Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

العالم يشهد "إبادة جماعية" والقانون الدولي ينظر في "النوايا"

مشاهد القتل في غزة ترسم المصطلح بأذهان ملايين المتابعين واستخدامه أممياً للإشارة إلى المأساة يحتاج إلى إثبات "نية القصد"

خبراء أمميون قالوا إن الأدلة الموجودة تبرهن على تزايد التحريض الإسرائيلي على الإبادة الجماعية للفلسطينيين (أ ف ب)

ملخص

مشاهد قتل ودمار يجري بثها على مدى ساعات اليوم تقوي من مفهوم "الإبادة الجماعية" في أذهان ملايين المتابعين لكنها في الوقت نفسه تقابل بفتور من قبل أصحاب الشأن وأصحاب أصحاب الشأن.

في ديسمبر (كانون الأول) عام 1948 أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة أن الإبادة الجماعية جريمة بمقتضى القانون الدولي، تتعارض مع روح المنظمة الدولية وأهدافها ويدينها العالم المتمدن.

لكن العالم المتمدن يجد نفسه بين الحين والآخر متهماً بارتكاب جريمة إبادة جماعية، أو السكوت عليها، أو اعتبارها حرباً عادية بين طرفين يناصب كلاهما العداء للآخر، مما ينتج منه وقوع ضحايا.

تحذير مبكر

في الأسبوع الثاني من نوفمبر (تشرين ثاني) الماضي، أي بعد مرور شهر واحد على اندلاع حرب القطاع في غزة، حذر خبراء في منظمة الأمم المتحدة من "الانتهاكات الجسيمة التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين في أعقاب السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، لا سيما في غزة والتي تشير إلى أن إبادة جماعية في الطريق.

وقتها، قال الخبراء الأمميون إن الأدلة الموجودة تبرهن على تزايد التحريض الإسرائيلي على الإبادة الجماعية للفلسطينيين وإشهار النية علناً لتدمير الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال، وأشاروا إلى تصاعد دعوات إحداث نكبة ثانية في غزة وبقية الأراضي الفلسطينية، والاستخدام الواضح لأسلحة ضارية ذات قدرة على إحداث آثار عشوائية، مخلفة أعداداً هائلة من القتلى مع تدمير البنى التحتية التي من شأنها إنقاذ حياة السكان.

في ذلك الوقت، كان عداد القتلى في غزة قد زاد قليلاً على 11 ألفاً، إضافة إلى بضعة آلاف آخرين تحت الركام، والجرحى نحو 27 ألفاً وعدد من نزحوا 1.6 مليون شخص.

مضى على هذا التحذير شهران، وبينما تدخل حرب القطاع الضارية شهرها الثالث، وصل عدد القتلى إلى أكثر من 22 ألفاً والجرحى إلى نحو 58 ألفاً، فيما بلغ عدد النازحين نحو 1.9 مليون شخص. في تلك الأثناء، ما زال التلويح باتهام إسرائيل بارتكاب جريمة إبادة جماعية، وما زالت تل أبيب تعتبر الاتهام وعدمه سواء، وما زال أهل غزة وبقية المناطق الفلسطينية في قبضة جريمة ما ترتكب في حقهم، يسميها بعضهم ومن ضمنهم الأمم المتحدة "ترقى إلى إبادة جماعية"، ويقلل من وطأتها آخرون باعتبارها "جرائم ضد الإنسانية"، ويخفف منها تماماً فريق ثالث، إذ يصنفها "أضراراً جانبية" بشرية ومادية للحرب.

