ملخص
يوضح العلاقة العسيرة بين الذاكرة والتاريخ وصولاً إلى الغفران كوصية فلسفية.
هو بالنسبة إلى المفكر والمترجم العربي الراحل جورج زيناتي، الفيلسوف الذي اختتم القرن الـ20 بإصداره ذلك الكتاب الذي كرسه لثلاثي "الذاكرة والتاريخ والنسيان" - وذلكم هو عنوان هذا الكتاب على أية حال حتى وإن كان الكتاب يضم قسماً رابعاً يكاد يلخص موضوعه أو الموضوع الذي أراد أن يخلص إليه: الغفران - والذي يعتبره زيناتي، على خطى مؤرخي الفلسفة عند بدايات الألفية الجديدة، "آخر كتاب فلسفي كبير صدر في القرن الـ20".
وزيناتي كان يعرف على أية حال عم يتحدث. فهو بدوره لم ينه القرن الـ20 ليرحل عن عالمنا بعد سنوات من انقضائه، ومن رحيل ريكور في عام 2005، إلا بعد أن انكب في السنوات الأخيرة على ترجمة بعض أهم كتب ريكور وصولاً إلى هذا الكتاب الأخير، مسهباً في الحديث عنه وعن فرادته في الفكر الفلسفي الغربي، في مقدمة للترجمة العربية يمكن اعتبارها تكريماً عربياً لافتاً لفكر ريكور وذكراه.
كان زيناتي يعرف ريكور عن قرب، إذ إنه درس الفلسفة عليه في فرنسا وكان من الذين اجتمعوا في تونس لتكريم ريكور في الأعوام الأخيرة من حياته، وكان هذا الأخير في نهايات العقد التسعيني من عمره. ولعل مما لم يعبر عنه زيناتي في تقديمه ترجمته البديعة لـ"الذاكرة والتاريخ والنسيان" هو أن ريكور لئن عاش طويلاً، فإنه لم يمتد به العمر ليرى تلميذه الأثير إيمانويل ماكرون وقد أضحى رئيساً لبلاده بعد أن عاون أستاذه في العمل على كتابه الأخير فاستحق أن يشكره الأستاذ في تقديمه للكتاب.
علاقة الإنسان بتاريخه
مهما يكن، لا شك أن كل هذا يبقى على هامش الكتاب الذي قد يبدو للوهلة الأولى وكأنه مجموعة من دراسات متفرقة جمعتها مواضيع متقاربة تتعلق بالأمور الثلاثة التي تجمعت لعنونته، لكنه في الحقيقة، ودائماً كما يكشف زيناتي، تنتمي إلى سياق فكري وأبستمولوجي واحد يتعلق أساساً بالعلاقة التي يقيمها الإنسان المفكر مع تاريخه انطلاقاً من ذاكرته ووصولاً إلى ذلك النسيان الذي سيفيدنا الفيلسوف في الصفحات الأخيرة من سفره هذا أن الغفران المتعمد، بالتالي، الغفران النهائي سيكون هو المآل الأخير - الاختياري على أية حال - الذي يمكن اعتباره من خصائص السلوك الإنساني. ففي نهاية الأمر من المؤكد كما يقول المغني - الشاعر البلجيكي/الفرنسي الكبير جاك بريل بشكل بالغ التبسيط، إن الإنسان "لا ينسى شيئاً لكنه يعتاد وهذا كل ما في الأمر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من الواضح أن الغاية الأساسية من وضع بول ريكور (1913 - 2005) كتابه الذي نتناوله بالتعريف هنا والذي سرعان ما بات عمدة في مضماره، إنما كانت توضيح الوضع المتمايز في مجال علم التاريخ للعلاقة بين التاريخ والذاكرة ليؤكد الهوة الواسعة التي تفصل بين ميدانيهما اللذين ينظر إليهما كثر باعتبارهما أمراً وأحداً، وهنا حتى وإن كان ريكور على مدى نحو 800 صفحة يمتد الكتاب عليها يتعامل مع الذاكرة والتاريخ بوصفهما يتكاملان فإنه يحاول توجيه بحثه وجهة أخرى، عبر الرجوع إلى سقراط وأفلاطون وأرسطو تحديداً ثم عبر القديس أوغسطين وجون لوك اللذين يوصلانه إلى أستاذه هوسرل ومنه إلى التأويلية، التي لا بد أن نتذكر كيف أنه كان قد طبقها في دراسته لفرويد وأفكاره في تجديد بدا لافتاً عبر صدور كتابه الذي بات عمدة بدوره حول رائد التحليل النفسي، "في التأويل" (1965) وكان واحداً من كتبه الأولى. ولن يكون من الإسهاب هنا الإشارة إلى أن هوسرل يوصل بدوره فيلسوفنا إلى مدرسة الحوليات التي يفرد ريكور للحديث عن علاقتها بالذاكرة والتاريخ بعض أهم صفحات القسم الثاني من كتابه.
