يبدو "بشير الكحلي"، للوهلة الأولى، شخصية دونكيشوتية، ومع تتابع صفحات سيرته، يتبين أن نفسه تنطوي على أحقاد كفيلة بوأد أي احتمال للتعاطف معه، ولو على سبيل تبرير شروره، بإرجاعها إلى ظروف أسرية شوّهت طفولته، وجعلته يضع أمه على رأس من يكن لهم كراهية لا مسوغ لها سوى أنه مفطور عليها، ولا سبيل لتجاوزها إلا بانقطاع صلته بالحياة. تلك السيرة هي متن رواية "الأستاذ بشير الكحلي" (الدار المصرية اللبنانية) للكاتب مينا عادل جيد. تتناص هذه الرواية، مع عمل أدبي ذي تأثير ممتد على مدى أكثر من أربعة قرون حتى الآن، هو "دون كيشوت" للكاتب الإسباني ميغيل دي ثربانتس. جاءت الرواية في جزئين؛ يحمل الأول اسم الشخصية الرئيسة "بشير الكحلي" الذي تتلبسه أوهام القدرة على تغيير العالم، بالرغم من افتقاره إلى أي مقومات تجعل من يعرفه يأخذ عنجهيته على محمل الجد. والثاني يحمل اسم تلميذه "يوسف الورداني" الذي يخضع لغسيل دماغ على مدى سنوات عدة على يد معلمه هذا، فيصبح في نهايتها مؤهلا للقتل بخسة ودناءة، بدعوى تطهير العالم ممن لا يستحقون العيش فيه.
"بشير الكحلي" كان يرغب في الالتحاق بالكلية الحربية ليصبح ضابطاً مثل أبيه، لكنه يرسب في اختبارات القبول، بداعي ضعف البصر. وبعد سنوات طويلة على هذه الواقعة يعرف أن والده هو الذي طلب من لجنة الاختبار أن ترفض إجازته، لأنه لا يرغب في أن يقترن باسمه في وسط واعد، بحيازة قدر كبير من السلطة والوجاهة، بما أنه ثمرة علاقة غير شرعية ربطته بخادمة كانت تعمل في بيت أسرته الثرية. ومع ذلك يظل على انبهاره بهيبة أبيه وتزيد كراهيته لأمه. بعد فشله في الالتحاق بالكلية الحربية يلتحق "بشير الكحلي"، بالمعهد العالي للتربية الرياضية للمعلمين، ليمارس رغبته الملحة في أن يقود جماعة ما يتحتم عليها احترامه، ووجد غايته في العمل مدرس ألعاب في مدرسة في وسط القاهرة عام 1963.
استعلاء ونفور
وبحسب الراوي العليم فإن "بشير الكحلي" كان يمارس عمله المدرسي هذا؛ لا بأداء المعلم، بل بروح الضابط ليعوض نفسه عن ضياع حلمه الكبير، وهو أن يصير رجلاً عسكرياً مثل أبيه الذي تنقّل بين المناصب القيادية المهمة والمؤثرة طوال الخمسينيات والستينيات. يقول لنفسه إن معلم التربية الرياضية، "بقليل من الضمير والوطنية والانضباط"، من الممكن أن يكون أفضل للمصلحة العامة... "وإن كان على الوطن فهو ينتظرنا في كل مكان، ولا فارق معتبر سوى الراتب، والحمد لله ترك لي أبي ولأخي ما يكفي ويزيد". لن تتطرق الرواية إلى حياة ذلك الأخ، وبالتالي لن نعرف سوى أنه "ابن شرعي"، ومن ثم كان يحظى باحترام كبير من لدن والده، في الوقت الذي لم يكن يلقى "بشير" من الأب وهذا الأخ، على السواء، سوى الاستعلاء والنفور. ولكن في ما يتعلق بالأمور المادية تساوى الأخوان، عند تقسيم ميراث الأب. كان "بشير الكحلي" يقاطع أهل أمه، استعلاء عليهم، متأسياً بوالده المتعجرف، لكنه مع ذلك بادر بتعزية أرملة ابن خال له، يدعى حافظ الورداني، مات في حادث سير. يؤرخ الراوي العليم ذلك التطور بيوم من ربيع العام 1989، ذاكراً أن المتوفى الذي كان يعمل سائقاً، ترك طفلاً رضيعاً، حارَت أرملته الشابة وتدعى "أميرة" (مع أنها تعيش في فقر مدقع) في أمر تدبير الإنفاق على نفسها وعليه. تصرّف بشير بانتهازية، وعرض على الأرملة التي تعيش في شقة متواضعة في حي مدينة السلام، على أطراف المدينة، أن يتكفَّل بها وبابنها، مضمراً الطمع في أنوثتها الطاغية. فتقبَلت على مضض أن تكون عشيقة له، مقابل المال الذي تعهَّد بأن يعطيها منه ما تحتاجه هي ورضيعها "يوسف"، إلا أنه كان في واقع الأمر يعاملها على أنها مجرد متاع، على غرار ما كان يفعله أبوه مع أمه.