الأضرار الجانبية البشرية

"الأضرار الجانبية" لحرب القطاع شهدت مقتل أسر ممتدة بأكملها. لم يعد هناك من يحمل لقب العائلة. كما تضمنت "الأضرار الجانبية" قضاء نحو 9 آلاف طفل حتى الأسبوع الأول من عام 2024. وهذه "الأضرار" مستمرة ومتصاعدة، واستمرار "الأضرار" وتفاقمها أسهما في ذيوع تداول عبارة "الإبادة الجماعية"، فملايين الألسنة تنطق بها وهي تصف ما يجري في القطاع وتجد طريقها إلى نشرات الأخبار والبرامج التحليلية في مشارق الأرض ومغاربها، وحتى في نقاشات الأفراد العاديين حول ما يجري لأهل القطاع.

أهل القطاع يتعرضون لإبادة جماعية، هذا ما يجول في خواطر الملايين وهذا ما تحذر منه المنظمة الأممية منذ الأسابيع الأولى لاندلاع الحرب.

والشعب الواقع تحت الاحتلال مدعو إلى نكبة ثانية أشد وطأة من الأولى، وتستخدم أسلحة قتل عشوائي تخلف أعداداً هائلة من القتلى، وتسفر عن تدمير رهيب للبنى التحتية، هذا ما يقال في الإعلام ويردده المعلقون والمحللون في كتاباتهم وتعليقاتهم وإشاراتهم اليومية عن الحرب، وهذا ما تقوله البيانات "الرسمية" الصادرة من غزة عما يجري في القطاع وهذا ما يصف به أهل غزة ما يتعرضون له.

في عالم موازٍ

وفي عالم موازٍ، تعير دول كبرى حديث الإبادة أذناً من طين وأخرى من عجين، وتجامل دول أخرى الإنسانية عبر البحث في حجم الأضرار الجانبية المتوقعة من حرب القطاع، وربما التحذير من تفاقم هذه الأضرار، مع مناشدة رقيقة لإسرائيل وجيشها مراعاة قواعد وقيود عدم الإفراط في إحداث وفيات وإصابات "غير مقصودة" أو "لا داعي لها" في صفوف أشخاص ليسوا جنوداً، وإلحاق أضرار يمكن تجنبها أو تقليصها بمنازلهم ومستشفياتهم ومدارسهم.

تدمير البنى التحتية في القطاع يدور على قدم وساق، وعلى رغم أن نسبة الدمار تظل غير مؤكدة، إذ تصعب عمليات الحصر والقياس، إلا أنه يعتقد بأن ما لا يقل عن خُمس بنى غزة التحتية كانت تدمرت في منتصف الشهر الماضي، وعلى سبيل المثال دمرت إسرائيل 26 مستشفى فأخرجتها من الخدمة تماماً من مجموع 36 مستشفى.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مستشفيات ومدارس وشبكات مياه وصرف صحي وكهرباء وغيرها من البنى التحتية المتضررة بشدة، أو التي خرجت من الخدمة كلية، إضافة إلى عداد القتلى والمصابين المتصاعد بلا هوادة، ومعها مشاهد القتل والدمار التي يجري بثها على مدى ساعات اليوم تقوي من شأن مفهوم "الإبادة الجماعية" في أذهان ملايين المتابعين، لكنها في الوقت نفسه تقابل بفتور أو ليّ حقائق من قبل أصحاب الشأن، وأصحاب أصحاب الشأن، أي الدول والجهات الداعمة لإسرائيل والمدافعة أو التي تغض البصر عن "الأضرار الجانبية" لحربها في القطاع.

وعلى رغم الصمت أو التجاهل أو التغاضي الدولي عما تفعله إسرائيل في غزة، وعلى رغم الأصوات العربية التي بُحّت في المطالبة بوقف آلة القتل المستعرة، وعلى رغم المؤتمرات الأممية والدولية والإقليمية التي حاولت استصدار قرار بتخفيف حدة القتل وليس بالضرورة إيقافه، إلا أن جنوب أفريقيا فاجأت الجميع قبل نهاية عام 2023 بأيام بدعوى قضائية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية. التهمة هي "الزعم" بارتكاب إسرائيل انتهاكات لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية في ضوء ما يحدث في غزة.

