ملخص
ما الذي يدفع شاباً من آل كينيدي للاستقالة من الحزب الديمقراطي والترشح مستقلاً؟
كان الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما لا يزال في البيت الأبيض حين قال عام 2016 في حديث مع رئيس تحرير مجلة "أتلانتيك"، "نحن ندخل أزمة معرفية. الأميركيون فقدوا القدرة على التمييز بين الحقيقة والكذبة، وفي هذه الحال تفشل الديمقراطية".
وهذا تعبير ملطف عما سماه أكاديميون الدخول في "عصر اللاعقل"، وما سماه فرنسيس فوكوياما "الانحلال السياسي الذي سمح لملايين اعتنقوا دجل الشعبويين إيصال دونالد ترمب إلى الرئاسة".
وها هي اللعبة تتكرر بعد أربع سنوات بين ترمب وجو بايدن كأن أميركا الجامعات ومراكز الدراسات والفكر السياسي والتطور العلمي ليس فيها سوى عجوزين يترشحان من جديد للرئاسة، أحدهما صاخب مع قليل من الخبرة السياسية، والآخر باهت مع كثير من الخبرة.
وهما، كما كشفت تجربة الرئاسة للأول ثم الثاني، دون مستوى المهمة التي صارت أميركا في حاجة ماسة إليها، لا فقط لإدارة الصراع على قمة العالم بين واشنطن وبكين وموسكو، وسط حرب أوكرانيا وحرب غزة، بل أيضاً لإنقاذ الداخل من الانقسام الحاد بين طرفين لا يستمع أحدهما للآخر، بحيث لم تبقَ في "هذه البرية الجديدة ديمقراطية ولا مؤسسات مشتركة ومحاكم غير سياسية"، حسب قول إن أبلبوم في "أتلانتيك".
ذلك أن الخوف من أميركا في العالم كثير، لكن الخوف عليها ليس قليلاً، حلفاؤها يتكلون عليها في الأمور الأساسية، وخصومها لا يعرفون كيف يدار نظام عالمي جديد في غياب الولايات المتحدة، فبايدن الرئيس حاول إعادتها إلى القيادة والدبلوماسية، وقام بإصلاحات داخلية أكثر من أوباما وتحدث عن "سياسة خارجية للطبقة الوسطى"، لكنه لم يمتلك كاريزما أوباما.
وترمب الرئيس خالف أسس السياسة الأميركية وقاد أميركا إلى موقع دولي حرج مع الحلفاء وملتبس مع الخصوم، من حيث رفع شعار "لنجعل أميركا عظيمة ثانية".
بايدن لم يترك أي تأثير ثقافي كما فعل رؤساء ديمقراطيون منهم روزفلت وكينيدي، ولا سيطر على الأحداث، وترمب يكره القراءة، لا فقط الثقافة، بحيث قام بتحويل الحزب الجمهوري، حزب الرئيس أبراهام لينكولن موحد الولايات ومحرر العبيد إلى حزب يتحكم به يمينيون متطرفون يؤمنون بنظرية "المؤامرة"، ومن سماهم "وحوش ومحافظون جدد يديرون الحزب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ترمب لا يستطيع التوقف عن الأكاذيب، وهو يردد اليوم قوله "حين كنت رئيساً كانت إيران مفلسة لا تستطيع تمويل (حزب الله)"، ويضيف "لو كنت رئيساً لما وقعت حرب أوكرانيا ولا هاجمت (حماس) إسرائيل"، ولم ينقصه سوى القول "لو كنت رئيساً لتوقفت الأرض عن الدوران"، وهو يراهن على انضمام يمين الوسط إلى اليمين المتطرف وتذمر الطبقة العاملة البيضاء، كما على الملايين المؤمنين بنظرية "المؤامرة" والمتاجرين بالدين.
الاستطلاع الذي أجرته جامعة دنيسون عام 2023 أفاد أن ربع الأميركيين يؤمنون بوجود "رسل وأنبياء" في العصر الحديث، و"الحركة الرسولية" التي يتأثر بها رئيس مجلس النواب الجديد مايك جونسون هي بين 30 في المئة من المسيحيين الأميركيين الذين يؤمنون بأن "ترمب مختار من الله ليكون رئيساً"، كما جاء في تحقيق لمجلة الـ"إيكونوميست" البريطانية، لا بل إن غريغ هود أسس طائفة هدفها جعل "أميركا مسيحية"، وادعى "أن المسيح لم يأتِ ليعطينا ديناً، بل وعدنا فقط بمملكة"، لكن الواقع أن المسيح قال "مملكتي ليست من هذا العالم".
ولانس والتو يقول إن ترمب هو النموذج الجديد من "قورش الذي حرر اليهود من أسر نبوخذ نصر"، ويدعو إلى "إلغاء بيروقراطية الكنائس البروتستانتية والعودة لإدارة حرة للكنائس مثل الأيام الأولى للمسيحية"، وهؤلاء جميعاً جمهور ترمب، وكلما جرى اتهام ترمب بجريمة أمام المحاكم، وهو يواجه حالياً 91 تهمة، زاد تمسك جمهوره به.
والمشكلة في الناخبين قبل المرشحين، فالمتنافسون على ترشيح الحزب الجمهوري هم مجرد نسخ من ترمب، ولا مجال للتنافس في الحزب الديمقراطي إذا بقي الرئيس بايدن مصراً على الترشيح لمواجهة ترمب على رغم خفض شعبيته.
والناخبون يبدون منقسمين إلى ثلاثة أطراف، لا فقط إلى طرفين كالعادة، واحد محافظ ليبرالي يؤيد بايدن، وثان، يميني متطرف ومؤمن بالغيب يؤيد ترمب، وثالث يضم الشباب الليبرالي ما دون الـ30، والذي يرفض بايدن وترمب معاً، وهذا ما يدفع شاباً من آل كينيدي للاستقالة من الحزب الديمقراطي والترشح مستقلاً، ولا أحد يجهل من صحن من يمكن أن يأخذ، ومن سيفيد منه.
يقول جون ديكرسون في كتاب "أصعب وظيفة في العالم" إن رئيس أميركا "يخوض معركته على أساس السياسة الداخلية، لكنه يواجه تحديات خارجية"، والظاهر اليوم أن التحديات الداخلية والخارجية أكبر من المرشحين المجربين في الرئاسة والمجربين في حاكمية الولايات والخائفين من ترمب وبايدن.