بديل "سانشو"
وفي غضون ذلك تكرر فشله من مشروع إلى آخر، من مشاريعه العبثية، والتي هي أشبه بمحاربة طواحين الهواء. وأخيراً هداه تفكيره لأن يتخذ له تابعاً، فوقع اختياره على "محسن حنين". كان "بشير" (مع أنه نذير شؤم في الواقع) يرى في نفسه مثقفاً موسوعياً، بحكم أنه يقتني مئات الكتب، التي لن يخبرنا الراوي العليم بعنوان أي منها، لكنه مع تأنقه المبالغ فيه و"نسبه المشرف" من ناحية أبيه، كان محل سخرية زملائه المعلمين. لم يجد من يبجله في مكان عمله باستثناء "محسن حنين"، فرَّاش المدرسة الذي يعاني من شلل الأطفال في قدمه اليسرى، ومن شعور بالاضطهاد لعاهته تلك ولأميته، ولوضاعة وظيفته ولكونه مسيحياً في وسط غالبيته من المسلمين. كان في مثل عمره تقريباً. هذا كله جعله ينخدع بتظاهر "بشير الكحلي" بالتسامح الديني وبأنه، وهو "سليل الأكابر"، على استعداد لأن يتخذه صديقاً، في الظاهر الذي لن يكون إلا في الخفاء، بينما المعلن هو ليس أكثر من خادم (مثلما اتخذ دون كيشوت من سانشو خادماً وتابعاً في مغامراته العبثية). اشترط عليه "الكحلي" أن تظل "صداقتهما" سرية، وكان يقول لزملاء العمل إن "محسن" يزوره في البيت ليرعى شؤونه، بمقابل مادي، لأنه عازب. ثم تفتَّق ذهنه عن فكرة عبثية جديدة وهي أن يغير بنفسه أسماء الشوارع؛ "بما يليق بالوطن العريق المحترم". ولما وجد أن لا سبيل إلى ذلك، قرَّر أن يتقدم إلى مجلس الشعب (البرلمان) بمشروع لتغيير أسماء جميع المواطنين، وفي باله أن النواب سيتقبلون مشروعه هذا بدون مناقشة وسيقرونه فوراً.