وبحسب ما جاء في الدعوى، فإن "أفعال إسرائيل ذات طابع إبادة جماعية لأنها ترتكب بالقصد المحدد المطلوب لتدمير الفلسطينيين في غزة كجزء من القومية الفلسطينية الأوسع والمجموعة العرقية والإثنية"، وأن "سلوك إسرائيل من خلال أجهزة الدولة ووكلاء الدولة وغيرهم من الأشخاص والكيانات التي تعمل بناءً على تعليماتها أو تحت توجيهها أو سيطرتها أو نفوذها يشكل انتهاكاً لالتزاماتها تجاه الفلسطينيين في غزة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية".

تورطت وتتورط وتخاطر بالتورط

وجاء في الدعوى أن إسرائيل منذ السابع من أكتوبر الماضي تحديداً "فشلت في منع الإبادة الجماعية وفشلت في مقاضاة التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية"، كما أنها (إسرائيل) "تورطت وتتورط وتخاطر بالتورط في مزيد من أعمال الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة".

محكمة العدل الدولية من جهتها أعلنت أنها ستعقد جلستي استماع علنيتين بعد غد الخميس والجمعة في مقر المحكمة في لاهاي بخصوص الدعوى.

ومن المقرر تخصيص الجلستين للاستماع إلى الطلب المقدم من جنوب أفريقيا والذي يطلب من المحكمة الإشارة إلى تدابير موقتة تضمن "الحماية من أي ضرر إضافي جسيم وغير قابل للإصلاح لحقوق الشعب الفلسطيني بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية" و"ضمان امتثال إسرائيل لالتزاماتها بموجب الاتفاقية بعدم الدخول في الإبادة الجماعية ومنعها والمعاقبة عليها".

حكم الرأي العام

وبعيداً مما ستدلي به جنوب أفريقيا يوم الجمعة المقبل وما سترد به إسرائيل في اليوم التالي، وما ستقرره محكمة العدل الدولية، وتقدير بعضهم بصعوبة موقف إسرائيل، ورؤية البعض الآخر بأن تل أبيب ستنجو بنفسها من أية إدانة فعلية، تبقى "الإبادة الجماعية" أحد المفاهيم التي خرجت من ضيق معاجم الحروب ومراجع القتل وأروقة المحاكم الدولية إلى براح تصنيف الشعوب وحكم الرأي العام.

الرأي العام عادة يصف المشاهد التي يطالعها في الحروب والصراعات حيث قتل الآلاف وتهجير الملايين وتعريض الباقين لأخطار الاعتداءات الجسدية أو الاستعباد وإلحاق الأضرار البالغة بالبنى التحتية والممتلكات بـ"الإبادة الجماعية" أو genocide والـ"جينوسايد" كمصطلح لم يظهر تاريخياً ولغوياً إلا في منتصف القرن الماضي. وفي هذا الظهور ثلاث مفارقات، الأولى أن نشأته كمصطلح قانوني يعود للمحامي اليهودي البولندي رافائيل ليميكين في أربعينيات القرن الماضي الذي شعر بأن قوانين الحرب السائدة حينئذ لم تكن كافية لتوصيف أو التعامل مع الأشكال الجديدة من العنف السياسي والعسكري في العالم الحديث.

 

ليميكين كان فر من الـ"هولوكوست" الذي قضى على عدد من أفراد عائلته، بحسب مراجع تاريخية عدة، واستقر في الولايات المتحدة الأميركية، وهناك "ألهمه" خطاب لرئيس الوزراء البريطاني الراحل وينستون تشرتشل عن فظائع الحرب العالمية الثانية. وعلى رغم معرفته بمفهوم القتل الجماعي بحكم خبرته مع الـ"هولوكوست"، إلا أنه شعر بأن الناس تفتقد كلاً من اللغة والقوانين اللتين من الممكن أن تقيا الجميع شرور فظائع مستقبلية.

