في وقت تسود الضبابية وحال من عدم اليقين، يواجه الاقتصاد العالمي مع دخول عام 2024 أخطاراً متزايدة، إذ تستمر التوترات الجيوسياسية المتصاعدة والصراعات العسكرية في أنحاء شتى حول العالم، إلى جانب ترقب تحولات سياسية كبيرة في دول مختلفة، بحسب ما أفاد به محللون وخبراء لـ"اندبندنت عربية".
ومع بداية العام الجديد، لا تزال هناك مجموعة من الأخطار الاقتصادية والإجراءات المتعلقة بالسياسة النقدية التي ستقود أداء الاقتصاد العالمي في 2024 إما الى استمرار الاستقرار النسبي أو الوقوع في فخ الركود.
وتتضاعف المخاوف المرتبطة بحال عدم الاستقرار الاقتصادي مع تصاعد الحرب بين إسرائيل وحركة "حماس" وما تبعها من هجمات الحوثيين اليمنية، مستهدفة حركة الشحن الحيوية في البحر الأحمر، مما يعد الأحدث في سلسلة من الصدمات والأزمات المتواصلة، بما في ذلك جائحة "كوفيد- 19" والحرب في أوكرانيا التي كانت لها انعكاساتها الخطرة والمستمرة على الاقتصاد العالمي.
وأشار المحللون إلى أبرز العوامل التي ستحدد مسار الاقتصاد العالمي وإلى أين يتجه في العام الجديد؟، وفي مقدمتها التوترات الجيوسياسية والسياسة النقدية ومدى تغيرها وتأثيرها والتوقعات بوقوع الاقتصاديات الكبرى في حال ركود وتباطؤ نمو وقياس تضرر الدول الناشئة من ذلك.
وأفاد المحللون بأنه على رغم تقديرات خفض الاحتياط الفيدرالي لمعدلات الفائدة الأميركية في 2024 إلا أن اقتصاد الولايات المتحدة لا يزال يواجه أخطار الركود بفعل تداعيات التشديد النقدي الذي حدث بالفعل خلال الفترة الماضية.
نمو اقتصادي هش
إلى ذلك، ذهب صندوق النقد الدولي في توقعاته إلى أن النمو الاقتصادي العالمي الحالي هش مع تزايد الأخطار الناجمة عن إبقاء أسعار الفائدة مرتفعة بسبب التضخم، بحسب آخر تحديث للبيانات صادر في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، ليخفض الصندوق من تقديراته للنمو العالمي إلى 2.9 في المئة فقط عام 2024 مقارنة بأرقام إصدار يوليو (تموز) الماضي، البالغة ثلاثة في المئة.
أما البنك الدولي، فتوقع نمو الاقتصاد العالمي لعام 2024 بنسبة 2.4 في المئة مع ترجيحه حدوث تراجع حاد في النمو على نطاق واسع وسط أخطار الضغوط المالية في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية التي تزداد حدةً مع ارتفاع أسعار الفائدة العالمية.
والشهر الماضي، حذر البنك من أن تصاعد الحرب في غزة قد يسفر عن تضرر بالغ للاقتصاد العالمي الذي يعاني بالفعل وضعاً سيئاً، وأشار تحديداً إلى آثار مباشرة على السلع الأساسية، بخاصة النفط والأغذية.
الأخطار الجيوسياسية في مقدمة التحديات
تبقى الأخطار الجيوسياسية في مقدمة التحديات التي تواجه الاقتصاد العالمي عام 2024، مما يشكل تحدياً هائلاً لاقتصادات الدول، خصوصاً مع تداعيات حرب روسيا في أوكرانيا وتصاعد الصراع بين إسرائيل و"حماس" والاضطرابات المستمرة في البحر الأحمر، إذ تعتبر هذه العوامل مؤثرة بصورة كبيرة في المعادلات الاقتصادية.
وعلى ضوء ذلك، نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، أخيراً مقالة لـباتريشيا كوهين، المتخصصة في الاقتصاد العالمي، حملت عنوان "حربان و50 انتخاباً: الاقتصاد يواجه أخطاراً جيوسياسية متزايدة"، وتتناول أهم التحديات التي يواجهها الاقتصاد العالمي في اللحظة الراهنة والعالم على مشارف عام جديد سيشهد تحولات سياسية كبيرة في دول مختلفة.
