ظل المخرج والفنان المغربي لَحْسَنْ زينون (مواليد 1944) يتمتع بالحيوية والشباب إلى أن أنهى عقده الثامن، فجاء رحيله أمس الثلاثاء مفاجئاً لكل من يعرفه. فقد قضى حياته على خشبات المسارح راقصاً وكوريغرافياً، ومصمماً للرقصات، وخلف الكاميرا مخرجاً سينمائياً، فضلاً عن ولعه بالكتابة والرسم، والإشراف على التظاهرات الثقافية وإدارة المهرجانات السينمائية. كان زينون ينتقل بين الأشكال الفنية بالبراعة ذاتها التي كان يؤدي بها رقصاته التعبيرية داخل المغرب وخارجه. لكن نزيفاً في الدماغ لم يمهله الوقت لمواصلة شغفه.
انتبه لحسن زينون باكراً إلى فن الرقص التعبيري، وحصل على جائزة أفضل راقص سنة 1964 من معهد الموسيقى بالدار البيضاء، ثم اتجه إلى بلجيكا لتطوير موهبته من خلال الدراسة في معهد الرقص ببروكسيل. وبعد تخرجه من المعهد اشتغل مع كبار الكوريغرافيين أمثال: جورج سكيبين وبيتر فان ديك وجورج لوفيبر وأندريه لوكلير وهنا فوس وجين برابانت وجنين شرات وغيرهم. كما أشرف على تصميم الرقصات للعديد من الأعمال السينمائية العالمية، من بينها فيلم "الإغواء الأخير للمسيح" لمارتن سكورسيزي، "شاي في الصحراء" لبرناردو برتولوتشي، "ظل فرعون" لسهيل بن بركة، فضلا عن فيلمي "يوسف" و"موسى" لروجر يونغ. كما صمم رقصات لأفلام مخرجين مغاربة أمثال حسن المفتي وسعد الشرايبي ومصطفى الدرقاوي.
في الغرب
وفي عام 1978 أسس الفنان المغربي مع زوجته الفنانة ميشيل باريت فرقة "باليه زينون" التي تخرج منها عدد من الفنانين من بينهم ابناه قيس الذي يعمل راقصاً أساسياً في فرقة باليه سان فرانسيسكو، وشمس الدين عضو الفرقة الملكية للباليه في فلاندر الفرنسية.
حاول زينون أن يُدخل مختلف الرقصات الفلكلورية المغربية إلى مجال اشتغاله، فالتراث المغربي حافل بأشكال احتفالية يمكن استثمارها في الرقص المعاصر. غير أن الكثيرين رفضوا تجريب زينون باعتباره يشكل تشويشاً على التراث وتشويهاً لثقافة بصرية متوارثة. غير أن لحسن زينون لم يكن يشغل باله بالانتقادات الموجهة إليه، فواصل جولاته الاستعراضية في عدد من بلدان العالم، وأسس في المغرب فرقة للفنون التقليدية، وبيتاً للتدريب الاحترافي، كما أشرف على العديد من التظاهرات التي تحتفي بالرقص المعاصر. وامتداداً لشغفه بتصميم رقصات الأفلام، جذبته الشاشة الكبيرة إليها، ليدخل عالم الإخراج، فكان فيلمه الأول نتاجاً للخبرة التي راكمها في عمله مع مخرجين عالميين. وانتظر إلى حدود سنة 1991 ليقدم للجمهور فيلمه الأول "هذيان صارخ"، وتم عرضه في الدار البيضاء، ثم روتردام وبريدا وباريس.
أخرج لحسن زينون بعد فيلمه الأول عدة أعمال سينمائية، من بينها: الصمت، البيانو، عثرة، عود الورد، وموشومة. وحظيت هذه الأعمال بتقدير النقاد والجمهور، فقد حصل فيلمه "عود الورد" على جائزة التحكيم في المهرجان الدولي "بّالم بيتش" بالولايات المتحدة الأميركية سنة 2008، وقبلها بعام حاز الفيلم ذاته جائزة أفضل دور نسائي في الدورة التاسعة للمهرجان الوطني للفيلم في طنجة. أما عمله السينمائي "موشومة" فقد نال جائزة أحسن سيناريو في الدورة الثالثة عشرة للمهرجان الوطني للفيلم سنة 2012.