ابتكر ليميكين كلمة "جينوسايد" عبر الجمع بين الكلمة اليونانية القديمة "جينوس" أي القتل والكلمة اللاتينية "سايد" أي العرق أو القبيلة.

وبعد مرور ما يقارب ثلاثة أعوام على إغلاق ما عرف بـ"معسكرات الموت" أو "معسكرات الإبادة" في الحرب العالمية الثانية، استخدمت منظمة الأمم المتحدة الكلمة الوليدة في "اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها".

ثلاث مفارقات

المفارقة الأولى إذاً هي أن مبتكر التوصيف يهودي هارب من نيران الـ"هولوكوست" أو "المحرقة اليهودية" ومتضرر من فقدان أفراد أسرته جراء ما عرف بـ"قتل ملايين اليهود على أساس عرقي".

المفارقة الثانية هي أنه تم إعلان قيام دولة إسرائيل في الـ14 من مايو (أيار) عام 1948، كما أقرت الأمم المتحدة "اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها" في ديسمبر من العام نفسه، أي إنهما احتفلتا بعيدهما الـ75 العام الماضي.

المفارقة الثالثة هي أن إسرائيل وجنوب أفريقيا وقعتا على الاتفاقية التي تمنح محكمة العدل الدولية صلاحية الفصل في النزاعات حول المعاهدة، ويشار إلى أن كل الدول الموقعة على هذه الاتفاقية ملزمة ليس فقط عدم ارتكاب الإبادة الجماعية، لكن منعها والخضوع للعقاب حال اقترفتها.

تصنيف منفرد

التاريخ الحديث، في الأقل العقود التالية لـ"اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها"، حافل بما تم تصنيفه إعلامياً أو شعبياً أو من قبل دول منفردة على أنه "إبادة جماعية".

إعلامياً وشعبياً، يصنف بعضهم أحداث دارفور المتكررة التي بدأت عام 2003 باعتبارها إبادة جماعية، وكذلك ما يعرف بـ"مذبحة سربرنيتسا" التي جرت ضمن حرب البوسنة والهرسك عام 1995. وفي كمبوديا، يتم إطلاق توصيف "الإبادة" أو "المجزرة" على ما ارتكبه أعضاء "الخمير الحمر" بين عامي 1975-1979 ومقتل نحو مليوني شخص، ويعتقد بأن 60 في المئة منهم إعداماً، والباقون ماتوا من الجوع والمرض. وما ارتكبه تنظيم "داعش" في حق الإيزيديين العراقيين في قضاء سنجار بمحافظة نينوي في أغسطس (آب) 2014 يصفه كثيرون حول العالم بـ"الإبادة الجماعية". وهناك ما اقترفه الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في حق الأكراد، وما يجري في ميانمار بحق مسلمي الروهينغا، وقبلها ما فعلته القوات السريلانكية في حق التاميل.

ويحفل تاريخ ما قبل "اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها" عام 1948 بجرائم وأحداث يصنفها التاريخ الشعبي "إبادات جماعية"، ومنها على سبيل المثال لا الحصر مذابح الأرمن على يد العثمانيين بين عامي 1915 و1916، ومجزرة نانكين شرق الصين عام 1937 التي ارتكب خلالها الجيش الإمبراطوري الياباني أعمالاً وحشية أسفرت عن مقتل نحو 300 ألف شخص، وغيرها.

قائمة التصنيف الشعبي

قائمة التصنيف الإعلامي والشعبي طويلة، فهذه القوائم يغلب عليها إما التسييس، أو التعاطف الإنساني، وأحياناً كلاهما. فما تعتبره دولة إبادة جماعية لشعبها، لا تراه دولة أخرى إلا دفاعاً مشروعاً عن نفسها أو مصالحها، وهذا يعني بالضرورة وقوع خسائر جانبية لا مفر منها. وإنسانياً، يتعاطف البشر مع المقتولين والجرحة والمشردين والنازحين قسراً، وكلما زادت أعداد المتضررين زاد التعاطف الإنساني، مما يدفع كثيرين إلى إطلاق مسمى "الإبادة الجماعية" على سبيل التعاطف.