وبحسب تقرير نشرته صحيفة "لو موند" الفرنسية، فإن الانتخابات الكبرى تزيد من تعقيد هذه التحديات، ويتمثل التركيز في هذا السياق على الأحداث الرئيسة مثل الانتخابات الأوروبية في يونيو (حزيران) المقبل والانتخابات التشريعية في الهند والمملكة المتحدة والانتخابات الرئاسية في تايوان والولايات المتحدة.
وأكدت الصحيفة في تقريرها أن التحديات ربما تتصاعد أكثر بسبب الحال الانتخابية، فيؤدي عدم اليقين السياسي الناجم عن هذه الأحداث إلى تحفيز موقف الانتظار والترقب بين الأسر والشركات، مما قد يسفر عن تقليل الزخم الاقتصادي.
تباين الآفاق الاقتصادية
تعتبر التوقعات الاقتصادية العالمية للعام الحالي متباينة إلى حد كبير، إذ يظل النمو بطيئاً في معظم أنحاء العالم، فيُتوقع أن تشهد الولايات المتحدة على عكس التقديرات السابقة، "هبوطاً ناعماً" خلال الأشهر المقبلة، مع توقع نمو للناتج المحلي الإجمالي لأكبر اقتصاد في العالم بنسبة 1.5 في المئة عام 2024.
في المقابل، تواجه منطقة اليورو تحديات أقل حدة، مما يثير تساؤلات حول إمكان تجنب الركود، خصوصاً مع محاولات الدول الأوروبية التزام قواعد الموازنة التي تؤثر في الاستثمارات الضرورية لتطوير الصناعة الخضراء.
ومن المتوقع أن يواصل المحرك الاقتصادي للصين تباطؤه عام 2024، وعلى رغم التحديات الهيكلية تظل الاقتصادات الناشئة مرنة وقادرة على الاستفادة من انخفاض أسعار الفائدة.
ووسط حال عدم اليقين المستمرة، يبقى السؤال الملح في شأن ما إذا كانت الأزمة التضخمية انتهت بالفعل، إذ تظل العوامل الجيوسياسية، بخاصة تصاعد الصراع في الشرق الأوسط، قادرة على التأثير في أسعار النفط وتعطيل التجارة العالمية.
استمرار التقلبات
وخلصت دراسة نصف سنوية أجراها "المنتدى الاقتصادي العالمي" إلى أن استمرار التقلبات في العلاقات الجيوسياسية والاقتصادية عالمياً هو أكبر مصدر قلق لكبار مسؤولي الأخطار في كل من القطاعين العام والخاص"، إضافة إلى مخاوف استمرار الصراعات العسكرية وتزايد نوبات الطقس القاسي والانتخابات الكبرى المقبلة التي من المرجح أن تستمر تأثيراتها وتبعاتها خلال 2024.
أسواق الأسهم
ومرت أسواق الأسهم العالمية بمكاسب قوية عام 2023 بدعم التحول المرتقب في السياسة النقدية للبنوك المركزية والتباطؤ السريع للتضخم.
أفضل توقعات
وقال المحلل المالي طارق قاقيش إن عام 2023 كان عاماً جيداً للمستثمرين في أسواق الأسهم العالمية التي شهدت أداءً أفضل من التوقعات وأظهرت ارتفاعاً بنسبة تقارب 20 في المئة على رغم ارتفاع أسعار الفائدة وتصاعد التوترات الجيوسياسية.
وأشار إلى أنه مع دخول 2024، فإن توقعات الأسواق تميل إلى التفاؤل، لكن في الوقت نفسه تظل البيئة الاقتصادية الكلية متقلبة وتحتاج إلى بعض الحذر، مؤكداً أنه يجب مراقبة الانتخابات في الولايات المتحدة وعدد من الدول الأخرى التي من المقرر إجراؤها هذا العام، مما يضيف عنصراً آخر من عدم اليقين، إلى جانب التغير المرتقب بسياسات البنوك المركزية وبدء دورة خفض الفائدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتوقع قاقيش أن يتباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي بصورة ملحوظة عام 2024 إلى 2.8 في المئة بعد مرونة مفاجئة خلال العام الماضي وسط الترجيحات أن تدخل الولايات المتحدة فترة من النمو دون المتوسط، مع اقتراب أوروبا من الركود وتأثر النشاط الاقتصادي في الصين بسبب مشكلات في قطاع العقارات.
