Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مونترلان الفرنسي يختار فوضويا إسبانيا لينطق باسم فوضاه الوجودية

من انتحار بطل رواية "الفوضى والليل" بسيف مصارع ثيران إلى انتحار الكاتب الفرنسي

هنري دي مونترلان (1928 – 1972) (غيتي)

خلال السنوات الـ10 الأخيرة من حياته تخلو مسيرة الكاتب الفرنسي هنري دي مونترلان عملياً من أية أعمال كبرى ولا نقول هنا من أية أعمال ناجحة تضعه في الصف الأول بين الكتاب الفرنسيين الأكثر شعبية أكان ذلك في الكتابة المسرحية أو في الكتابة الروائية، وهما فنان كان بارعاً فيهما. والحال أن الإقبال على نصوص مونترلان في المجالين كان كبيراً وأكثر من مشجع عند منتصف القرن الـ20، بل كان مدهشاً وسط مناخ أدبي وفكري كانت الأيديولوجيات تسيطر على الإنتاج الكتابي فيه، ومونترلان، حتى وإن كان قد عرف بيمينية فكرية ما، لم يكن من الذين يغالون كحال مجايليه في إغراق نصوصه في الأيديولوجيا. هو كان يترك ذلك لفلاسفة يجربون حظهم في الكتابة الإبداعية المفعمة بالأيديولوجيا (سارتر على سبيل المثال)، أو الأدباء من طينة البير كامو وسيلين يجربون مواهبهم في التوجهات الفكرية – الأيديولوجية. بالنسبة إلى مونترلان كان الإبداع الكتابي شيئاً والتفكير الأيديولوجي شيئاً آخر. ومن هنا كانت دهشة قرائه كبيرة في عام 1963 حين أصدر تلك الرواية التي ستكون واحداً من آخر أعماله الكبرى، بل واحدة من أكثر رواياته نجاحاً، "الفوضى والليل" والتي حملت بشكل حافل بالتناقض ملامح من كثير من أمور كان يبدو على مونترلان مناوأته لها.

سيليستينو في المنفى

وهنا قبل التوقف عند تفاصيل موضوعنا قد لا يكون ثمة مفر من أن نروي باختصار الحكاية التي يقصها علينا هنري دي مونترلان (1928 – 1972) في هذا العمل الروائي الذي سيحقق من النجاح ما لم يتمكن من تحقيقه أي عمل آخر للكاتب قبل أن يهبط في النسيان تدريجاً خلال السنوات التالية لرحيل صاحبه انتحاراً بعد عقد من صدور الرواية. فهذه الأخيرة تدور من حول سيليستينو المقاتل السابق في القوات الجمهورية الإسبانية، ولا سيما بين فرقها الأكثر نضالية ونزاهة، الفرق الفوضوية التي كانت تحارب على جبهتين في آن معاً: جبهة الشيوعيين المدعومين من موسكو، وجبهة الفرانكويين المدعومين من نازيي ألمانيا وفاشيي إيطاليا. وكان سيليستينو قد لجأ إلى فرنسا بعد هزيمته وفريقه في الحرب الأهلية الإسبانية ليعيش كأي بورجوازي فرنسي صغير بفضل ما كان يصل إليه من مدخول توفره له بعض الأملاك التي بقيت له في وطنه الأصلي، ها هو يعيش الآن على ذكرياته كما على تصوراته عن الرعب والفاقة التي يعيشها الناس في بلده. غير أن هذه التصورات سرعان ما تتحطم لدى عودته إلى إسبانيا إثر وفاة شقيقته التي بقيت هناك واضطراره إلى الذهاب لتسوية إرث تلك الشقيقة.

حياة إسبانية هادئة

والحال أن أبرز ما اتسمت به تلك الرواية ولا سيما في القسم الثاني منها إثر عودة سيليستينو إلى إسبانيا، بعدها الأيديولوجي الذي جعلها تبدو في نهاية المطاف وكأنها وصية فكرية وضع فيها الكاتب ما لم يكن قد رأى ضرورة لوضعه في أعمال سابقة له، بل عبر فيها عن فكرانية لم يكن يبدو في السابق مهتماً بالتعبير عنه. فكرانية تطرح أسئلة سياسية شائكة من حول سياسات بدت هنا واضحة، وذلك من خلال الشخصية المركزية في الرواية، والتي سيرى كثر من النقاد والمؤرخين، ولو متأخرين، أنها تكاد تنطق باسم الكاتب مع أنها شخصية مناضل يساري فوضوي إسباني كان قد التجأ مع ابنته إلى باريس يعيش فيها بعدما انهارت الثورة الإسبانية ضد فرانكو، وها هو في مجرى الرواية يعود إلى وطنه والحقيقة أن تلك العودة ستكون مناسبة لتأمل بطل الرواية ما حصل في بلده من تغيرات تحت ديكتاتورية فرانكو التي كانت مظفرة في ذلك الحين بشكل يدفع البطل إلى طرح تساؤلات حادة عما فعل وفي سبيل ماذا أضاع شبابه. والحقيقة أننا إذ نقول هذا، لا نعني أن سيليستينو، بطل النضال الإسباني قد تراجع عن عدائه لفرانكو وللديكتاتورية على ضوء أي نوع من أنواع المقارنات.

