ملخص
حصيلة مشروع بحثي جماعي سوسيولوجي شامل امتد نحو 15 عاماً
"القاهرة المدينة المتنازع عليها"، هو عنوان كتاب، يعتبر الجزء الثاني من عمل بحثي ضخم، علما أن الجزء الأول صدر في كتاب آخر عنوانه "القاهرة مدينة عالمية". ونشرت الجامعة الأميركية في القاهرة الكتابين، اللذين بدأ العمل عليهما في أوائل تسعينيات القرن الماضي واستغرق نحو 15 عاماً. وقد نشرهما المركز القومي للترجمة باللغة العربية. الجزء الثاني الذي نحن بصدد مراجعته هنا، هو من تحرير دايان سينغرمان، وصدر بالعربية قبل أيام؛ بتوقيع يعقوب عبد الرحمن، وجاء في 548 صفحة ، ويركز في شكل موسوعي على "آليات عولمة الليبرالية الجديدة في القاهرة" في جزء من عهد الرئيس حسني مبارك، الذي تولى الحكم في أواخر العام 1981 واضطر إلى التخلي عنه تحت ضغط شعبي في بداية العام 2011. ويقوم فيه عدد من العلماء الذين ينتمون إلى العديد من فروع المعرفة والأعراق والسياقات، بتشريح جوانب مهمة للمدينة العريقة، وتسليط الأضواء على خباياها وخبايا قاطنيها في حياتهم اليومية؛ "بعيون فاحصة ومحايدة". وتقوم الموسوعة في كل فصل من فصولها بتحليل تأثيرات العولمة على المدينة العملاقة وكيف تتعامل معها، وكيف تؤدي تدفقات العمالة ورأس المال والمعلومات إلى إعادة تشكيل حدود المدينة وبنيانها الاقتصادي والمشهد الحضري لسياساتها وشكلها المادي. كما يوضح هؤلاء الخبراء كيف تتغلغل العولمة في آليات السلطة العامة. ثم توضح الموسوعة، عبر فصولها المختلفة، كيف يستجيب رجل الشارع العادي لآليات العولمة وكيف يقوم بمقاومتها أو تطويعها وإعادة صياغتها بحيث تبدو وكأنها محلية المنشأ.
وجاء أحد فصول الكتاب تحت عنوان "من الحارة إلى العمارة: التشبيهات الحضرية الجديدة في الأعمال الأدبية المعاصرة"، ويتضمن دراسة للأستاذة في الجامعة الأميركية في القاهرة سامية محرز، اتكأت على أربع روايات: "ذات" لصنع الله إبراهيم، "لصوص متقاعدون" لحمدي أبو جليل، "عمارة يعقوبيان" لعلاء الأسواني، و"ظل شقي اسمه عنتر" لمحمد توفيق، ورأت أنها "ترسم خريطة بالغة الكآبة للقاهرة". يقدم هذا الفصل مداخلة أدبية تتكامل وتستكمل الحوار مع النتائج التي توصلت إليها كلية القاهرة للدراسات الحضرية، في الجزء الأول "القاهرة المدينة العالمية" (تحرير دايان سينغرمان وبول عمار)، واستكشاف المتناقضات والتحديات نفسها في حياة قاطني القاهرة من خلال أعمال مبدعيها، وباعتبار أنهم مواطنون أيضاً في المدينة المعولمة.
وتقول محرز: "لا شك أن قراءة الروايات الأربع، تبرهن بوضوح وكما سبق أن أوضح سينغرمان وعمّار، قدرة أهل القاهرة على تجاوز عوالمهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية. يحدد الكتّاب الأربعة العوائق التي يواجهها القاهريون وهم يتحركون داخل ومن خلال وضد مؤسسات الدولة المهيمنة، ويعبرون عن أنماط الواقع الذاتي والقدرة على التأثير؛ ولكن في ظل ظروف ليست من اختيارهم الخاص، وضمن علاقات القوة التي يمكن أن تقوم بتجريدهم من الصفات الإنسانية وعسكرة حياتهم اليومية بطريقة جذرية (عمار وسينغرمان). لا شك أن هذه الصورة النهائية، سواء تلك التي تم تكوينها من خلال المساهمات في كتاب "القاهرة المدينة العالمية"، أو من خلال الخريطة الأدبية التي قامت محرز برسمها عن القاهرة، هي بعيدة كل البعد عن أن تكون صورة المدينة الفاضلة. تقول محرز: "تفجّع راوي نجيب محفوظ في رواية "زقاق المدق" (1947) مولولاً: "زقاق المدق يعود دائماً إلى حالته المعتادة من عدم الاكتراث والنسيان". وعلى الرغم من إزاحة الحارة وإحلال العمارة محلها، يبدو أن الروايات الأربع التي كتبت بعدها بنصف قرن تردد صدى حالة عدم الاكتراث والنسيان". ومع ذلك – تضيف محرز - يمكن للمرء أن يعود إلى رواية "زقاق المدق" ليتلمس بعض العزاء ويردد مع الشيخ درويش الصوفي في سطورها الأخيرة: "الرحمة يا آل البيت. والله لأصبرن ما حييت أليس لكل شيء نهاية؟".
ما بعد الاستشراق
قدمت سامية محرز في ذلك الفصل ما يمكن وصفه بأنه يتسق مع الهدف الأساسي للعمل الموسوعي بجزئيه وهو إبراز اتسام القاهرة بتنوع أصوات قاطنيها، ومن ثم تفكيك أساطير ما بعد الاستشراق التي صورت هذه المدينة، على أنها إما كقنبلة أو كمقبرة.