ذاتية الذاكرة وموضوعية التاريخ
ومع ذلك يبقى القسم الأول الذي يدور أساساً حول الذاكرة ليتكامل مع القسم المتعلق بـ"التاريخ". على اعتبار أن الأولى تنطلق من الصدقية في تأويل ما يحمله الذهن من بعد ذاتي، فيما يحمل التاريخ، أو يفترض به أن يحمل، تلك الأمور التي لا تبارح الذهن حاملة من ناحيتها كل ما له علاقة باليقين الذي وحده يجعل التاريخ حقيقياً "موضوعياً". ولعل اللافت هنا هو ما يشتغل عليه ريكور في نصه البديع - على رغم صعوبته التحليلية - من برهنة على واقع أن ليس علينا أن نعتبر دائماً تلك القطيعة المفترضة بين بعدي المعرفة هذين، أي الذاكرة في ذاتيتها والتاريخ في موضوعيته، قطيعة مطلقة. وهو ينبهنا في هذا الإطار إلى أن أي حذر مفرط تجاه شوائب الذاكرة وغرقها في بعدها الذاتي أمر من شأنه أن يحيط عمل المؤرخ بقدر كبير من تقديس التاريخ. وللتخلص من هذا نجد ريكور يلجأ إلى الحديث عن "ظواهرية الذاكرة" مقابل "إيبستمولوجية" التاريخ ليخلص إلى تأكيد أونتولوجية لا مفر منها تسم شرطنا الإنساني بوصفنا كائنات تاريخية.
ذاكرة سعيدة
وفي هذا السياق لا يفوت مؤرخ الفلسفة الفرنسي المعاصر فرانسوا دوس، وخلال حديثه عن ريكور بعد رحيل هذا الأخير بسنوات، أن يشير إلى الكيفية التي يؤكد ريكور بها كيف أنه بين المطالبة بالتعرف إلى ما ينتمي إلى الذاكرة وتمييزه عما ينتمي إلى التاريخ، ليس من الممكن الحسم بشكل عميق وهو أمر يتعين علينا معه أن نموضع كل ما يمكن النظر إليه باعتباره احتفالات لاستعادة ذكرى أشخاص أو أحداث معينة أمام تحدي ما يمكننا اعتباره "الذاكرة الصحيحة" - أو حتى "الذاكرة السعيدة" بحسب ترجمة زيناتي، على أية حال - وليس "التاريخ المؤكد".
ويبقى أن نذكر هنا، وهو ما يمكننا قوله أيضاً بلغة زيناتي نفسه، على أية حال، بعض العبارات التي شاء بول ريكور أن يختتم بها كتابه هذا، ولا سيما بعد أن توقف عند بعدين (النسيان والغفران)، كان من الواضح منذ البداية أنه إنما يريد أن يصل إليهما وربما على شكل وصية فكرية - فلسفية، وهو الذي كان يقترب حين أنجز هذا الكتاب الفذ من تسعينياته: "أستطيع أن أقول بعد الانتهاء من هذا العمل إن النجمة المرشدة لكل فينومينولوجيا الذاكرة كانت فكرة الذاكرة السعيدة التي كانت مخفية في تعريف الاستهداف المعرفي للذاكرة وهو الأمانة والإخلاص. والإخلاص للماضي ليس معطى من المعطيات، بل هو أمنية مثل كل الأمنيات يمكن أن يصاب بخيبة أمل أو بالإحباط. والحال أن أصالة هذا التمني تكمن في أنه لا يقوم على العمل بل على تصور يستعاد في سلسلة من أفعال اللغة المكونة للبعد الإخباري للذاكرة. ومثل كل أفعال الخطاب فإن أفعال الذاكرة الإخبارية يمكنها هي أيضاً أن تنجح وأن تفشل. وبهذه الصفة فإن هذا التمني لا يدرك أولاً كأمنية بل كمطلب وطموح مثقل باستعصاء أولي (...). والحال إن كان هذا الاستعصاء الذي يكونه التصور الحاضر لشيء غائب قد شكل إرباكاً حقيقياً للفكر إلا أنه لم يكن قط طريقاً مسدوداً. ومن هنا فإن طابع عمل الذاكرة كان من أوله إلى آخره طابع صيغ تتخطى إحراج الحضور والغياب (...). وفي البداية لم يتعد الأمر كونه أحد الأشكال التي تطبع الذاكرة، في أحسن الأحوال...".
وهنا لا ينسى ريكور أن يختم كتابه متسائلاً: هل نعترف في النهاية بوجود شيء يشبه ما يمكننا أن نسميه: أمنية نسيان سعيد؟ مهما يكن، من الواضح أن هذا السؤال الختامي ليس مجرد سؤال، بل يشكل في نهاية الأمر تذكيراً بأن أقسام هذا الكتاب كلها إنما كانت الجواب المسبق على هذا السؤال الذي قد يكون في مقدورنا القول إنه السؤال المفتاح الذي به ختم بول ريكور كتابه وحياته.
بين أوروبا وأميركا
وبقي هنا أن نشير أخيراً إلى أن بول ريكور ولد في مدينة فالنس الفرنسية وعرف لاحقاً بوصفه فيلسوفاً جمع بين الظواهرية التوصيفية والفكر التأويلي كما يمكننا أن نتبين من سياق "الذاكرة والتاريخ والنسيان". وفي سيرة ريكور أنه أسر خلال الحرب العالمية الثانية التي أمضى معظم سنواتها في الأسر حيث وضع الأسس التمهيدية للدكتوراه التي نالها على ترجمته كتاب "الأفكار" لهوسرل وأطروحة قدمها بعده بعنوان "الإرادي واللاإرادي". وهو درس بعد ذلك في السوربون وستراسبورغ ونانتير كما درس في بلجيكا وفي جامعة شيكاغو الأميركية التي عمل فيها من 1970 حتى تقاعده عام 1985.