ملخص
إذا أزيحت "الدعم السريع" فإنها ستترك فراغاً ستملأه الحركات المسلحة التي تريد تقويض الجيش لتحقيق أهدافها
اتسع نطاق القتال في السودان وتمدد حتى تجاوز مدينة ود مدني بعد اشتباكات عنيفة مع الجيش، مما أدى إلى نزوح مئات الآلاف من المنطقة إلى ولايتي سنار والقضارف. وبتمدد قوات "الدعم السريع" إلى ولاية الجزيرة التي تحظى بأهمية استراتيجية واقتصادية وعسكرية وصحية كبيرة يمكن أن يؤثر ذلك في مسار الأزمة السودانية في الفترة المقبلة من واقع مقدرة هذه القوات على السيطرة على مناطق أخرى بالأهمية نفسها أو متفوقة عليها.
وبمراجعة تطورات الصراع منذ نشوئه وحتى الآن يتضح أن الحرب التي بدأت عنيفة ومتحركة بسرعة قد جعلت السودان في مرمى الإخفاق والتخبط لتعكس من ثم ضعف الجيش وتراجع خططه من جهة، ودوره القيادي من جهة أخرى. ولعل الفشل في إدارة الملفات المحددة أساساً لسياسة السودان داخل الإقليم والتحدي الذي تبديه بعض دول الجوار وسياساتها من دون أي اعتبار لردة الفعل الرسمية من ناحية أخرى، يشيران إلى أن الأمور ستكون لصالح "الدعم السريع" على حساب الجيش سواء ما تسفر عنه نتيجة الحرب إن استمرت أو المفاوضات في حال التوافق على التحرك إلى مرحلة أخرى. ومع إدراك أن المفاوضات نفسها قد تكون صورة أخرى من صور إطالة أمد الحرب، فمن المؤكد أن قيادة "الدعم السريع" ستسعى إلى الاستفادة من الوضع الراهن لتعزيز مكانة قواتها ونفوذها.
ارتدادات الحرب
وكشف اقتراب الحرب من شهرها العاشر عن تواتر حوادث العنف التي يتعرض لها المدنيون من انتهاكات. وفي ظل هذا الوضع، ومع استمرار العمليات العسكرية وتصاعدها، يتوقع احتمال تزايد معدل العنف. ويؤدي كل هذا إلى تقويض فرص السلام بفشل التفاوض، لأن ما يحدث الآن يسير في اتجاه التحول في مسار الأزمة من خلال ممارسة الضغوط على قيادة الجيش للعودة إلى مطالب "الدعم السريع" وهي موضع الخلاف منذ توقيع الاتفاق الإطاري في ديسمبر (كانون الأول) 2022، في ما يتعلق بدمج "الدعم السريع" داخل الجيش والخلاف حول مدة الدمج.
وبقدرتها على التمدد في ربوع السودان المنبسطة، من الممكن أن تهدد "الدعم السريع" المرافق الحيوية الاستراتيجية مثل أنابيب ومصافي النفط، والسدود والخزانات على نهر النيل والأنهر المتفرعة منه، ومحطات توليد الطاقة الكهربائية وغيرها.
كما يعد الطريق من مدني إلى بورتسودان من أهم الطرق التجارية التي تربط وسط وغرب وجنوب السودان بموانئ التصدير والاستيراد في سواكن وبورتسودان، وهو طريق معرض لتهديد الحركة التجارية بالنهب أو التعرض لناقلات السلع الزراعية والغذائية والبضائع المختلفة. وكلما تأخرت مدة التفاوض ازداد التهديد لهذا الطريق المهم، ومن ثم ينعكس تأثيره في ما تبقى من مصادر رزق للسكان، واستنزاف أكبر لموارد البلاد الاقتصادية التي تعطلت أقسام كبيرة منها بسبب الحرب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضع هذا الخطر المواطنين السودانيين أمام تحديات كبيرة، إذ إنهم كانوا يعولون بصورة قاطعة على الجيش في أن تظل هذه المناطق آمنة لا سيما بعد إعلان الخرطوم مدينة لا يمكن العيش فيها في ظل هذه الظروف، ولكن يوماً بعد يوم تثبت قوات الجيش أنها أمام تحديات كبيرة. وفي سعيه إلى تعزيز قواته الحربية، أعلن الجيش الدعوة إلى الاستنفار الشعبي للانضمام إلى القتال إلى جانبه، أو على أقل تقدير التسلح بغرض الدفاع عن مناطقهم وأنفسهم، وهذا ما يحولهم إلى أهداف واضحة لـ"الدعم السريع".
