Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

معركة مجدو... حين غيّر "تحتمس الثالث" مسار العلاقات الدولية

كيف بنى المصريون جيشاً نظامياً هزم مملكة قادش وملكها؟

تمثال لتحتمس الثالث في المتحف المصري وسط القاهرة (أ ف ب)

ملخص

هل كان تحتمس الثالث فرعون موسى أو فرعون الخروج كما قال بعضهم؟

في مؤلفه الشهير "تاريخ بني إسرائيل" يكتب عالم اللغات السامية البريطاني الأصل، تيودور روبنسون، "يبدأ التاريخ الحديث بشكل محدد مع عام 1479 ق. م، وإذا ما تناولنا تلك الفترة بمفاهيم عصرنا يمكن أن نسميها الحقبة الاستعمارية الإقليمية. على مدار أربعة وثلاثين قرناً، كان كل الطموح السياسي، سواء للفرد أو للمجموعات البشرية، يهدف إلى الامتداد الجغرافي، وإخضاع القبائل والشعوب المجاورة".
في وقت قريب من هذا التوقيت جرت وقائع واحدة من أهم معارك التاريخ، بل يمكن اعتبارها المعركة الأولى التي وصلتنا أخبارها كاملة، والتي تعكس صراع القوى في منطقة مصر القديمة بنوع خاص، وأزماتها مع القوى الآسيوية المجاورة لا سيما الكنعانيين.

كانت كنعان منطقة تاريخية سامية اللغة في الشرق الأدنى القديم، تشمل اليوم فلسطين ولبنان والأجزاء الغربية من الأردن وسوريا، وباتت كلمة الكنعانيين تُستخدم كمصطلح عرقي يشمل مختلف فئات السكان الأصليين، أي المجموعات المستوطنة والبدو.

كانت منطقة سيناء هي المساحة الفاصلة بين مصر وبين تلك الأراضي الكنعانية، كما كانت أرض سيناء ولا تزال، عبارة عن البوابة الشرقية لمصر، منها تتوجه القوات المصرية المحاربة إلى الشمال، والشمال الشرقي جغرافياً، ومنها تأتي عادةً الغزوات الخارجية كما حدث مع الهكسوس وغيرهم من الجماعات التي حاولت غزو مصر وتم دحرها لاحقاً.

جرت معركة مجدو في عهد أحد أعظم الأباطرة المصريين القدماء، الفرعون تحتمس الثالث، وظلت عبر التاريخ الطويل نقطة فاصلة، لا بل إن الحديث الأكثر إثارة موصول بعلاقة موقع "مجدو" عينه "بمعارك مستقبلية، لا سيما في تفكير الجماعات ذات الميول الدينية اليمينية، والتي تقطع بأن معركة نهاية العالم، بين قوات الشمال وقوات الجنوب، ستحدث في هذه البقعة من الأرض".
من هو تحتمس الثالث الذي جرت هذه المعركة في عهده؟ وما هي الأسباب التي دعته لخوض هذه المعركة التاريخية؟ ولماذا يعتبرها بعض المؤرخين أول مذبحة دونها البشر في وقائع التاريخ المكتوب؟

تحتمس الثالث ومصر الحديثة

أسمه باللغة الهيروغليفية "من خبر رع"، ويعد سادس فراعنة الأسرة الثامنة عشر، ويعتبر في تاريخ مصر القديمة مؤسس الإمبراطورية الحديثة.

ولِد تحتمس في منطقة مملكة بونت، جنوب مصر، حيث مصدر البخور والعطور المقدسة التي تُستخدم في طقوس المصريين القدماء، وكانت واقعة تحت سيطرة المصريين الذين امتدت مملكتهم من عمق القارة الأفريقية، إلى شمال القارة الآسيوية.

كان مولده في عام 1481 ق. م، ووفاته في عام 1425 ق. م، أي أنه لم يعمر طويلاً مثل فراعين أخر كرمسيس الثاني الذي عاش نحو 97 سنة، وقد ظلت إمبراطورية تحتمس الثالث حتى عام 1070 ق. م.

سبق تحتمس الثالث في حكم مصر، الملكة حتشبسوت، أي "خليلة آمون المفضلة على السيدات أو خليلة آمون درة الأميرات"، وهي من أبرز الملكات اللواتي حكمن مصر وأقواهن نفوذاً، إذ كان حكمها نقطة بارزة ليس في تاريخ الأسرة الثامنة عشرة فحسب، بل وفي تاريخ مصر القديمة كله.

حين كانت حتشبسوت تحكم مصر، اتبعت سياسة سلمية مع مناطق النفوذ المصري في فلسطين، والنوبة، ومع جيرانها، وكانت تهتم بالبحرية وترسل الأساطيل إلى بلاد بونت وإلى سواحل لبنان للتبادل التجاري. غير أنه بعد موتها انتهزت بعض المحميات في سوريا والهلال الخصيب التي كانت تعرف باسم بلاد "ميتاني" في ذلك الوقت، الفرصة للحصول على المزيد من الاستقلالية.

وحين استلم تحتمس الثالث العرش، شعر بحالة من الإنسلاخ تجري في عروق حكام الولايات الخاضعة لمصر، ومن هنا أبدى اهتماماً فائقاً بما نسميه الاستراتيجية العسكرية.

وفي مقدم ما خطط له تحتمس الثالث ونفذه، أنه بلور رؤية لجيش مصري نظامي، فزوده بالفرسان والعربات الحربية، وفي عهده اتقن المصريون القدماء صناعة النبال والأسهم، وعهد للحدادين بصناعة الحراب من الحديد المصقول الذي لا يتأثر بأجواء المناخ، إلى آخر ما كان يستلزمه الأمر من كشوف بأسماء المجندين، ومن ثم توزيع الرتب العسكرية عليهم.

