في ليلة باريسية طال انتظارها، قدمت رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيث بورن، استقالتها نزولاً على طلب رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون، وفي كل الأحوال لم يكن الخبر مفاجئاً بل منتظراً.
وبعد ترشيح مفاجئ لوزير التربية الشاب غابرييل أتال بين الأسماء المتداولة ليكون الأوفر حظاً لتولي المنصب، أكدت إذاعة "آر تي أل" وتلفزيون "بي أف أم"، أن الرئيس ماكرون اختار حليفه "أتال" بالفعل رئيساً جديداً للوزراء.
وسارع النائب عن حزب أقصى اليسار أريك كوكريل، بمطالبة غابرييل أتال بالكشف عن خطوط سياسته العامة بعد حفل التسلم والتسليم. وتوقع المحللون أن ينفذ أتال السياسة التي يرسمها له ماكرون الذي اجتمع به على مدى ساعتين صباح اليوم الثلاثاء على مائدة فطور.
أول زيارة لرئيس الوزراء الجديد ستكون إلى المتضررين بفعل الفيضانات شمال البلاد ويتوقع أن يبقي بعض الوزراء في مناصبهم، إلا أن جيرالد دارمانان سارع بالإعلان عن نيته البقاء في وزارة الداخلية.
لماذا أتال؟
تعديل وزاري بدا واضحاً أنه محاولة لإعطاء نفس جديد في المرحلة المقبلة، يساعد على استعادة شعبية مفقودة تحت وطأة القوانين الجديدة والإصلاحات التي فرضتها "بورن" وتوحيد صفوف الحزب الحاكم (حزب النهضة).
وحدة تصدعت تحت وطأة قانون الهجرة الجديد، إضافة إلى اللحاق بركاب السباق للانتخابات الأوروبية التي باتت على بعد خمسة أشهر فقط، بخاصة أن الجبهة الوطنية المنافس بقيادة النائب الشاب جوردان بارديلا، متقدمة بـ10 نقاط أمام نواب الغالبية، بحسب استطلاعات. ويظهر بارديلا في طليعة الشخصيات المفضلة لدى الفرنسيين.
أتال لمواجهة بارديلا
وقبل الإعلان عن اختياره رئيساً للوزراء، برز اسم غابرييل أتال ليكون المنافس الأفضل أمام مرشح الجبهة الوطنية للاستحقاق الأوروبي. أتال ذاك الشاب الذي لم يتجاوز 34 عاماً بدا الوزير الأكثر شعبية في الآونة الأخيرة، ضمن منافسة بين وجهين شابين جعلته في خانة الأفضل لمواجهة تحدي اقتراع اليورو.
ظل أتال، خليفة إليزابيث بورن، موضع مراهنات وتخمينات منذ تبني قانون الهجرة الجديد (الذي يعكف على مراجعته المجلس الدستوري) في فرنسا.
وخلال الفترة التي تلت تبني قانون الهجرة الجديد، ومع تصاعد التكهنات حول خلفها بقيت بورن متمسكة بأمل البقاء في منصبها رغم الإشارة التي صدرت من الرئيس ماكرون التي توحي بقرار التخلي عن رئيسة وزرائه، ومنها إلغاء جلسة مجلس الوزراء في اللحظة الأخيرة، الثلاثاء الماضي.
وأبقت رئيس الوزراء المستقيلة على ملء أجندتها حتى اللحظة الأخيرة، وساعدها في الاحتفاظ بهذا الأمل التعديل الوزاري السابق في يونيو (حزيران) الماضي بعد معركة تبني قانون التقاعد الذي اقتصر على تسمية بعض الوزراء، وعرفت خلاله فرنسا موجة احتجاجات وإضرابات واضطرابات شاملة فكسبت معركة منافسة أمام وزير الداخلية جيرالد دارمانان، الذي كان يهيئ نفسه للمقعد أيضاً.