ملامح الإخفاق
وفي هذه المرحلة التي كان يمكن أن تضمن تحولاً إيجاباً في مسار الحرب، لكن بدلاً من ذلك زادت معاناة السودانيين في المدن الأخرى بمواجهة الضغوط العسكرية نيابة عن الجيش الذي فرت قوة منه إلى سنار تاركة المواطنين أمام هذه المواجهة. وقد فسر هذا التطور بأنه ربما تكون هناك خطة معينة للجيش حاول فيها التخفيف من الضغط الكثيف على العاصمة الخرطوم وامتداد النزاع إلى منطقة جبل أولياء ووادي سيدنا العسكرية وغيرها. وهناك أسباب عدة لبروز هذا التصور وهي، أولاً، فشل الجيش في منع "الدعم السريع" من ضم مناطق كانت فعلياً تحت سيطرة الجيش، وانسحاب قوات الجيش التي بررت بأنها "خيانة" لم تفعل حيالها قيادة الجيش شيئاً يذكر سوى خضوع القوة المعنية للمحاسبة.
ثانياً، عدم فاعلية ملف اتفاق سلام جوبا الموقع في 2020، وكانت، وقتها، "الدعم السريع" ضمن المجلس العسكري وقائدها محمد حمدان دقلو ضمن الموقعين على الاتفاق من طرف الحكومة الانتقالية مع الطرف الثاني الحركات المسلحة، وهذا لا يحفز الأطراف المتصارعة الآن على توقيع أي اتفاق سلام مقبل، وهو ما جعل اختراق الهدن العديدة التي وقع عليها في جدة في الأشهر الأولى من الحرب سهلاً.
ثالثاً، واجه الجيش مشكلات عدة، إذ فشل في وقف الحرب ومواجهة "الدعم السريع" أو وضع عقوبات ضده، ما عدا إعلان تمرد قائد "الدعم السريع" الجنرال "حميدتي"، وهذا لا يعني شيئاً بالنسبة إليه لأنه، بحسب قوله، لم يحس أن قواته كانت جزءاً من الجيش. وكما ذكر في إحدى محادثاته بعد ظهوره الأخير أن هذه الحرب كان متوقعاً حدوثها منذ سقوط عمر البشير، ولكن، بحسب زعمه، هو من منعها حتى تفاقم الأمر.
رابعاً، هناك شيء ما يجبر قوات الجيش على التراجع عن التدخل العسكري، ما عده كثر تلكؤاً في مواجهة "الدعم السريع" أفضى إلى تعقيد الأوضاع، وأصبحت بفضله كلفة الحرب مرتفعة، وتخطت حدود العاصمة الخرطوم وانتقلت إلى أقاليم ومدن أخرى. وبعد كل ذلك، لا يزال الجيش يستخدم الطيران الحربي ضد قوات متمرسة في الحرب البرية، مما فاقم الخسائر على المدنيين.