تساؤلات لمجرد فهم ما يحدث

ما نعنيه فقط أن الرجل قد طرح من التساؤلات ما يفتح الباب واسعاً أمامه، ليس للمراجعة أو التراجع، لا لفهم ماضيه وربما للخروج من ذلك في اتجاه وضع تلك الوصية الفكرية التي سيتجه كثر من النقاد عند انتحار مونترلان بعد 10 سنوات من صدور الرواية إلى الافتراض بأن هذا الأخير إنما كتب تلك الرواية لمجرد أن يراجع فيها مواقفه السابقة التي تلتقي هنا بشكل أو آخر مع المواقف التي يعزوها إلى سيليستينو كنوع من الإعلان المسبق عن تلك الأفكار السياسية التي يريد القول إنها هي ما يدفعه إلى وضع حد لحياته أمام المأزق الوجودي الذي رأى نفسه يغوص فيه. ومن هنا اعتبر أولئك النقاد أن "الفوضى والليل" يمكن اعتبارها من أكثر روايات مونترلان ذاتية، وتحديداً انطلاقاً من اعتبارها في الوقت نفسه، من ثم وصيته الفكرية – الأيديولوجية. ومن هنا تكثفت وعلى ضوء انتحار مونترلان وعلى ضوء استنكافه عن كتابة أية رواية جديدة خلال السنوات التي فصلت بين صدور الرواية التي نتناولها هنا، وانتحاره، تكثفت محاولات النقاد لتفسير رواية لم يفت مونترلان على أية حال أن يقول عنها أنها بالنسبة إليه عمل أدبي خالص حاول فيه أن يرسم مصير شخص عرفه عن قرب وكثيرا ما تناقش معه من حول قناعتهما الفكرية المتناقضة. وأراد هنا أن يصور ذلك التناقض ليس في كونه جعلهما يتجابهان فكرياً، وهي على أية حال مجابهة لا وجود لها في الرواية بالنظر إلى أن معظم تأملات سيليستينو إنما ولدت لديه في إسبانيا بعد عودته إليها. أما ضروب يقينه فكانت مسيطرة على حياته في منفاه الفرنسي، وفي أحسن الأحوال من خلال مناقشاته مع ابنته باسكواليتا التي كانت تقاسمه منفاه قبل أن "تتفرنس" من ناحيتها تاركة إياه غارقاً في ماضيه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حياتان "مختلفتان"

والحقيقة أننا نعرف أن ليس في حياة وفكر مونترلان، مما يجعل من سيليستينو أنا/ آخر له ما يبرر التفسيرات التي جاء بها النقاد، ليس على ضوء صدور الكتاب ومحاولتهم موضعته في سياق المتن الروائي – بل حتى المسرحي/ الفكري – للكاتب، بل لاحقاً على ضوء انتحاره الذي يكاد يكون انتحاراً إسبانياً، ذلك الانتحار الذي كان على أية حال مصير بطله في الرواية: سيليستينو الذي ستكمن مأساته الكبرى في اكتشافه قبل موته مباشرة خواء ولا جدوى كل تضحياته في سبيله. صحيح أن انتحار سيليستينو كان بدوره انتحاراً إسبانياً - أعلن مسبقاً عن انتحار مونترلان – وهو أتى في وقت كانت شرطة فرانكو تصل إلى مكان إقامته كي تعتقله على ضوء انكشاف أمره لمحاكمته على ماضيه، وربما أيضاً على نشاطاته الحالية في المنفى الفرنسي، ولكن الفارق الكبير بين ذلك الانتحار وانتحار مونترلان كمن في أن الشرطة حين دخلت غرفة سيليستينو وجدته جثة هامدة ماتت بأربع ضربات سيف أجهزت عليه بالطريقة نفسها التي يجهز بها مصارع الثيران على الثور الذي يتصدى له في الكوريدا أمام المتفرجين الصارخين المصفقين. فهل ترانا هنا أمام انتحار أم في الحقيقة أمام تعبير أخير عن انتماء حقيقي إلى إسبانيا عرف الكاتب كيف يعبر عنه في وقت سيبدو واضحاً أنه بات على قناعة من أنه ومهما فعل سيبقى عاجزاً عن أن يكون إسبانياً بالفعل. فالإسباني الحقيقي موجود خارجه. هناك في ثنايا تلك الرواية التي إذا كانت تكشف عن شيء فإنما عن فرنسيته، وإذا كانت تعبر عن شيء فإنما عن عجزه هو عن أن يكون إسبانياً، هو الذي كنت أعماله السابقة، روائية كانت أم مسرحية، إنما تعبر عن ترسخ جذوره الفرنسية، معبراً عنها بانتمائه بصورة أو بأخرى إلى النبالة الفرنسية، حتى وإن كان كثير من مواضيع كتاباته يستنكف عن التعبير عن ذلك؟!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة