المبكرة في صربيا أطلقت سلسلة من "الاحتجاجات"، التي بلغت حد محاولة اقتحام لجنة الانتخابات بالعاصمة والقبض على مدير مكتب الإحصاء البالغ من العمر 70 سنة. وتوعدت المعارضة بما فيها ائتلاف "صربيا ضد العنف"، بمواصلة الاحتجاجات ورفض الاعتراف بفوز الائتلاف الحاكم. وطالبت بإلغاء هذه الانتخابات في وقت اتهم قادة "صربيا ضد العنف" السلطات بـ"التزوير"، وأعلن بعض ممثليه الإضراب عن الطعام حتى تنظيم حملة انتخابية جديدة.
وعلى النقيض من ذلك، قال رئيس تحرير مجلة "روسيا في السياسة العالمية" رئيس "المجلس الروسي للسياسة الخارجية والدفاع" فيدور لوكيانوف في حديث إلى الموقع الإلكتروني Gazeta.Ru، إنه يعتقد "أن المعارضة الصربية خسرت على المستوى الوطني بشكل مقنع، ومن الصعب جداً تحديد أي شيء هنا، ولكن في بلغراد هناك فرص للنجاح". وأضاف "وكما هي العادة الآن في الدول الديمقراطية، بعد التعبير عن الإرادة من طريق التصويت، تتم محاولة التعبير عن الإرادة بطرق أخرى. وفي بلغراد، أصبحت الفجوة بين الائتلاف الحاكم والمعارضة أصغر مما هي عليه على المستوى الوطني، لذا هناك محاولة للضغط على الوضع عبر حركة الشارع". وأوضح لوكيانوف "إن مثل هذه العمليات أصبحت الآن جزءاً من الثقافة السياسية في الدول التي لا يوجد فيها إيمان كامل بالمؤسسات الديمقراطية".
من جانبها، اعتبرت رئيسة قسم دراسات البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط في معهد أوروبا، التابع لأكاديمية العلوم الروسية يكاتيرينا أنتينا أن "السيطرة على بلغراد قضية حساسة، لأن السلطة في العاصمة تعطي بعض الشرعية السياسية لكلا الجانبين". وقالت إن الفائز في الانتخابات هو من يعين رئيس بلدية بلغراد. "من الناحية العملية، فإن السيطرة على بلغراد لها معنى محايد إلى حد ما. يتخذ جميع القرارات الرئيسة والمهمة المتعلقة بالعاصمة والسيطرة عليها على المستوى الجمهوري. ولذا، فإن الائتلاف الحاكم إذا كان يتمتع بغالبية مطلقة في البرلمان، فليس من المهم من سيكون عمدة بلغراد - مرشحهم أم المعارضة". وأضافت أن الاحتمال الكبير للاحتجاجات في بلغراد قد تم الاعتراف به من قبل جميع الأطراف حتى قبل التصويت. وقالت إن "ما يحدث الآن هو وضع روتيني تماماً للحياة السياسية الصربية الداخلية، وإن مطالبة المعارضة بإعادة التصويت مسألة واردة، لأنه حسب النتائج الأولية لن يتمكن أحد من الحصول على غالبية ائتلافية في برلمان بلغراد. ونتيجة الانتخابات صعدت الكتلة الاحتجاجية الغريبة إلى حد كبير (نحن صوت الشعب)، بقيادة برانيمير نيستوروفيتش، فجأة إلى واجهة الحياة السياسية الصربية. في الواقع، الأمر يعتمد على فيما إذا كان سيعاد التصويت أم لا". وأضافت أن كتلة نيستروفيتش تتخذ مواقف مناهضة للغرب بشدة، لذا فإن حزب فوتشيتش هو الوحيد الذي لديه فرصة للتحالف معه.
وأكدت أنتينا "أنه في مثل هذه الظروف تحاول المعارضة إخراج الناس إلى الشوارع قدر الإمكان، لخلق إمكانات احتجاجية في بلغراد وجو عاطفي لعدم قبول نتائج هذه الانتخابات".
هل تتجه صربيا نحو الانقلاب؟
وتشير تصريحات كثير في العاصمة الروسية إلى أن الأحداث في صربيا لن تجنح نحو الانقلاب على الرئيس الشرعي. وكان الرئيس ألكسندر فوتشيتش التقى السفير الروسي لدى بلغراد وجرت مناقشة للأوضاع الراهنة، كما أن ما صدر من تصريحات رسمية، منها وزارة الخارجية الروسية التي قالت الناطقة الرسمية باسمها ماريا زاخاروفا إن "ما جرى من أحداث في بلغراد لا علاقة له بالانتخابات"، هو ما يبدو على طرفي نقيض من تصريحات ممثلي المعارضة في صربيا. ومع ذلك فقد أعربت زاخاروفا عن الموقف الرسمي لموسكو بقولها "إن الصرب دعموا الرئيس الحالي ألكسندر فوتشيتش بغالبية مقنعة من الأصوات. ولم يتم الكشف خلال التصويت عن أية انتهاكات كبيرة"، كما أعلن السفير الروسي لدى بلغراد ألكسندر بوتسان-خارشينكو، في حديث لصحيفة إزفستيا، أن بلغراد لن تنضم إلى العقوبات الغربية ضد روسيا، وأن ما جرى غير مقبول من جانب صربيا الرسمية. وأضاف "لا أرى ما يشير إلى أن موقف صربيا قد يتغير"، وإن أعرب عن احتمالات تجدد الاحتجاجات في العاصمة خلال عطلة أعياد رأس السنة الجديدة هناك. لكن ذلك لا يمنع روسيا من الاحتفاظ بحركة الطيران مع صربيا، فضلاً عن اعتقادها بأن كثافة المسيرات المناهضة للحكومة قد تنخفض قريباً. وعلى هذه الخلفية، لا ترى السفارة الروسية أنه من الضروري أن توصي الروس بعدم زيارة صربيا. أما بالنسبة إلى مشكلة كوسوفو، فإن الغرب، وفقاً لألكسندر بوتسان خارتشينكو، لن يسمح باندلاع صراع مسلح بين بلغراد وبريشتينا.
كما كشف خبراء السياسة في موسكو ومنهم رئيس مجلس السياسة الخارجية والدفاع فيدور لوكيانوف، عن توقعات مماثلة تجاه احتمالات جنوح الأوضاع نحو الهدوء. وأشار لوكيانوف إلى أن الوضع في برلمان العاصمة له أهمية خاصة بالنسبة إلى القوى السياسية في صربيا. وأضاف أن احتلال المدينة الرئيسة مهم في أي دولة. ولفت إلى أن أساس الحياة السياسية في أي بلد يقع في العاصمة، وبهذا المعنى يكون من الواضح سبب اندلاع نوع من حالات الصراع بسبب ذلك.