ضدّ رقص الرجال
اختار لحسن زينون في الفترة الأخيرة أن يضع حياته على الورق، ناقلاً تجربته في الفن والمجتمع إلى القارئ. فأصدر قبل ثلاث سنوات سيرته باللغة الفرنسية تحت عنوان "الحلم المحظور" عن دار النشر البلجيكية المغربية "مها إديسيون" في بروكسيل، وعن الدار نفسها صدرت ترجمتها لاحقا إلى اللغة العربية. يسرد الكتاب بالأساس مكابدات الفنان وهو يحاول أن يخلق ممراً جديداً في الحياة الفنية المغربية خلال ستينيات القرن الماضي، داخل مغرب يخرج بالتدريج من المرحلة الكولونيالية. وبالتالي كان الخطاب الوطني المحافظ هو السائد. ولم يكن مشهد شاب مغربي يرقص الباليه، أو يقدم عروضاً من الرقص التعبيري، أمراً مقبولا على الإطلاق.
عاد زينون إلى طفولته، محاولاً أن يضع إحداثيات لبداياته الفنية الأولى، وللحظات التي جعلته يتجه إلى الرقص التعبيري في الفترة التي كان فيها الذكور الموهوبون يميلون إلى التشكيل والمسرح والسينما والكتابة والعزف والغناء. ولعل لقاءه الأول بعروض السيرك كان له وقع على مساره. وإذا كانت رقصات الرجال في السيرك تهدف إلى التسلية والترويح، فإن لحسن أراد أن يقدم رقصات تعبر عن الأفكار التي تعتمل في رأسه، وعن المشاعر التي تنتاب الإنسان في حالات الإشراق والإخفاق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في كتابه "الحلم المحظور" يستعيد لحسن لحظة طفولية كانت خلالها امرأة ترقص في أحد الأفراح، وكانت ترتدي النقاب، على الطريقة المغربية، في البداية. ومع التدرج في النشوة والابتهاج ستزيل النقاب غير آبهة بالعيون التي تراقبها. أحس لحسن بأنه أمام حالة من التحرّر، وأن هذه الحالة من التخفف من اشتراطات المجتمع لم يخلقها سوى الرقص. كان هذا المشهد دافعاً إلى أن ينخرط زينون في فنّ قادر على ترجمة هذه الحالة من الانعتاق والخروج من الأطر التي تقيد حرية الكائن. يقول في كتابه عن هذه التجربة: "هل كنت مدركاً في أعماقي الدفينة بأن الرقص الذي اكتشفته للتو كان يبنيني من الداخل ويتلبسني، مثلما كان يطور في شخصيتي قوة الإحساس بالحياة والجمال؟ وهي القوة التي مكنتني من صياغة مصيري الفردي بكل جرأة وحماسة؟".
لكن هذه الحماسة كانت محاصرة من لدن العائلة والسلطة والمجتمع. يحكي زينون عن تجربة طرده من البيت العائلي بسبب الرقص، وعن رفض عامل مدينة الدار البيضاء (أعلى درجة في سلطة المدينة) تمكينه من منحة تعليمية من أجل مواصلة دراسته عن الرقص في أوروبا. كان سقف الاختبار بالنسبة للحسن زينون هو تصريح الملك الراحل الحسن الثاني: "نحن بلاد الرجال، ولا أريد أن يكون هناك راقصون في بلادي". كان الملك يرفض أن يرقص الرجال رقصاً حداثياً، خارج الإطار التقليدي المعروف. ورأى صاحب "الحلم المحظور" أن رفض السلطة لهذا النوع من الرقص هو رفض للحرية وللتحرر. وقع زينون بعد إهانة الملك له في فخ الاكتئاب، فأغلق عليه بيته وعكف على الرسم لفترة معينة، لتكون لوحاته بمثابة علاج له.
وبالرغم من ذلك لم تكن هذه الأشكال من الرفض والحصار والنقد الاجتماعي، قادرة على منع لحسن زينون من تحقيق حلمه، إذ سيجد في أوروبا من يحتفي بفنه، وسيصبح اسمه حاضراً في كبريات التظاهرات الفنية، وسيمارس شغفه برفقة أسماء كبيرة في الرقص والسينما والمسرح. وما لبث أن رسخ حضوره بعد ذلك في بلده المغرب وفي بلدان العالم العربي، تناغماً مع فكرته القائمة على أن الرقص المعاصر ما هو إلا شكل من أشكال الحضور والتعبير عن الحياة المعاصرة، بغض الطرف عن الجانب الفيزيولوجي للكائن الذي يمارس هذا الفن.