ملخص
ترى موسكو في كوريا الشمالية مصدراً رخيصاً للسلاح، ولا سيما الصواريخ، وسوقاً ثابتة لتصريف كثير من منتجاتها الغذائية من دون الاعتماد على التبادل بالعملات الصعبة.
يبدو أن الغزل "غير المجاني" بين زعيم كوريا الديمقراطية كيم جونغ أون والرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا يتسم بصفة تقليدية، فالكلمات واللقاءات والزيارات المتواترة بين مسؤولي البلدين تنم عن الأمل في تطوير العلاقات وتعزيزها وفق الأجندة السياسية التي تحكم البلدين الواقعين تحت نير عقوبات غربية غير مسبوقة.
فالزعيم الكوري الشمالي لا يفوت فرصة لمطالبة الرئيس الروسي بتعزيز العلاقات الودية التقليدية بين كوريا الديمقراطية وروسيا وتطويرها باستمرار لتتمكن من استرجاع مستواها العالي الذي تمتعت به في العهد السوفياتي.
ويعتبر الباحث السياسي الروسي أندريه جوبين أن العلاقات بين الزعيمين تغيرت في الآونة الأخيرة، أي منذ بدء روسيا عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا قبل نحو عامين، إلى الأفضل، ومع ذلك، فإنهما في حاجة إلى اجتماع شخصي مباشر، لذلك أعلن الكرملين في الـ15 من يناير (كانون الثاني) الجاري أن بوتين سيلبي دعوة كيم في المستقبل المنظور ويجري زيارة رسمية إلى بيونغ يانغ.
يقول جوبين "لن يكون الاجتماع الشخصي غير ضروري عندما يكون ذلك ممكناً. وأنا متأكد من أن مثل هذه الاحتمالات قيد الدراسة، لأن الحوار مع الجانب الكوري الشمالي ضروري حتى من وجهة نظر الحفاظ على وضع أمني صحي في شمال شرقي آسيا، لأن برنامج الصواريخ النووية لكوريا الشمالية هو نقطة أساسية وداعمة للأمن. وروسيا أحد الأطراف المهتمة بالتوصل إلى حل سلمي لهذا الوضع. وبالمناسبة، فهي قادرة على التأثير بفضل الحوار بين فلاديمير بوتين وكيم جونغ أون".
علاقات روسيا وكوريا الشمالية
وقال الباحث السياسي إن "العلاقات بين روسيا وكوريا الديمقراطية واسعة النطاق للغاية، لكن علينا أن نفهم أنها تراجعت إلى حد كبير قبل بدء الحرب في أوكرانيا، بسبب العقوبات المفروضة على كوريا الشمالية، ورغبة موسكو في عدم إثارة حساسية الدول الغربية والولايات المتحدة، لكن وبعد نشوب الحرب في أوكرانيا وتعرض روسيا نفسها لسيل من العقوبات الغربية واليابانية، لم يعد لدى موسكو ما تخسره من تنمية علاقاتها مع بيونغ يانغ، واعتبارها مصدراً مهماً للتسلح بالصواريخ الفتاكة التي يمكن استخدامها في الميدان الأوكراني".
وأضاف "العلاقات الدبلوماسية التي بقيت محدودة بسبب نظام العقوبات الذي فرضه مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والذي دعمته روسيا، وكان هذا بسبب تطوير برنامج الصواريخ النووية لكوريا الشمالية، لكن موقف روسيا الثابت هو أن مزيداً من تشديد النظام ضد كوريا الشمالية لا طائل من ورائه، وأن فرض عقوبات إضافية لا يؤدي إلى أي شيء، أعاد إحياء هذه العلاقات، خصوصاً بعد أن اقتنعت موسكو بأن كوريا الشمالية لن تتخلى عن أسلحتها النووية دون بعض الضمانات الواضحة لأمنها".
وأعرب أندريه جوبين عن ثقته في استمرار تطوير المشاريع بين روسيا وكوريا الديمقراطية، لأن البلدين في حاجة إلى بعضهما بعضاً في الوقت الراهن، فبينما تجد بيونغ يانغ في تعزيز علاقاتها مع موسكو فرصة لتطوير برنامجها الفضائي والصاروخي، وباباً لتنفس الصعداء في علاقاتها الجبرية والتبعية للصين، ترى موسكو في كوريا الشمالية مصدراً رخيصاً للسلاح، ولا سيما للصواريخ، وسوقاً ثابتة لتصريف كثير من منتجاتها الغذائية من دون الاعتماد على التبادل بالعملات الصعبة، وبخاصة الدولار الأميركي الذي تحاول موسكو تقليل استخدامه في مبادلاتها التجارية إلى أقل قدر ممكن.
التعاون الصاروخي
أكدت تقارير غربية أن كوريا الشمالية زودت روسيا بصواريخ باليستية لاستخدامها على الجبهة في أوكرانيا، فيما سلطت مجلة Military Watch الأميركية، الضوء على الصاروخ الذي قد تسعى موسكو إلى ضمه إلى ترسانتها من بيونغ يانغ.