صدمة مروعة
لكن ما إن يدخل من باب البرلمان ويخبر حارسه بمشروعه، حتى يلقي القبض عليه، وتضعه الشرطة في السجن، وتخضعه للتحقيق، ولا يخرج منه إلا بتوسط ضابط كبير كان زميلاً لوالده، على اعتبار أنه ليس سوى شخص مختل عقلياً. كانت الصدمة مروعة، فالشرطة فتّشت منزله وعبثت في مكتبته الضخمة، فصوَّر الأمر على أنه مستهدف لعبقريته التي لا يريدون لها أن تظهر للعلن. فيلجأ إلى نزع أغلفة كل ما لديه من كتب ومحو أي أثرٍ يدل على مؤلفيها وعناوينها، متصوراً أن ذلك سينجيه من ملاحقة أمنية متوهمة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهنا ينتهي الجزء الأول من الرواية ليبدأ الجزء الثاني الذي يحمل اسم "يوسف الورداني"، الطفل الذي أنهى للتو دراسته الإعدادية ويستعد للالتحاق بالمرحلة الثانوية، بعدما تشبّع بكثير من أفكار "بشير الكحلي" الذي كان يرى فيه "رجل البر والإحسان" والذي يتولاه هو وأمه بالرعاية، ويقيهما ذلَّ السؤال ليتمكنا من العيش الكريم في حدوده التي رسمها هذا الدونكيشوتي بخبث مستغلٍ لا يعرف الرحمة ولا يراعي حرمة البيت الذي صار أهله مثار غمز ولمز من جانب الجيران. وهنا يستغل صبي من الجيران خنوع يوسف الذي كان رغم تفوقه في الرياضة البدنية يتسم بالجبن الشديد في مواجهة محيطه الاجتماعي، وكأنه صورة مصغرة من مثله الأعلى "بشير الكحلي"، فيخبره بتبجح بأنه يرغب في أمه بما أنه يعرف هو وغيره من الجيران أن "بشير الكحلي" يتردد عليها ليضاجعها في ساعات غياب ابنها عن البيت.
قاتل متسلسل
لم يجد يوسف في نفسه أي استعداد لمواجهة "وائل"، زميله في الدراسة وجاره في المسكن، وعندما يخبر "الكحلي" بالأمر، فإنه يحرضه على التخلص من "هذا الخائن"، فالخونة لا يستحقون إلا الموت. وهكذا يدبر لقتل زميله، على أن يبدو الأمر وكأنه حادث، فيستدرجه ليصعدا فوق مقطورة سيارة نقل ضخمة ثم يدفعه للسقوط فيما السيارة تنهب الطريق بسرعة فائقة. وعندما يعلم "الكحلي" بما حدث، تنتابه مشاعر متناقضة؛ ما بين أنه أخيراً وجد تابعاً؛ لا إعاقة في جسده، مستعداً للقتل بدون أن يترك وراءه دليل إدانة، وبين الخوف الشديد من أن يخرج هذا الوحش الصغير عن سيطرته يوماً ما ويستخدمه أعداؤه الوهميون في التخلص منه، ووضع حد بالتالي لأفكاره التي يستشعرون بخطورة أن تجد طريقها للتطبيق. وهو أمر يتعارض حتماً، وفق تصوره، مع مصالحهم التي ليست بالضرورة مما يساهم في نهضة الوطن!
ثم، تقود المصادفة، "يوسف الورداني"، ليتيقن من أن "وائل"، كان على حق عندما أخبره بأن "الكحلي" يرتبط مع أمه في علاقة محرَّمة. كان "الكحلي" قد اكتشف أن حجرة مكتبته يسكنها ثعبان ضخم، فاستعان بـ "محسن حنين"، ليتخلص منه، وأوهمه هذا بأنه أتمَّ تلك المهمة على أفضل وجه. كانت تلك الغرفة موصدة دائماً ويحرص "الكحلي" على ألا يدخلها أحدٌ غيره، ولم يسمح لـ محسن" بدخولها إلا ليقتل الثعبان. ولكن عندما يزوره "يوسف" بعد أن قتل "وائل"، يفتحها "الكحلي" ليجلب له منها كتاباً وهو راغب في أن يحكم السيطرة عليه، بتودد فاضح، لدرجة أن يجلسه على مقعده، ويخبره بأن هذه الشقة ستكون له ولأمه بعد موته، يلدغه الثعبان، في ساقه، فيخرج إلى الصالة وهو يصرخ طالباً من "يوسف" أن يسعفه. يربط يوسف الساق بقطعة قماش ليمنع سريان السم في باقي البدن، ويجد في نفسه رغبة ملحة لأن يدخل الغرفة المحرمة تلك، ليجد فيها صندوقاً يحوي مقتنيات لأبيه المتوفى وبينها أغراض تفضح العلاقة الآثمة التي ربطت الكحلي بأرملة ابن خاله. يخرج يوسف إلى الصالة ويفك الرباط عن الساق ويترك "الكحلي" يتخبط في سكرات الموت، وفي نيته أن يسير على نهج التخلص من "كل خائن" بدون أن يترك وراءه دليلاً يدينه!