وبعيداً من التسييس والتعاطف، فعلى رغم كثرة "الإبادات الجماعية"، إلا أن ثلاثاً فقط تم الاعتراف بها قانوناً وأدت إلى محاكمات بموجب الاتفاقية، وهي رواندا والبوسنة وكمبوديا.

وعلى رغم أن كثيراً من المطبوعات والتقارير الصادرة عن المنظمات المختلفة التابعة للأمم المتحدة تستخدم عبارة "إبادة جماعية" في وصف أحداث عنف بمناطق عدة في العالم، إلا أن "مكتب الأمم المتحدة المعني بمنع الإبادة الجماعية والمسؤولية عن الحماية" أصدر دليلاً إرشادياً عنوانه "متى تتم الإشارة إلى حالة ما على أنها إبادة جماعية؟".

بلا ضابط قانوني أو رابط أممي

ويبدو أن المكتب أيقن أن عبارة "الإبادة الجماعية" يجري استخدامها من دون ضابط قانوني أو رابط أممي، فناشد مسؤولي الأمم المتحدة الذين يطلب منهم تحديد إذا ما كانت حوادث أو أحداثاً بعينها "إبادة جماعية" أو لا، التزام الاستخدام الصحيح للمصطلح. هناك إدراك لدى المتخصصين بالدور الذي تضطلع به المشاعر المرتبطة باستخدام مصطلح "الإبادة الجماعية". يجد بعضهم نفسه يستخدمه في الإشارة إلى جرائم ضد أشخاص معينين على نطاق واسع. كما أن المصطلح محمل بالحساسية السياسية، لكن تظل هناك حاجة لضبط المصطلحات، لا سيما تلك المرتبطة بآثار قانونية محتملة.

 

الدليل يقدم إرشادات حول الاستخدام الصحيح لمصطلح الإبادة الجماعية، على المستوى القانوني وليس التاريخي أو غيره من الاعتبارات الواقعية، ويشير إلى أن تعريف الإبادة الجماعية أمر دقيق للغاية ويتضمن عنصراً غالباً يكون من الصعب تحقيقه، ألا وهو التيقن من توافر "القصد".

يضحك كثيرون، كمداً أو ألماً أو غضبا، حين تذكر "نية" القصد في القتل الجماعي خلال حروب وصراعات دموية بغرض القضاء على كل أو جزء من التركيبة السكانية، باعتبارها شرطاً رئيساً للإشارة إلى المأساة الإنسانية باعتبارها "إبادة جماعية".

وتضاف إلى قيود التعريف القانوني، منظومة أخرى تبدو صادمة للمعاني والقيم الإنسانية، لكنها حقيقة واقعة، ألا وهي سيكولوجية الحرب، أي حرب.

لقد عذبت الآخرين

"لقد عذبت الآخرين. في الليل، كنا نخرج ونداهم القرى. كنا نقتل من نراه. وإذا صادفنا في الطريق امرأة، اغتصبناها. القتال هو كل ما في حياة الرجل وقت الحرب. كلما كنت أسمع دوي إطلاق نار، تتملكني رغبة ليس هناك ما هو أقوى منها في أن أقاتل. هذه الرغبة أصبحت كامنة في أعماقي".

بهذه الكلمات التي جاءت على لسان مقاتل في جمهورية الكونغو الديمقراطية ضمن دراسة بحثية عنوانها "شهية للعدوان" ونشرت في "دورية ساينتيفيك أميركان مايند" قبل توقف صدورها (2013)، ألقى المحارب ضوءاً على جانب من سيكولوجية الحروب والصراعات. وتشير الدراسة إلى أن الخوف هو شكل من أشكال التوتر، وأن شعور الشخص بالخوف يؤدي إما إلى الركض بغرض الاختباء، أو المواجهة والقتال.