في رسالتها، تعهدت "بورن" تقديم استقالتها نزولاً على رغبة ماكرون الذي أحاطها علماً بنيته تغيير رئيس الوزراء، مشيرة إلى أنها تغادر منصبها مع الشعور بأداء الواجب، "أتقدم باستقالتي وكلي شعور بأداء الواجب على أكمل وجه". ولفتت الانتباه إلى ضرورة مواصلة الإصلاحات.
شبح حجب الثقة
ردود الفعل على استقالة بورن، عكست وجهات نظر اليمين واليسار فهي حظيت بإطراء اليمين على أدائها على غرار تعبير زعيم كتلة الجمهوريين في مجلس الشيوخ برونو روتايو عن "احترامه لها وتثمينه لنزاهتها وعملها الجدي"، وكذلك فعلت رئيسة منطقة ايل دوفرانس، فاليري بيكريس. إلا أن أقصى اليمين بزعامة جوردان بارديلا اعتبر عكس ذلك.
في حين أعلنت كتلة نواب أقصى اليسار (فرنسا المتمردة)، أن إليزابيث بورن، تركت بصمة سيئة، متعهدة المطالبة بانتخاب منح الثقة بناء على خطاب السياسة العامة الذي يقدمه رئيس الحكومة المقبلة، وفي حال لم يحصل ذلك ستتمسك بحجب الثقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فيما رأى زعيم "الحزب الاشتراكي" أوليفيه فور، "أن حصيلة ولاية بورن ثقيلة الحمل على الفرنسيين"، معيداً التذكير بأنها بدأت بتعديل نظام التقاعد لتنتهي بقانون الهجرة، ولم يخف انتقاده لطريقة تعامل ماكرون الذي يبقى هو سيد الموقف، وهو من يأخذ القرار.
وأشار "فور" إلى أن "بورن" لم تكن على الدوام على توافق في الرأي مع ماكرون، وأنها لم تكن تريد تحمل وزر إقرار قانون الهجرة، لكنها فعلت ذلك. وأضاف في تصريح لإذاعة "فرانس إنفو"، أن ماكرون سبق أن لفت الانتباه إلى التعديل، وأنه ناجم عن حرب المنافسة بين الوزراء.
وبذلك تكون إليزابيث بورن أمضت 20 شهراً في رئاسة الوزراء الفرنسية، وهي المرأة الثانية التي تولت هذا المنصب في تاريخ الجمهورية الخامسة ولكن مع مدة أطول من تلك التي احتلتها إديس كريسون، والتي امتدت بين الثاني من أبريل (نيسان) 1995 و15 مايو (أيار) من العام نفسه.
وتعين على إليزابيث بورن تبني 60 نصاً دستورياً في ظل غالبية نسبية، استعانت خلالها بالمادة 49.3 ثلاثة وعشرين مرة نالت بسببها صفة (السيدة 49.3) أو (مدام 49.3). وتلجأ الحكومات الفرنسية إلى تلك المادة الدستورية لتمرير مشروعات من دون عرضها على التصويت في الجمعية الوطنية (مجلس النواب).
لكن المعركة الأشرس تمثلت بتمرير قانون الهجرة الجديد الذي عصف بوحدة حزب الغالبية، "النهضة" حيث اعترض نواب جناح اليسار على القانون. وهو ما تدفع ثمنه اليوم.
مراحل تنقيح الأسماء
سطوع اسم وزير التربية غابرييل أتال لخلافة إليزابيث بورن في رئاسة الوزراء، جاء بعد تنقيحات عديدة تمت تباعاً بعد معارك بعضها خفية والآخر ظهر إلى العلن. واستقر الرئيس الفرنسي على وزيره الأول على رغم الضغوط التي واجهها، إذ من بين الذين استقبلهم ماكرون "جيرالد دارمانان" المتوقع بقاؤه في وزارته لتأمين حماية الألعاب الأولمبية، وكذلك برونو لومير، الذي تلقى توصية بالترشح للانتخابات الأوروبية.