ويأتي هذا التقرير من المجلة المتخصصة في الشؤون العسكرية تزامناً مع تصريح منسق الاتصالات الاستراتيجية بمجلس الأمن القومي الأميركي في البيت الأبيض جون كيربي أخيراً بهذا الخصوص، إذ قال إن موسكو تستخدم صواريخ باليستية تطورها بيونغ يانغ ضد كييف.
وبحسب التقرير فإنه على رغم عدم ذكر الإدارة الأميركية مزيداً من التفاصيل في شأن فئة الصواريخ، فإن التأكيد كان على مدى الصاروخ البالغ 900 كيلومتر، الذي يشير بقوة إلى طراز "كا أن 23 ب".
وذكرت المجلة أن روسيا سعت إلى الحصول على تلك المنظومة الصاروخية لقدراتها العالية، لافتة إلى أن الصاروخ الكوري الشمالي الآخر الوحيد الذي يتمتع بمدى مماثل، هو هاوسونغ 9 Hwasong-9.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويعد الصاروخ KN-23B منافساً جدياً على لقب الفئة الأكثر قدرة في العالم من الصواريخ الباليستية القصيرة المدى، التي يتم إطلاقها من الأرض.
وطورت كوريا الشمالية KN-23B، وهو نسخة محدثة من صواريخ KN-23 الأساسية التي دخلت الخدمة في عام 2019، وذات نطاق ممتد ورأس حربي موسع ويعمل بالوقود الصلب.
وتتشابه صواريخ KN-23 والروسية Iskander-M في أنها ذات مسارات شبه باليستية منخفضة، مع القدرة على إجراء مناورات طيران واسعة النطاق من الإطلاق وحتى إصابة الهدف، مما يجعل من الصعب اكتشافها أو تتبعها.
وتستخدم المنظومتان الروسية والكورية الشمالية زعانفها للمناورة بصورة أفضل بكثير من الصواريخ ذات المسارات الباليستية القياسية.
وأثبتت هذه القدرات أنها كافية، لأن نظام AEGIS الأميركي المضاد للصواريخ غير قادر حتى على اكتشاف عمليات إطلاق صواريخ KN-23.
المشاريع المشتركة
هناك كثير من المشاريع التي يمكن للبلدين التعاون فيها، إذ يعتبر الجانب الروسي جميع العقوبات ظاهرة موقتة، لذلك فإن الاتصالات لم ولا تتوقف.
من بين المشاريع ذات الأولوية تجدر الإشارة إلى تطوير الموارد الطبيعية في كوريا الديمقراطية بمشاركة الشركات الروسية، مثل مشاريع التعاون في مجال النقل عبر الحدود بين البلدين. وهناك مشاريع متعددة الأطراف لتطوير منطقة الشرق الأقصى الروسي بمشاركة كوريا الشمالية، منها الوصول إلى السكك الحديد العابرة لسيبيريا. وهناك أيضاً مشاريع مشتركة لتطوير التعاون السياحي، نظراً إلى أن كوريا الشمالية دولة مثيرة للاهتمام للغاية، فهي تتمتع بطبيعة فريدة من نوعها.
ولا يزال الطلاب الكوريون الشماليون يدرسون في روسيا اليوم. وهذا النوع من التعاون غير محظور، حتى إن هناك طلاباً من كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية يدرسون في مدينة فلاديفوستوك الروسية في الوقت نفسه وهذا مثال فريد.
بوتين والتعاون الصاروخي
عندما التقى الرئيس الروسي والزعيم الكوري الشمالي في قاعدة فوستوشني الفضائية الروسية في سبتمبر (أيلول) الماضي، قال بوتين للصحافيين إن الكوريين "يبدون اهتماماً بتكنولوجيا الصواريخ، ويحاولون تطوير الفضاء"، وشارك في جولة بقاعدة الفضاء مع ضيوفه من كوريا الديمقراطية. وبعد المفاوضات قال بوتين إن الطرفين تحدثا أيضاً عن التعاون في المجال العسكري. وأضاف "هناك قيود معينة، وروسيا تلتزم كل هذه القيود، لكن هناك أشياء يمكننا بالطبع التحدث عنها، ونناقشها ونفكر فيها." وقال في مقابلة مع قناة "روسيا 1" التلفزيونية "هنا أيضاً يوجد آفاق".
تعاون على رغم العقوبات
نظام عقوبات الأمم المتحدة الحالي ضد كوريا الشمالية، الذي وافق عليه مجلس الأمن، يتضمن عدداً من الإجراءات التي تحد بشكل خطر من قدرات برنامج الفضاء في البلاد، بما في ذلك قدرتها على التعاون مع دول أخرى في هذا المجال. ولتنظيم التعاون في مجال هندسة الطيران ستحتاج روسيا أو كوريا الشمالية إلى التقدم بطلب إلى لجنة العقوبات التابعة لمجلس الأمن للحصول على إذن فردي. وينطبق الشيء نفسه على إنشاء مشاريع مشتركة بمشاركة كيانات جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية في مجال الأنشطة الفضائية.