دفاع عن النفس والأهل والوطن

وفي الحروب، غالباً يخرج المحارب أو الجندي وهو مشبع بفكرة أنه يحارب دفاعاً عن نفسه وأهله وطنه، وهو ما يصفه اختصاصيو علم النفس بالعدوان المألوف، لكن هناك شكلاً آخر من العدوان الشرير أو الشهواني، وسببه الإثارة الناجمة عن غريزة الصيد.

وتعرض الدراسة ضمن سيكولوجية الحرب لـ"هذا العدوان الشهواني المخيف الذي يعد ظاهرة شائعة. وكلما يدرك الشباب المنتظم في الحرب أن العنف يمنحهم شعوراً بالتفوق والمتعة، زاد سعيهم إلى تحفيز هذا الشعور الذي يتحقق بالصيد والقتل. وكلما زاد دخولهم في أعمال عدوانية، زادت الرغبة في نيل هذا الحافز، وهلم جرا".

وتلفت الدراسة إلى أن الإنسان لا يصيد فقط الحيوانات، لكنه يصيد أقرانه في البشرية حين ينشأ قتال أو صراع.

اعتياد القسوة

المثير أن الاستطلاعات التي أجراها الباحثون في الدراسة بين أعداد من المقاتلين الضالعين في مجازر رواندا قال نحو الثلث إنه ما إن بدأ القتال، حتى دخلوا في العنف من دون تفكير في ما يحدث، وقالت نسبة أكبر قليلاً إنه ما إن يعتاد الشخص فكرة القسوة، ينتابه شعور عارم بالرغبة في أن يكون أكثر قسوة.

منذ اندلعت حرب القطاع، وقبلها كلما اندلع صراع دموي أو حرب دامية، هرع كثيرون للبحث عن سبل تساعد المتابعين لتفاصيل القتال للحفاظ على صحتهم النفسية وصوابهم العقلي أمام الدماء المسالة والمآسي الرهيبة والدمار المفزع، لكن ماذا عن مرتكبي هذا السفك والخراب، سواء ارتقوا إلى مكانة من يقترفون إبادة أو يكتفون بالقتل والتخريب في أضيق الحدود؟

السلوك الإجرامي في الحروب

يشير دليل "جذور السلوك في الحرب" الصادر عن "اللجنة الدولية للصليب الأحمر" إلى أن أبرز سبب يفسر حدوث انتهاكات في الحروب هو أن الحرب بطبيعتها تساعد على السلوك الإجرامي. الحرب بطبيعتها تنطوي على تجاوزات وأخطاء تتجاوز مسألة "الضرورة العسكرية"، لا سيما أنه لا يوجد شيء اسمه "نظيف" في الحرب، بما في ذلك الحروب التي يتم شنها وفقاً للقانون الدولي. الحروب تطلق العنان للعنف.

ووفقاً للنظريات الكلاسيكية، فإن الهدف الرئيس للحرب يكون هزيمة قوات العدو. أما الصراعات الحديثة، فيدور معظمها حول قضايا الهوية. وكثيراً ما تنظر مجموعة مدنية إلى مجموعة مدنية أخرى باعتبارها عدواً لها. وفي هذا الصدد، كثيراً ما يكون صناع القرار في الحروب على ثقة تامة بأن الأعمال غير القانونية ستمنع وقوع خسائر أكبر وأخطر.