تعديل وزاري على حكومة ماكرون يأتي على وقع مطالبة زعيم اليمين الوسط فرانسوا بايرو المقرب من جناح اليسار في حزب الماكرونية، الذي حرص دائماً على عدم توجه حزب الغالبية نحو اليمين.
كواليس أضعفت جميعها موقع وزير الجيوش الفرنسية سيباستيان لوكورنو الذي نافس وزيرة الخارجية كاترين كولونا، وأحكم قبضته على ملفات الشرق الأوسط التي كانت تحت سلطتها، بل ولديه طموحات رئاسية لاستحقاق 2027، في حين أن ماكرون لا يريد شخصية قوية تسعى إلى خلافته.
ولعل المنافسة التي ظلت دائرة خلال الساعات الماضية، عززت موقع جوليان دو نورماندي وزير الزراعة في ولاية ماكرون الأولى، لكنه لا يتمتع بشعبية واسعة.
وما لا شك فيه أن ماكرون استبعد من تمنيه النفس بالترشح للرئاسة المقبلة على غرار وزير الداخلية جيرالد دارمانان، خصوصاً بعد مطالبته باستفتاء شعبي على قانون الهجرة وهو ما لم يرق لرئيس الجمهورية. وكان جيرالد يرى نفسه الأحق بوراثة منصب إليزابيث بورن، أثناء التعديل الأول. كذلك بالنسبة إلى الذين عبروا عن انتقادهم لقانون الهجرة الجديد، وهذا ما لم يستسغه ماكرون.
والواقع أن أزمة قانون الهجرة شكلت مختبراً استطاع من خلاله ماكرون جس نبض وزرائه مما أضعف موقف جماعة الحانقين، الذين هددوا بتقديم استقالتهم ثم تراجعوا عن الموقف.
تحديات الانتخابات الأوروبية
صحيفة "لوفيغارو"، اعتبرت أن التعديل الوزاري في فرنسا يأتي قبل الانتخابات الأوروبية المرتقبة في يونيو (حزيران) المقبل مع ما تمثله من احتمالات يمكن أن تفرض تعديلاً ثالثاً.
والتعديل هذا لن يأتي بالحل المرجو كونه لن يغير من قاعدة الأكثرية إذ ستبقى الحكومة تعمل في ظل غالبية نسبية وتواجه الصعوبات ذاتها.
كما أن اختيار شاب لم يتجاوز 34 عاماً ليصبح أصغر رئيس للحكومة عرفته فرنسا، يثير التساؤل حول سلطته على وزراء من الوزن الثقيل فمنهم من لن يقبل أن يكون تحت سلطة رئيس كان بالأمس مستشاراً في وزارته.
ليس هذا فحسب، بل إن رئيس الوزراء الفرنسي الجديد غابرييل أتال لا تربطه علاقة جيدة مع وزير الداخلية جيرالد دارمانان، بخاصة أن هذا الأخير كان يسعى إلى تولي المنصب ذاته.
هذا التعديل الذي أتى بعد الوداع الجمهوري لجاك دولور الذي اعتبر ماكرون أنه وريثه لمواصلة الإرث الأوروبي، وبعد خطاب التمنيات بالعام الجديد الذي ركز فيه على ضرورة إعادة تسليح باريس على كافة الصعد، من بينها إعادة تسليح الحياة المدنية.
وبعد تسميته رسمياً يطرح مراقبون للأوضاع في الإليزيه سؤالاً حول تماشي اختيار أتال رئيساً للوزراء مع ما نفذه من جملة إصلاحات تعليمية أساسية مستنداً إلى تمتعه بمنصب مركزي في وزارة التربية.
نقاط رجحت كفة أتال
الأهمية التي يوليها ماكرون للتربية والتشديد في خطابه الذي وجهه بمناسبة العام الجديد، واستعانته بعبارة إعادة التسليح المدني للتركيز على السلطة وهيبة الدولة، وتشديده على أهمية التعليم، ربما كلها كانت وراء اختيار غابرييل أتال رئيساً للوزراء خصوصاً بعد تقدمه بمشروع وإصلاحات في هذا المجال.
