ملخص
فيلم "قلق في بيروت" ينقل صورة شاملة عن أجيال تعيش قهراً جماعياً
يروي زكريا جابر في فيلمه "قلق في بيروت" سيرة واقعية وملتبسة لحياة اللبنانيين عموماً ولأبناء جيله خصوصاً. سيرة يشعر من يراها أنه أمام أكثر من رواية. هذه الرواية هي رواية جيل ما بعد التسعينيات الذي أعلن قطيعته مع الأمور. قطيعة يجسدها الفيلم بكل تجلياتها واختلافاتها البنيوية والفكرية والنفسية والسياسية. رواية شبه متكاملة تروى على ألسنة شخصيات عدة، معظمهم من جيل جابر، بعد صراعات وهزائم وخيبات تتالت عليهم مباشرة، أو على أهلهم وذويهم، فأبصروها وتفاعلوا معها بوصفها جزءاً منهم.
ينطلق الفيلم من حيز شخصي جداً وحميم، من دواخل أو بواطن المخرج ومحيطه اللصيق. الممثلون هم أصدقاء المخرج وأفراد عائلته. يدون من خلال محادثاته معهم، المستمرة على مدى أشهر وسنوات، هي سنوات التدهور الاقتصادي الذي ما زال يلحق بلبنان حتى اليوم. يروي جابر أحوال البلاد والعباد، ويستخلص من تجاربهم الشخصية في الحجر والضيق المادي والإقفال، وأسئلة كورونا ونهاية العالم ويطرح أسئلة مفصلية حول ثورة الـ17 من أكتوبر (تشرين الأول) وكيف انتهت وعلى يد من؟ ليصل بعد ذلك إلى خلاصات عدة يتبناها على ألسنة الممثلين، وفيها مواقف من الدولة اللبنانية ومؤسساتها وحاكمية مصرف لبنان وغيرها.
يوثق "قلق في بيروت" السنوات الثلاث الأخيرة التي مرت على لبنان ابتداءً من ثورة الـ17 من أكتوبر 2019، ويفترض أن من الواجب توثيق هذه الفترة، بوصفها فترة حساسة جداً في تاريخ لبنان الحديث، فهي خلاصة كل ما حصل في العقود الثلاثة الأخيرة. هذه السنوات ازدحمت بالمفاجآت والويلات على بلد صغير مثل لبنان، فشكلت حالة فريدة من الضروري الالتفات إليها والإضاءة عليها.
الوثائقي الذي حاز جائزة الكأس الذهبية في مهرجان شنغهاي للسينما وشارك في مهرجانات عالمية عدة، وهو من إنتاج الأردنية جومانا سعادة، ينقل تجارب حية لشخصيات جابر التي عايشت كل تلك المراحل، وكأنما كتب على اللبنانيين أن يعيشوا المعاناة، كل جيل على طريقته، ويعبروا عنها عبر طرائق مختلفة. الفيلم هو اقتراح تأريخ لهذه السنوات البسيطة والمفصلية لهذه المدينة التي لم تتفق حتى الآن على رواية تاريخها وكتابته بشكل فعلي وواضح.
يبدأ الفيلم مع عودة جابر من السفر إلى لبنان، وبداية ثورة الـ17 من أكتوبر ويجسد فيه حلمه ومحاولاته المتواصلة في التمرد على السائد، والسعي إلى تحقيق إنجاز، في وقت يفرض القلق نفسه عليه وعلى أقربائه. ببساطة هو حفلة استذكار لأحداث ويوميات شهدت معارك فكرية ونقاشات كانت تدور وقتذاك، ومشاهد حية من تظاهرات الشارع اللبناني أيام ثورة أكتوبر، خليط متجانس يندرج في بوتقة واحدة عنوانها القلق واللاطمأنينة.
القلق الجماعي
وبالعودة للعنوان يمكن التنبه إلى أنه عنوان عابر ولا يحيل على شيء محدد، بل يحمل تيمة يشترك فيها كل اللبنانيين مهما اختلفت طبقاتهم الاجتماعية والسياسية، هي القلق. التيمة هذه يجسدها المخرج بطريقة الوثائقي والشخصي ليطرح من خلالها أسئلة عن تركيبة البلد، وكيف يسير، وكيف يعيش الشعب اللبناني قلقه ويألفه بعد حين ويتعايش معه على رغم كل شيء؟
الوجوه التي تشترك في تقديم الفيلم ليست وجوهاً تمثيلية بالمعنى الحرفي للكلمة، وإنما وجوه معروفة عبر مواقع التواصل الاجتماعي. تكمن جماليتها بأن قصصها هي التي تصنع الفيلم. كل قصة لها شخصية محورية تتقدم درجة في الفيلم وصيرورته. وتجسد هذه الشخصيات على اختلافها العمري المكون اللبناني بأطيافه كافة.
يأخذ هذا النوع من الأفلام إلى حيز مغاير. مرحلة تجريب ورغبة في صناعة شيء جديد. رحلة في البحث عن قصص هؤلاء الذين لا يعرف الناس قصصهم، والمشترك في ما بينهم، أنهم قابعون في تلك المعاناة، يعيشون في بيوت ليست بالبيوت. عمارات هشة كأحجار الدومينو، تحتضن بين جنباتها أشخاصاً ملؤهم الهشاشة والضعف، أشبه بحيطان وجدران متروكة للريح العاصفة.
الناظر إلى الصور والرسوم المرافقة، لا يرى سوى الشخص نفسه، يتلو قصة واحدة، بملامح لا يمكن أبداً أن تكون ملكاً لشخصين أو حتى ملكاً لتوأم. وجوههم مرآة لهم جميعاً، الضحكة نفسها والضوء البارق نفسه في العيون، الثياب المتناسقة نفسها.
في "قلق في بيروت" لا نرى إلا شخصاً واحداً يعيش معاناة واحدة، لكنه يموت مليون ميتة في اليوم. أوليست المعاناة فعلاً جماعياً؟ أوليست الأفلام ذاكرة للمكان وتاريخاً له وشاهدة عليه؟
المعاناة دائماً ما تجعل الأشخاص يفكرون وكأنهم أكبر من عمرهم. هؤلاء أشخاص فقدوا مراحل من أعمارهم، كبروا قبل أوانهم، اجتزأوا من حيواتهم قطعاً ووهبوها للعدم. يتمترسون هناك طوال حياتهم. لا يفعلون شيئاً غير محاولة المضي قدماً، على رغم من سلطة التاريخ عليهم، ومن الثكنات العسكرية والمدافن الجماعية والمصير المجهول الذي يصب في حاضر أيامهم.
يرمم جابر في "قلق في بيروت" باقة من القصص المبعثرة يسردها من الواقع ومن الجرح بلا أي اعتداد بالتوليفة أو الحبكة. كتابة توثيقية شبه مجانية، ليست سوى تلك الملامح الفقيرة والهزيلة للأشياء الرائعة والجميلة في دواخلنا.