وفي الغالبية المطلقة من الحروب والصراعات، يخرج المقاتل وهو على يقين بأن قضيته عادلة وأن العدو خسيس وأن الله حاضر إلى جانبه، وليس إلى جانب العدو، فتتجذر قناعة بأن الأمة تناضل من أجل بقائها، وهذا هدف يسقط بالضرورة أي التفات إلى قانون دولي أو اتفاق إنساني وكذلك يخرج المحارب بقناعة أنه بات ضالعاً في صراع الخير ضد الشر، والدفاع عن مبادئ عليا مثل تدمير الفاشية أو النازية من أجل الحفاظ على الحضارة. وبالطبع تجري جهود حثيثة لشيطنة العدو بكل السبل، ومنها ما يتبع الجد ومنها ما يميل إلى السخرية والهزل.

القتل بالمثل

مبدأ "المعاملة بالمثل"، وهنا يكون "القتل بالمثل" أو "محاولة الإبادة بالمثل" حاضر في كثير من الحروب، وهو مبدأ يبرر الانتهاكات، وعادة يبدأ استخدامه من قبل من هم في السلطة، ويكون نقطة الانطلاق صوب تبرير أبشع الانتهاكات، وربما الإفلات من العقاب أيضاً.

عمليات القتل، لا سيما بأعداد كبيرة يرقى بعضها إلى "الإبادة الجماعية"، لا يتم تنفيذها من قبل مقاتلين سلبيين مطيعين للأوامر التي تصدر لهم، بل على أيدي مقاتلين متحمسين مؤمنين بالغاية "السامية" التي يقتلون من أجلها.

ما يجري في حرب القطاع لم يجرِ تصنيفه قانوناً بعد، فغالبية المصطلحات المستخدمة غارقة في التسييس أو يغلب عليها الغضب الإنساني جراء فداحة ما يحدث. وفي هذا الصدد يُشار إلى أنه حتى الأصوات المصنفة "وسطية" في إسرائيل لا ترى ما يجري في القطاع "إبادة جماعية" أو تطهيراً عرقياً أو حتى قتلاً جماعياً.

وسطية "الإبادة"

بين هذه الأصوات، الكاتب في صحيقة "هآرتس" الإسرائيلية أنشل بفايفر الذي ينفي وصف ما ترتكبه إسرائيل في غزة بالإبادة الجماعية. يقول في مقالة عنوانها "إسرائيل لا ترتكب إبادة جماعية، لكن لديها مدانين بالإبادة"، إن "من يقول ذلك إما يجهل تعريف الإبادة الجماعية، أو حقيقة الوضع على أرض غزة حالياً. وربما يكون الشخص غير جاهل، لكنه إما يكذب أو تعميه كراهيته لإسرائيل".

ويشير بفايفر إلى أن "ما تقوم به إسرائيل يهدف إلى تدمير حماس، الحركة، وليس الشعب الفلسطيني في غزة. ولذلك، فإنه على رغم ثقل وطأة عمليات جيش الدفاع الإسرائيلي وما يقوم به من تدمير، إلا أنه لا يقترف إبادة جماعية".

وينتقد الكاتب الإسرائيلي التصريحات التي يدلي بها ساسة إسرائيليون ومعلقون ويطالبون فيها الحكومة والجيش الإسرائيليين بالقيام بما يمكن أن يصل إلى درجة الإبادة الجماعية، ويلفت إلى أن "الإبادة الجماعية لا تتعلق بالأعداد التي يتم قتلها من قبل طرف ما، بقدر ما تتعلق بنية توافر الظروف المناسبة التي تمكن أحد الطرفين من تدمير الطرف الآخر".

من جهة أخرى، يشار إلى أن الخطوط الفاصلة بين الإبادة الجماعية والتطهير العرقي غالباً ما تكون متداخلة، فالمقصود بالتطهير العرقي غالباً يكون استخدام العنف والسلاح من قبل طرف يتمتع بالقوة ضد آخر أضعف، وغالباً يكون التطرف والتعصب السببين الرئيسين في إجراء هذا التطهير الذي يهدف إلى طمس هوية الفئة الضعيفة، أو إجبارها على الانزواء في مجال جغرافي معين.

المزيد من تحقيقات ومطولات