يكشف الكاتب الأميركيّ فيليب روث (1933- 2018) لقارئ رواية "الحيوان المحتضر" ظاهرة التمسّك البشريّ بالغريزة والرغبة في محاولة عاجزة وعبثيّة للهرب من التقدّم في السنّ ومن الموت. يكشف هذا الكاتب الأميركيّ الرائد الذي يُعد من كبار الأدب الأميركيّ إلى جانب وليام فوكنر (1897- 1962) وجون ستاينبيك (1902- 1968) وجون أبدايك (1932- 2009) وبول أوستر، حقائق النفس البشريّة التي تضعف أمام الجمال والجسد، لكنّها في الوقت نفسه تخشى الموت والمرض والفناء. يكشف فيليب روث في نصّه هذا أعماق الغريزة البشريّة والعلاقة بالجسد والجنس، والأوهام التي يخلقها الإنسان لنفسه كي يتناسى الموت ومرور الزمن.
ومن الجدير ذكره أنّ ترجمة رواية فيليب روث "الحيوان المحتضر" إلى العربيّة (Philip Roth, The Dying Animal, 2001) صدرت أوّلاً قبل سنوات عن الهيئة المصريّة العامّة للكتاب ضمن سلسلة الجوائز (ترجمة مصطفى محمود)، وها هي تصدر اليوم بترجمة جديدة عن دار المدى أنجزها أسامة منزلجي الذي نقل إلى العربيّة أعمالاً أخرى للكاتب نفسه مثل "وداعاً كولومبوس" (دار المدى، 2020) وهي من أشهر أعمال فيليب روث وشكّلت حجر الأساس في أعماله.
يُضاف إلى ذلك أنّه تمّ تحويل هذه الرواية "الحيوان المحتضر" إلى فيلم سينمائيّ سنة 2008 بعنوان Elegy، أيّ "المرثاة"، إخراج إيزابيل كوكست وبطولة بينيلوبي كروز وبين كينغزلي. نال هذا الفيلم شهرة واسعة وقد احترم الإطار الزمانيّ والمكانيّ للرواية، كما احترم قصص الشخصيّات وكثافتها النفسيّة، لكنّه أدخل في النهاية بعض التغييرات الواضحة.
تمجيد الجسد والغرائز
تدور أحداث هذه الرواية حول ناقد وأستاذ جامعيّ ستّينيّ مثقّف ومشهور بعض الشهرة. يختار هذا الأكاديميّ في نهاية كلّ فصل جامعيّ، طالبة واحدة من طالباته لتكون عشيقته. يختار الأستاذ المتحدّث بصيغة المتكلّم فتاته أو بالأحرى فريسته، ولا يقترب منها إلاّ بعد انتهاء الفصل ومنح العلامات، ليسلم بذلك من أيّ ملاحقة قانونيّة. ويظهر تمجيد الراوي البطل للجسد الأنثويّ في هذه الرواية منذ الصفحات الأولى. فالأستاذ الجامعيّ يختار عشيقته بحسب شكلها الخارجيّ، هو الذي يقول عن نفسه: "الآن، أنا ضعيف أمام الجمال الأنثويّ، كما تعلم. وكلّ إنسان لديه نقطة ضعف أمام شيء ما، وهذه هي نقطة ضعفي." (ص: 9).
لكنّ الراوي لا يمجّد الجسد والمرأة وحدهما، بل يمجّد عمر الشباب كذلك، بل بالأحرى يشعر به القارئ يتحسّر عليه ويحاول في لاوعيه، الإبقاء على ما تبقّى من شبابه عبر إقامته علاقات كثيرة مع فتيات في عشرينيّاتهنّ، فيكتب عن العمر: "لا أحد يعرف التقدّم في السنّ إلاّ الذي يتقدّم في السنّ." ثمّ يضيف في الصفحة نفسها: "الناس يتقدّمون في السنّ ويموتون بانتظام، بحيث إنّك في الجنازة تخفّف ألمك بالتفكير في أنّ الشخص عاش حياة مديدة. وهذه الفكرة لا تجعل غيابه أقلّ فظاعة، لكنّها الخدعة التي نلجأ إليها كي نحافظ على الوهم المنتظم سليماً وعلى إبقاء عذاب الزمن في وضع حرج" (ص: 102).
بطل هذه الرواية، دايفد كيبيش، هو نفسه بطل روايتين سابقتين لروث هما: The Beast وThe Professor of Desire فتشكّل الروايات الثلاث نوعًا من ثلاثيّة النفس البشريّة. فمن أبرز خصال أستاذ الأدب هذا أنّه يميل غريزيّاً إلى الجمال والشباب وجسد المرأة ويستميل طالباته بثقافته ورقيّه وأناقته الفكريّة التي تعوّض عن تقدّمه في السنّ. إنّ ما يجذب الفتيات الشابّات، وما يتمكّن الراوي من استثماره بحنكة ودهاء، هو كونه ناقداً مثقّفاً مشهوراً تزخر أحاديثه وتشابيهه بالإحالات والاقتباسات وأسماء الفنّانين والموسيقيّين المشهورين، عدا عن أنّه يتمتّع بثقة عالية بنفسه وبمعرفته وبحضوره. حتّى نمط الكتابة يفضح هذه الفوقيّة الفكريّة عندما يكتب الراوي واصفاً كونسويلاّ إحدى طالبته: "كان الفم مقوّساً على الرغم من أنّ الشفتين ممتلئتان، وأن جبينها مستدير، لامع يتّسم بأناقة تماثيل برانكوزي ونعومتها." (ص: 10).