ورجح أن تحافظ معظم البنوك المركزية في الأسواق المتقدمة على أسعار الفائدة عند ذروتها حتى يتأكدوا من تقارب التضخم مع الأهداف المحددة، مقدّراً بأن يختلف أداء السندات والأسهم مرة أخرى في 2024 مع التوقع ببيئة متقلبة ومؤكداً أنه يجب على المستثمرين ألا يعتمدوا على الأداء قصير الأجل فقط، وأشار إلى أنه يجب ربط استراتيجياتهم بالعوامل التي من شأنها دعم الأسواق وبعض الأصول على المدى الطويل.
وضع مختلف
من جانبه، رأى الشريك المؤسس لأكاديمية "ماركت تريدر" الأميركية لأسواق المال عمرو عبده أنه يبدو أن الاقتصاد العالمي تجنب الانكماش عام 2023 كما هو متوقع، مع تسجيل عدد من الاقتصادات الكبرى لنمو.
وقال إن الأمر مختلف عام 2024 مع حال التصعيد في منطقة الشرق الأوسط واستمرار الحرب الأوكرانية للعام الثاني على التوالي.
أخطار الركود
في المقابل اعتبر مستشار أسواق الأسهم العالمية محمد مهدي عبدالنبي أن غالبية أخطار العام الجديد متمثلة في حدوث ركود في أميركا وتباطؤ الاقتصاد الصيني.
ويرى أن ذلك يأتي على رغم عوامل داعمة للنمو العالمي عام 2024 بما في ذلك نمو قوي في دخل الأسر الحقيقية وتباطؤ لسياسات التشديد النقدي مع انتعاش نشاط التصنيع.
استبعاد الانهيار الوشيك
ويستبعد المتخصص في شؤون البيئة والاقتصاد الأخضر محمد كرم، مدير عام "إنسينكراتور" في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، أن يتكرر الانهيار الوشيك للاقتصادات المتقدمة مثلما حدث عام 2008 سواء كان هناك ركود أو لا، مشدداً على أن ما يهم في العام الجديد هو كيفية تفاعل الأسهم والسندات والسلع والأصول الحقيقية مع تطورات الاقتصاد الكلي والجزئي المستقبلية.
ورجح أن تنخفض اتجاهات النمو الاقتصادي عالمياً خلال 2024، وربما يقترب في بعض الأحيان من الانكماش، ولكن الضغوط التضخمية ستبدأ بالانحسار، ولو بصورة تدريجية.
البحث عن الفرص
بدوره، رجح المستشار المالي محمود عطا ألا تتجه معظم البنوك المركزية الكبرى لخفض أسعار الفائدة إلا بحلول النصف الثاني من العام الحالي، مضيفاً أنه من السابق لأوانه أن تعلن البنوك المركزية انتصاراً صريحاً على التضخم، ومتوقعاً ألا تمنع خفوضات أسعار الفائدة المرجح حدوثها هذا العام الضعف الاقتصادي.
وقال عطا إن عام 2024 سيدور حول البحث عن فرص في الأسواق التي يمكن أن تولد عوائد إيجابية، مرجحاً أن يؤثر النمو البطيء بالصين في الأسواق الناشئة، وأكد أن هناك خطراً من احتمال انزلاق اقتصاد البلاد إلى دوامة أوسع من الديون والانكماش، مع تأثيرات مضاعفة في بقية آسيا وخارجها.
تحديات قائمة ومستقبلية أخرى
وتبرز تحديات قائمة ومستقبلية أخرى ستواجه محركات التعافي الاقتصادي عام 2024، منها مستقبل التقنية والتطور في دعم النمو، بينما تزايد الاهتمام بالاستدامة وتحول الطاقة يعكسان تحولاً هيكلياً في السياسات الاقتصادية المستقبلية.
ومن الناحية التكنولوجية، يشهد العالم تسارعاً في التقنيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي والتحليل الضخم للبيانات، فيما يقوم هذا الابتكار بدور حاسم في تحسين الإنتاجية وتعزيز التنافسية في مختلف الصناعات.
وفي مجال الاستدامة والطاقة، يشير التحول العالمي نحو مصادر الطاقة المتجددة إلى الالتزام المتزايد بتحقيق الاستدامة، وقد تشهد السوق زيادة في الاستثمارات في مشاريع الطاقة المتجددة والابتكارات البيئية.
ومن خلال التحول الرقمي، يستمر التكامل مع التقنيات الرقمية في مختلف القطاعات، وتسهم الحوسبة السحابية وتقنيات الذكاء الاصطناعي في تحسين الأداء وتسريع العمليات التجارية.