وفي فصل آخر، يتحدث خالد أدهم عن "تجربة مريرة"، في التنازع على المكان العام، حين أجرَت وزارة الثقافة (المصرية) مسابقة معمارية من أجل تشييد حديقة ثقافية للأطفال في حي السيدة زينب على أنقاض بقايا حديقة الحوض المرصود التاريخية، وهو مشروع كان المستهدف منه أن تعمل الحديقة كمركز وطني من أجل رعاية ثقافة الطفل وتطويرها في مصر. كان مصمم المشروع يرغب في أن يجعلها مفتوحة الأسوار لتحقيق التفاعل بين أطفال الحي والمنطقة التي يعيشون فيها، إلا أن وزارة الثقافة كانت ترى أن إغلاق الحديقة بأسوار هو أمر حتمي، وهو ما حدث في نهاية المطاف. وتبدل ما كان مأمولاً أن يكون حداً تفاعلياً يربط بين القطاعين، الدولة والمجتمع المحلي، إلى حائط منكوب، بحسب تلخيص لهذا الفصل أورده المترجم في المقدمة. ومن جانبها تناولت ماليكة زغل في فصل عنوانه "القاهرة كعاصمة للمؤسسات الإسلامية"، مؤسسة الأزهر ومحاولات تطويرها، من داخلها، من جانب، ومن جانب آخر محاولات الدولة الحثيثة لتدجينها وتحويلها أداة في يد السلطة السياسية.
الأحياء العشوائية
أما صامولي شيلكه فقام في الفصل التالي بنقل صورة حيّة ومشوقة لاحتفالات مولد السيدة نفيسة؛ منذ بداية الإعداد وحتى آخر أيام الاحتفالات حيث يحدث أن يتقابل نوعان مختلفان تماماً من أنماط الاحتفال في المولد، إذ تهيمن الدولة على وسط الميدان بطريقة متزايدة، بينما تهيمن الطبقات الشعبية على الشوارع الجانبية. في الفصل الرابع الذي كتبته دايان سينغرمان، حديث عن الخطاب الإعلامي المتعلق بالأحياء التي يتم وصفها بالعشوائية، وتنقل هذه المسميات خصائص سلبية إن لم تكن منحرفة، وكيف يمتد هذا الوصف من وصم الحي إلى وصم هذه المجتمعات وقاطنيها بالعديد من الصفات السلبية، فقط لمجرد أنهم قاموا بالاعتماد على أنفسهم وعلى مواردهم المحدودة في جل مشكلة الإسكان والمرافق العامة بعد أن تخلت الدولة عن دورها في ذلك. كما تشير إلى دور تحويلات العاملين المصريين خارج البلاد في الثمانينيات في التوسع في هذه الأحياء.
وتكشف سارة بن نفيسة عن القصور الشديد في الإدارة المحلية في القاهرة الكبرى ومعاناتها من تداخل الاختصاصات بين الأجهزة المختلفة والحكومة المركزية، مما يؤدي إلى عدم القدرة على تحديد المسؤولية ومحاسبة المقصرين. أما أغنيس ديبلويه فترسم صورة قلمية لبعض الأحياء التي أقيمت بتعديات واسعة أو مناطق تم الاستيلاء عليها بوضع اليد. وتشرح كيف تبيِّن هذه الأحياء بوضوح الوسائل المتسارعة بشكل دائم في بنيان المجتمع، ومع التمزقات التي تحدث في بنيان المجتمع لتقسمها إلى مجموعات متنافرة يغلب عليها التفاوت الحاد وإعادة هيكلة الاقتصاد. كما تذكر كيف تقوم هذه الأسر بتنظيم احتياجاتها المعنوية والاجتماعية، التي يمكن أن تتناقض مع المعالجات المهيمنة ومع مذاهب التخطيط الحضري الحديث.
تأويل القاهرة
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذه كلها أسئلة تدورحولها البحوث الموزّعة بين علم الاجتماع، والسياسة والأدب والتحليل الحضري، والجغرافيا التي تعاملت مع المدينة بوصفها نصاً ثقافياً قابلاً للتأويل. وهي عوامل مجتمعة تمنح أعمالاً كهذه مشروعيتها وجاري نشرها، إضافة إلى كونها تسجل تفاصيل مرحلة تاريخية مهمة من عمر القاهرة، وتحفظه للدارسين الراغبين في إجراء البحوث المقارنة تاريخياً، بغية التعرف على نقاط التحول وأشكال ومعايير الاستجابة لها. وهنا يشار إلى أن كثيراً من الباحثين المصريين يقومون بجهود شبيهة (منها مثلاً كتاب "القاهرة مؤرَّخة" تحرير نزار الصيّاد - دار العين)، فضلاً عن بحوث المراكز السياسية والاستراتيجية والاجتماعية والجنائية، وربما توصل بعضهم إلى النتائج نفسها تقريباً، إلا أن المجال العام لم يفسح لهذه الجهود مجالاً للانتشار الواسع كما يليق بجدتها. كما أن البحوث الأكاديمية المتخصصة ظلت بعيدة عن التداول الواسع، بسبب إغراقها في المنهجية، وفي الأغلب غياب دور المحرر الذي يجعلها صالحة للقراءة العامة. وختاما يمكننا ذكر أمثلة عن أعمال لأدباء مصريين تناولت القاهرة كمجال للبحث مثل "القاهرة شوارع وحكايات" (الهيئة المصرية العامة للكتاب) لحمدي أبو جليل، و"ملامح القاهرة في ألف سنة" لجمال الغيطاني، ناهيك عن روايات عديدة كانت القاهرة محورها في شكل مباشر؛ على الأقل في عناوينها منذ "القاهرة الجديدة" لنجيب محفوظ، وصولاً إلى "كل شيء هادئ في القاهرة" لمحمد صلاح العزب، و"ماكيت القاهرة" لطارق إمام.