ولطالما شبه المحللون أتال بـ"لوران فابيوس" بالإشارة إلى المنافسة الشرسة التي واجهها من منافس شاب آخر يصعد نجمه لدى أقصى اليمين وهو جوردان بارديلا، الذي تضعه استطلاعات الرأي بين الشخصيات المحببة لدى الفرنسيين ليكون بذلك منافساً له أيضاً في الانتخابات الأوروبية يونيو المقبل.
الواقع أن الاستحقاق الأهم هو الانتخابات الأوروبية إذ لا تزال الأسماء غير واضحة لدى كل الأحزاب من اليسار واليمين لكن أقصى اليمين على مسافة متقدمة والصورة واضحة، كما أشار موقع "لاديباش" إلى أن رئيس التجمع الوطني جوردان بارديلا سيترشح من جديد وسيسعى إلى أن تكون الحملة عبارة عن استفتاء ضد ماكرون.
وبعد عامين على الحملة الرئاسية، سيبذل كل من حزب "النهضة" و"التجمع الوطني"، كل الجهود لاحتلال المرتبة الأولى. ففي عام 2019 حصل بارديلا على 23.34 في المئة من الأصوات ما أمَّن له 23 نائباً في حين حصلت لائحة ناتالي لوازو عن حزب النهضة، وحازت 22.42 في المئة من الأصوات وأمَّنت بدورها أيضاً على 23 نائباً.
بانتظار معرفة مدى التعديل الذي سيطرأ على الحكومة الجديدة، فإن التحديات الماثلة أمام الوزارة الفرنسية المقبلة تتمثل على الصعيد المحلي باستعادة شعبية الحزب الحاكم ووحدته، بخاصة أن تداعيات قانون الهجرة الجديد لم تنتهِ بعد، فهو ما زال تحت مجهر المجلس الدستوري.
يتزامن كل ذلك مع 21 دعوة إلى تظاهرات مناهضة لماكرون وحكومته فيما اختير 25 يناير (كانون الثاني) الجاري موعداً لانتهاء المجلس الدستوري من مناقشة قانون الهجرة، هذا إضافة إلى تحد التحول المناخي والاقتصادي وغلاء المعيشة وخفض البطالة ونجاح الألعاب الأولمبية.
تحديات اقتصادية وجيوسياسية
خريطة طريق ماكرونية تصطدم بمطبات صناعية ناجمة من التحديات الاقتصادية في ظل وضع إقليمي وعالمي تعصف به الحروب، وتأثير الضربات على ممرات النقل البحري في البحر الأحمر التي تسببت بارتفاع أسعار النقل البحري ومن ثم السلع.
وفي ظل وضع اقتصادي وصفه وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير بأنه "صعب"، إذ يتعين على باريس إيجاد 12 مليار يورو (13.3 مليار دولار) من الاحتياط لتمويل الخطة الاقتصادية لمواجهة المرحلة الحالية، وهو رقم صعب مقارنة بحجم الدين العام الذي بلغ ثلاثة تريليونات، وخطر خفض تصنيف فرنسا من قبل وكالات التصنيف العالمية.
"فرانس إنفو" لخصت ولاية رئيس الوزراء المستقيلة إليزابيث بورن بالرقم 602 يوم أي مدة حكمها، لكونها من بين خمسة رؤساء للحكومة أمضوا أقصر مدة في منصب رئاسة الوزراء في ظل الجمهورية الخامسة (بعد برنار كازنوف وأديت كريسون وموريس كوف دو مرفيل وبيار بيريغوفوا).
ومن بين أرقام بورن أنها تبنت 41 نص قانون ومشروع قانون، واستعانت 23 مرة بالمادة 49.3، فيما بلغ عدد المرات التي واجهت فيها حجب الثقة 31 مرة.