ملخص
رصد الكاتب البوليفي ماريو يوسا الدور الاجتماعي الأساس الذي يتصوره ليس فقط للأدب المسرحي، بل للكيفية التي يكشف فيها ذلك الأدب عن آلياته لتطوير اللغة
يعرف قراء الكاتب البوليفي ماريو بارغاس يوسا أن صاحب "عيد التيس" و"حرب نهاية العالم"، وغيرهما من الروائع الروائية، درس في مطلع شبابه خلال خمسينيات القرن الـ20 في باريس، حيث تشبع بالثقافة الفرنسية التي يتقن لغتها جيداً، ويكاد يكون على أي حال ومن خلال اهتمامه حينها بالمسرح بخاصة، في تعامله معها، التجسيد الأكثر حيوية لتوصيفها بكونها "لغة موليير"، ذلك بالتحديد لأنه منذ ذلك الزمن الذي يبدو بعيداً جداً الآن، كان يعد موليير نفسه هواه الأكبر، بل اعتاد أن يرصد تطورات المجتمع الفرنسي من خلال التطور الذي يرصده في التعامل المسرحي عاماً بعد عام تقريباً عبر مداومته على ترصد أي عروض جديدة تقدمها فرق معاصرة لأعمال سيد المسرح الكوميدي الفرنسي دون منازع.
والحال أن بارغاس يوسا نفسه أخبر قراءه في مقال نشره قبل عقد من السنين ونيف في صحيفة "إيل باييس" الإسبانية واسعة الانتشار التي يستقطب قسمها الثقافي عادة كبار أصحاب الأسماء من مبدعي العالم، ومنهم هذا الكاتب الذي كان من آخر كتاب اللغة الإسبانية الفائزين بجائزة نوبل الأدبية. وبما أن الكاتب كان يخص "إيل باييس" بالمقالات التي يعدها الأكثر أهمية بين ما يكتبه، كان من الطبيعي أن يعلن في ذلك المقال تعلقه بالثقافة الفرنسية وبمسرحها.
دور الفن الاجتماعي
لكن ذلك لم يكن هدفه الأساس من المقال، بل كان هدفه التوقف عند دور اجتماعي أساس يتصوره ليس فقط للأدب المسرحي، بل أكثر من ذلك، عند الكيفية التي يكشف فيها ذلك الأدب عن الكيفية التي تتطور بها اللغة. وهو للتعبير عن هذا البعد تحدث في مقاله أولاً عن تعلقه باللغة الفرنسية، وبعد ذلك عن تفاعل جمهور رصده حديثاً تجمع لمشاهدة مسرحية موليير "مريض الوهم" في صالة مسرحية موقتة أقيمت غير بعيد من صالة "الكوميدي فرانسيز" التي كانت تخضع لصيانة فكانت الصالة الموقتة بديلة عنها بالنظر إلى أن "الجمهور الفرنسي لا يمكنه أن يفوت موسماً دون أن يستعيد فيه مشاهدة واحدة من مسرحيات موليير تقدم مع فنانين اعتادوا أن يكونوا مبدعين مولييريين".
في رأي بارغاس يوسا أنه بحسب المرء أن يرصد التغيرات التي يطالعها بين تفاعل الجمهور، الوفي عادة لموليير، مع اللغة التي تقدم بها تلك المسرحيات موسماً بعد آخر ليتمكن من رصد سلوكيات ذلك الجمهور. وهو بالتحديد ما فعله هو نفسه من خلال مشاهدته أحدث عرض حضره لـ"مريض الوهم"، وكان في خلفية مقاله في "إيل باييس"، لافتاً إلى أنه هذه المرة حول انتباهه من خشبة المسرح والممثلين الذين يتحركون عليها، إلى الجمهور في الصالة، مكتفياً بالاعتماد على ذاكرته لمتابعة ما الذي حدث للغة الحوارات المولييرية خلال 50 عاماً وتقليب نظره بين ردود فعل الجمهور في الوقت نفسه.
نتيجة مدهشة
"كانت النتيجة مدهشة"، يقول الكاتب في مقاله. وأضاف "أمضيت لحظتها ساعتين ونصف الساعة من الرصد المذهل. رصد الجمهور في الصالة بأكثر كثيراً من رصد ما يدور أمامي على خشبة المسرح، فقد كان ما يهمني حينها وبصورة أساسية الكيفية التي يضحك بها الجمهور ودعمه لما يشاهده من خلال نظراته وإصغائه، ثم بصورة خاصة لفتني المزاج الذي ساد بين الجمهور الأصغر سناً، وفيه عديد من الأطفال الذي اصطحبهم أهلهم، وربما للمرة الأولى كي يشاهدوا عرضاً حياً على الخشبة لنص من المؤكد أن معظمهم يحفظه عن ظهر قلب بالنظر إلى أن تلك المسرحية، بين كتب أخرى، مفروضة عليهم في المدارس، وها هم الآن يشاهدونها مجسدة على الخشبة".