إشارات الانكفاء
هذه الأسباب أعطت بمجملها إشارات تراجع وانكفاء الجيش، جعلت حلفاءه من الأحزاب والحركات المسلحة يقتنعون بالتراجع عن وقوفهم معه، فقد أعلن حاكم عام إقليم دارفور رئيس حركة تحرير السودان مني أركو مناوي أنه مضطر إلى تلبية دعوة "الدعم السريع" للذهاب إلى أديس أبابا لحقن الدماء ووقف الحرب، وذلك بعد أيام قليلة من انضمام فصيل من قواته بقيادة مفتش الحركة العقيد علي جبل مون، وكذلك انضمام قوات من حركة "العدل والمساواة" إلى "الدعم السريع" بغرب دارفور.
وهي الأسباب ذاتها التي عززت الفواعل من القوى التي كانت تعد حتى وقت قريب من القوى غير النظامية، فالحركات المسلحة في دارفور وجبال النوبة على رغم تواؤمها الحالي مع الجيش، فإن موقفها من "دولة 56" (الدولة السودانية الحديثة بعد الاستقلال) هو موقف "الدعم السريع" نفسه، فكلها تحركها الحقوق والتهميش مما أفقدها الثقة في أي التزامات للدولة السودانية تجاه أقاليمها منذ الاستقلال وحتى الآن.
ولم يكن متوقعاً أن تتغير هذه النظرة المتجذرة في قرارة التكوينات السياسية وشبه العسكرية بمجرد نشوب انتفاضة أزاحت الرئيس السابق عمر البشير الذي ناصبها العداء، بينما خلفه الجنرال عبدالفتاح البرهان من المنظومة العسكرية ذاتها. وهذا ما يشجع على مزيد من الصراع وتعقده وتأزمه، ويدفع الحرب إلى التوسع والتمدد أكثر. فإذا أزيحت "الدعم السريع"، فإنها ستترك فراغاً ستملأه هذه القوى التي تريد تقويض الجيش لتحقيق أهدافها، فلم يعد اندماجها في الجيش هو الطموح الوحيد بالنظر إلى هذه التجربة.
تسوية نهائية
ويتضمن التفاوض المنتظر أدلة حول طبيعة التسوية النهائية لوقف الحرب، إضافة إلى التفضيلات الأولية لطرفي النزاع. وعادة ما يمضي المفاوضون في العمل مع إيلاء مزيد من الاهتمام لعملية التفاوض بدلاً من التركيز على النتيجة التي ستؤدي إليها العملية. ولا يتم التصريح جدياً في ما يرغب فيه الطرفان إلا بعد بدء المداولات، وهذا ما يظهر أن القبول بالتفاوض هو أولى الخطوات الجادة والمهمة، ولكن يبدو أن القيادات من الجانبين تماطل لكسب الوقت بوضع شروط عليها خلاف كبير حتى يبتدرا التفاوض.
والتفاوض جزء لا يتجزأ من السياسة السودانية ارتبط بكثرة الحروب والنزاعات، ومع ذلك لم يمتلك الساسة كل مهاراته، فمعظمهم مفاوضون غير فعالين ولم يتعلموا بعد الابتعاد عن المزالق الأكثر شيوعاً في المفاوضات السياسية، ومع أن التفاوض عملية تعتمد على الخيارات الاستراتيجية، ولكن في حالة الحرب الحالية، تقف الأهداف غير المحددة لقيامها أو الرغبة في إنهائها عقبة أمام أي خيارات استراتيجية. ومنذ بداية التفاوض على السلام في حرب الجنوب الذي بدأ في خمسينيات القرن الماضي، وتبعته مفاوضات خلال العقود التالية وصولاً إلى اتفاق السلام "نيفاشا" عام 2005، لا يهتم أي طرف بنتائج الطرف الآخر.
وفي الحرب الحالية التي شهدت مفاوضات عدة من خلال منبر جدة و"إيغاد"، فإن طرفي النزاع يبدوان وكأنهما يفتقران إلى قوة التفاوض ومستوى الثقة، وهما عاملان دافعان أساسيان لنجاح المفاوضات، بينما على مسرح الحرب، فلا تزال طبيعة ومستوى الأخطار عالية.