ولا يسمح النظام الدولي بإصدار تصريح فردي إلا إذا قررت اللجنة أنه لن ينتهك أهداف نظام العقوبات الحالي. ولأن قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ملزمة قانوناً لجميع أعضاء المنظمة وتخضع للتطبيق المباشر على أراضيهم. فرض قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1874 عام 2009، بعد أن أجرت هذه الدولة تجربتها النووية الثانية، بما في ذلك حظر استيراد الأسلحة من كوريا الديمقراطية. ويتضمن القرار حظراً على استيراد الدبابات والمدفعية والطائرات والمروحيات وقاذفات الصواريخ والذخيرة من كوريا الشمالية، فضلاً عن خدمات التدريب على الأسلحة. وبحسب مصدر مقرب من وزارة الدفاع هناك أشكال أخرى من التعاون شبه العسكري لا تخضع لهذه العقوبات وغيرها (على سبيل المثال، عقد مؤتمرات علمية)، لكن كل هذه العقوبات لا توقف التعاون السري الجاري بين موسكو وبيونغ يانغ، وإن كانت الأولى تصرح مراراً وتكراراً بأنها ملتزمة نظام العقوبات ولا تخرقه.
وهذا التعاون يمكن أن يستشف من تصريح السكرتير الصحافي الرئاسي دميتري بيسكوف للصحافيين في الـ13 من سبتمبر (أيلول)، وقوله إن "موسكو تبني علاقات مع جيرانها بطريقة تعود بالنفع على روسيا. على أية حال فإن النطاق الكامل للعلاقات يعني الحوار والتفاعل في المجالات الحساسة، مثل التفاعل العسكري، وتبادل وجهات النظر حول القضايا الأكثر إلحاحاً في مجال الأمن. كل هذا يتم تنفيذه أيضاً. وجميع القضايا الأخرى تهم فقط بلدينا السياديين".
وعشية زيارة كيم لروسيا، قال مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان، إن كوريا الشمالية "ستدفع الثمن" إذا زودت روسيا بالأسلحة. تم نشر تقارير حول توريد الذخيرة من جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية في وسائل الإعلام الغربية منذ ما يقارب عاماً، ولم يتم تقديم أي دليل ملموس. واقتصر المتحدث باسم وزارة الخارجية الكورية الجنوبية ليم سو سيوك في تعليقه على القول إن سيول "على اتصال وثيق مع موسكو" وراقبت زيارة كيم جونغ أون.
ولا يزال من الصعب تحديد ما سيتمخض عنه التفاعل بين روسيا وكوريا الديمقراطية في المجال العسكري، بخاصة في مجال التعاون العسكري الفني، نظراً إلى أن هذه معلومات سرية، فمن الناحية العملية بالنسبة إلى موسكو، وبعد مجموعة القيود التي فرضتها الدول الغربية سابقاً عليها، من غير المرجح أن يكون التهديد بفرض عقوبات جديدة على التعامل مع بيونغ يانغ حافزاً كبيراً لوقف هذا التعاون أو الحد منه.
أما بالنسبة إلى نظام التدابير التقييدية الذي يفرضه مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والذي تشكل العقوبات التي تفرضها روسيا جزءاً منه، فإن كل شيء سيعتمد على المجالات التي سيتطور فيها التعاون بين البلدين، لكن من الواضح أن هذه الإجراءات تتعارض مع نظام العقوبات، الذي شارك الجانب الروسي نفسه في إنشائه، ويمكن أن تتسبب في الإضرار بالسمعة وليس أكثر.
وتجري الآن دراسة خيارات السلوك والكلف السياسية لتعميق التعاون مع كوريا الشمالية، فروسيا لديها فرص جدية للتأثير في الأمن في شمال شرقي آسيا. وإذا بدأ هذا التعاون فعلياً فسيكون ذلك خطوة كبيرة لبيونغ يانغ للخروج من عزلتها الدولية، إذ إن نافذتها الوحيدة على العالم الآن هي الصين، ولم يتم الإعلان عن وجودها خصوصاً، على رغم أن هذا واضح للجميع.
على رغم ضغوط العقوبات الخطرة على كوريا الشمالية، بما في ذلك من الأمم المتحدة، فإن بيونغ يانغ وموسكو يمكنهما إيجاد طرق للتعاون مع مستوى منخفض من الأخطار لكلا الطرفين، فروسيا تحترم قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، لكن ليس على حساب مصالحها، كما أن لديها الفرصة والحافز لإنشاء قنوات اتصال جديدة مع كوريا الديمقراطية.
من هذا المنطلق يمكن فهم تصريح رئيس لجنة الشؤون الدولية بمجلس الاتحاد غريغوري كاراسين، في الـ19 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حول أن العلاقات بين روسيا وكوريا الشمالية تعطي أسباباً للتفاؤل، ففي السنوات الأخيرة تطورت العلاقات بشكل متزايد "نحن دول مجاورة وجيران في مثل هذه المنطقة الإقليمية الحساسة إلى حد ما: اليابان وكوريا الجنوبية والصين والمحيط الهادئ قريبة، حيث تنمو المشاعر العسكرية للولايات المتحدة لتكوين كتل جديدة غير مواتية للاستراتيجية السلمية والاستقرار"، على حد تعبيره.