بين إروس وتاناتوس
ولكونسويلاّ كاستييو قصّة أخرى، فهذه الطالبة الكوبيّة الأصل الرائعة الجمال، تجذب الراوي وتستأثر بغرائزه وتروح تسيطر على جسده وتفكيره منذ بداية السرد. تجسّد كونسويلّو للأستاذ الجامعيّ فينوس، المرأة القاتلة بجسدها وقدراتها الهائلة. لكنّ الانفصال لا مفرّ منه في علاقة بين ستّينيّ وعشرينيّة، ليبقى الأستاذ في حسرة على كونسويلا وعلى جسدها وعلى لحظاته الحميمة معها.
وفي هذه المرحلة يتّضح للقارئ أنّ تعلّق الأستاذ بطالبته إنّما هو تعلّق غرائزيّ إروتيكيّ جسديّ حصراً، وليس حبّاً أو تعلّقاً عاطفيّاً بأيّ شكل من الأشكال. يظهر الراوي البطل في هذه الرواية متجرّداً من أيّ عاطفة ومن أيّ ارتباط إنسانيّ بفتياته. كلمة الحبّ أصلاً لا ترد في قاموس هذا الأستاذ "الصيّاد" هو الذي ينفر من العلاقات والارتباط، فيقول: "أيعتقد الناس أنّهم إذا عشقوا أصبحوا كاملين، باتّحاد الأرواح الأفلاطونيّ؟ أنا أعتقد غير ذلك. أعتقد أنّك كامل قبل أن تبدأ. والحبّ يمزّقك إرباً. أنت كامل، ومن ثمّ تتصدّع." (ص: 72).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكنّ المفاجأة تقع عندما تعود كونسويلّا للتواصل مع أستاذها بعد مرور سنوات.فهي تعود لتخبر أستاذها بأمر خطير سينزل عليه نزول الصاعقة وسيكون الفرصة الرائعة لفيليب روث، ليتوقّف عند قضايا وجوديّة إنسانيّة مصحوبة بجرعة هائلة من استعراض الخوف من تاناتوس، إله الموت الذي لا يُمهل ولا يُهمل.
ولا بدّ من الإشارة في هذه المرحلة إلى مشهد الاحتضار والموت الذي يعاينه البطل الراوي والذي ينقله لقارئه بدقّة وحياديّة مؤلمة، فدايفيد يشهد وفاة صديقه الشاعر جورج وينقله بمشهديّة مؤلمة محزنة تذكّر بالهزيمة البشريّة الحتميّة إزاء الموت، وتذكّر ببشاعة النهاية أياً تكن طبيعة الإنسان ووظيفته وقدراته الذاتيّة. والمستغرب في هذا المشهد أنّ الراوي ينقل الموت والوهن والاحتضار ببرودة وفتور قاسٍ لا يفضح فيه عاطفة ولا تعاطفاً ولا شفقة ولا حزناً، وكأنّ الراوي يرفض الاعتراف بمشاعره وبهزائمه حتّى لنفسه، بل إزاء ملك الموت نفسه الذي يأخذ صديقه أمام عينيه ومن بين يديه.
لعل رواية فيليب روث "الحيوان المحتضر" هي رواية الاحتضار البشريّ اليوميّ، رواية تحفر عميقاً في النفس البشريّة وتفضح الغرائز الجسديّة في أدنى دركاتها. هي رواية سبر أغوار الخوف البشريّ والهواجس من الموت ورفضه عبر تعزيز العلاقات الجسديّة والغرائز. ويجد القارئ نفسه عاجزاً عن التعاطف مع البطل، بل يجد نفسه يحتقره في أحيان كثيرة للألاعيب التي يمارسها مع نسائه، لكنّه يعود فيشعر بحقيقة الخوف الذي يساوره وهو انعكاس للخوف الذي يساور كلّ نفس بشريّة تتقدّم في السنّ وتخشى الموت.
يتعلّق راوي فيليب روث، الذي هو انعكاس لفيليب روث نفسه، بإروس وبالجسد هرباً من التفكير بالموت والفناء والتلاشي، لكنّ الموت يلاحقه في كلّ الوجوه وكلّ العلاقات. يحاول الراوي، ومعه الكاتب والقارئ على الأرجح، الهرب من التقدّم في السنّ لكنّ الكلمات لا تنفكّ تفضح الهزيمة تلو الأخرى.