ويتابع "لفتني خصوصاً زخات التصفيق الذي كان يلي سماع الجمهور لعبارات وحوارات معينة، وبخاصة منه الجمهور الشاب الذي بدا لي من المؤكد أن المعاني نفسها اختلفت بالنسبة إليه من مقروئيتها في المطبوعات المدرسية والتفاعل الحي معها وهي تلقى من قبل ممثلين من لحم ودم، لا تقل ردود فعلهم تجاه التصفيق أو الضحك أهمية عن ردود فعل الجمهور".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
درس في الحضارة
والحقيقة أن هذا ما جعل الكاتب يتحدث عن أن ما شاهده بأم عينه بين صفوف الجمهور في ذلك العرض، إنما كان "درساً في الممارسة الحضارية"، بل حتى "تعبيراً عما يمكننا أن نسميه حضارة بالفعل".
يشرح بارغاس يوسا ما يعنيه بذلك، فالفعل الحضاري الذي يتحدث عنه هنا ليس سوى رصده مجموعة من البشر تحس بنفسها، ومن خلال طقوس لا تتوقف عن ممارستها منذ أربعة قرون وأكثر، أي منذ تقديم موليير مسرحيته هذه بالنسبة إلى بارغاس يوسا هنا، تحس بنفسها وقد تسامت على واقعها في تقاسمها تلك الطقوس ذهنياً وعاطفياً، لتعيش تجربة مشتركة فيما بينها، تجربة من مستلزماتها أن تمحو ولو بصورة موقتة كل ما ينتمي إلى أحقاد الحياة اليومية وضروب بؤسها والعنف الذي يسم عادة كل ذلك، مستثيراً لديها كل ما يتسم بالأريحية وحس الجمال".
ويخلص بارغاس يوسا هنا إلى الإشارة إلى الكيفية التي يذكرنا هذا الطقس المتشاطر بين قوم لا يعرفون أصلاً بعضهم بعضاً، فيتوالفون ولو لساعتين ونيف من الوقت "ليؤكدوا إلى أي حد يمكن لعملية خلق عوالم خيالية أن تساعد هؤلاء القوم اللاجئين إلى حمى ذلك الخلق الإنساني البديع، للهرب في غالب الأحيان من واقع لم يعودوا قادرين على تحمله، وتساعدهم على التخلص من هشاشتهم وضعفهم، وما إلى ذلك، على الإفلات من رتابة اليومي وتحويل المرارة إلى مسرة عبر اكتشاف ذلك التضامن، بل حتى التواطؤ وأهميته في تخليص الإنسان من تلك الحيوانية التي تدفعه إليها تلك الحياة التي يعيشها خارج المسرح".
مقارنة تنتج أسئلتها
في هذا السياق يبدو لافتاً كيف أن بارغاس يوسا يعود بعد استعراضه ذلك الدرس الحضاري ليقوم بمقارنة غير متوقعة بين اللغة التي يتجاوب معها جمهور اليوم وتلك التي كانت سائدة وبالنسبة إلى عرض شاهده وهو شاب في باريس للمسرحية نفسها، ليخلص بأن المسرحيين الأكثر إبداعاً، إنما يعبرون عن الكيفية التي يسهمون بها في تطوير اللغة نفسها من خلال ما يجرونه من تغييرات تكاد تكون بديهية على الاستخدام اليومي لها. وأرجع تلك الممارسة إلى إبداع جماهيري يسميه "مساهمة الجمهور في تطوير اللغة، وحتى دون أن يعي ذلك"، ما يعتبره تواطؤاً من نوع تلقائي بين الجمهور والفنانين في عملية تطوير خلاق للغة واستخدامها محوراً للفن، لكن جذره يكمن في المجتمع نفسه.
ولعل اللافت فيه هو أن الطرفين يمارسانه كالبديهة، حتى من دون أن يبدو عليهما أنهما يفعلان ذلك. ترى أوليس ثمة في خلفية ما يصفه بارغاس يوسا هنا، تلك المعجزة الصغيرة التي يمكننا أن نسميها "معجزة الفن" في تعبيره عن واحدة من وظائف الفن الحضارية في تاريخ المجتمعات ومسيرة تطويرها، وظيفة تكاد تكون تلقائية في نهاية الأمر، ولكن عبر ممارسة يمكن لأي فرد من أفراد الجمهور أن يقوم بها في كل لحظة من اللحظات؟
حين تختفي الصالات
صحيح أن الكاتب البيروفي لم يقل هذا بكل وضوح، لكنه عبر عنه مداورة، تماماً كما بدا في كلامه وكأنه يسهم بصورة تخلو من أي التباس في ذلك السجال الذي يدور منذ عقود ويتعلق تحديداً بمسألة تبدو اليوم بالنسبة إلى أهل الإبداع كما بالنسبة إلى الجمهور الأكثر ارتباطاً بقضية الإبداع، حاسمة إلى أبعد الحدود.
وتتحلق من حول السؤال التالي: كيف سيكون مصير هذا النوع من التواطؤ حين تختفي تلك العلاقة المباشرة للجمهور بالعملية الإبداعية عبر تفاعله الميداني مع العروض المسرحية والسينمائية بين فنون أخرى، في الصالات حين تختفي هذه لتحل المشاهدة الفردية بديلاً نهائياً عنها؟