بنى تحتمس الثالث القلاع والحصون، ودرّب الجنود أفضل تدريب ومدّهم بأسلحة مبتكرة قوية، ولأن القوة مغرية، فإننا نجد في تاريخ تحتمس الثالث نحو ستة عشر حملة عسكرية على آسيا، استطاع من خلالها تثبيت نفوذه هناك كما ثبت نفوذ مصر حتى بلاد النوبة جنوباً. غير أن كافة هذه الحملات قصة، ومعركة مجدو قصة أخرى.

مجدو في التاريخ والجغرافيا

تُعرف مجدو بـ "تل المتسلم" في سهب مرج ابن عامر، وهي منطقة بين الجليل وجبال نابلس، وذُكرت للمرة الأولى في حوليات تحتمس الثالث الذي غزا المدينة في عام 1468 ق. م.
تُعتبر مجدو إحدى أهم المدن الكنعانية في شمال فلسطين، وتقع على ارتفاع 60 متراً فوق مستوى السهل المحيط بها. وقد ترسمت المدينة في مراحل لاحقة، ومنحها موقعها الاستراتيجي، عند النقطة التي يفضي فيها وادي عارة إلى سهل مرج ابن عامر، سيطرة استراتيجية على الطريق الدولي القديم "فيا مارس"، وهو أحد أقدم الطرق التجارية في منطقة الشرق الأوسط ويعني باللاتينية "طريق البحر".

وأظهرت التنقيبات في تل المسلم بأن مجدو كانت مدينة محصنة في العصر البرونزي المبكر والعصر البرونزي الوسيط (الألفين الثالث والثاني ق.م)، وكانت لها أهمية كبيرة، على رغم أن أول ذكر لها يعود إلى القرن الخامس عشر ق.م في نص تحتمس الثالث.

فهل كانت هذه المدينة والموقع الذي جرت فيه المؤامرة ونشأ فيه تحالف من المدن الكنعانية للإطاحة بالنفوذ المصري.

من الواضح أن أمير مدينة قادش في سوريا قد مضى في تزعم حلفاً من أمراء البلاد الآسيوية في الشام ضد مصر وصل عددهم إلى ثلاثة وعشرين جيشاً.

ولم تكن مجدو المعركة الأولى لتحتمس الثالث، إذ سبقتها مناوشات مختلفة، وعمليات عسكرية سريعة بلغة عالمنا المعاصر، غير أن مجدو ستكون شيئاً آخر.

ذُكرت مجدو في أهم نص عسكري في التاريخ والمعروف بنص تحتمس الثالث، المنقوش على جدار معبد الكرنك في منطقة الأقصر في جنوب مصر.

 كما ذُكرت مجدو في قائمة مدن سيتي الأول، وفي رسائل تل العمارنة بمنطقة المنيا في وسط أرض مصر، ولها ذكر قديم في التوراة، وبالتحديد في سفر القضاة، حيث تُعرف بأنها المدينة التي تسيطر عليها قبيلة منسى بحسب العهد القديم.

كيف جرت وقائع هذه المعركة التاريخية المثيرة والخطيرة، وهل هناك إجماع واحد حول ما جرى فيها عبر التاريخ؟

قادش وعداء تاريخي لمصر

يتحتم علينا قبل الدخول مباشرة إلى الحديث عن معركة مجدو، الإشارة إلى أحوال علاقات المصريين بالممالك المجاورة، لا سيما منطقة قادش، أي بحدود سوريا المعاصرة.

قبل قرون عدة من زمن تحتمس الثالث، غزت الجيوش المصرية أراضي كنعان، وجلبت معها آلهتها، وكذلك نيرها القمعي كما يقول "إيريك دور تشميد"، أستاذ التاريخ العسكري، في كتابه "حروب وأساطير من معركة مجدو إلى سقوط روما"، ويكمل كيف أن أجيالاً من السوريين أُجبروا على العمل في عبودية مدقعة تحت سياط من يسميهم "الفراعنة القساة".

كان ملك قادش واثقاً من أن كل هذا سيتوقف الآن... مع وجود آلاف من رجال القبائل ومئات من العربات الحربية على استعداد للقتال، سوف يجلد الفرعون الشاب ويرسله وهو يئن عائداً إلى مصر.
أغلق ملك قادش طريقي الوصول المحتملين إلى بلاد كنعان، وبالتالي كان قطع الطريق على الجيش المصري، يبدو خطة مثالية. غير أنه كان على ملك قادش أن يكتشف بنفسه لاحقاً أنه في الحروب لا يوجد شيء اسمه "الخطة المثالية".

كانت الأراضي الواقعة خارج مصر تسيطر على طرق التجارة الحيوية شرقاً، وحتى وادي الهلال الخصيب وما بعده. كانت السيطرة على الطرق تعني السيطرة على الجزء الأكبر من آسيا الصغرى.

وتمت المحافظة على هذه الهيمنة بمساعدة جيش مصري قوي، فقد أنشأ أحمس الأول، مؤسس الأسرة الثامنة عشر للفراعنة (حوالى عام 1580 قبل الميلاد)، جيشاً محترفاً ذا واجبات محددة بشكل دقيق. كان الجنود المشاة مسلحين بمجموعة متنوعة من الدروع والرماح ومدعومين من الرماة.
غير أن السلاح الرئيس للجيش المصري كان يتبدى من خلال مرونة حركته، وقدرة مركباته الحربية على الهجوم، مثلما تخترق الدبابات في عصرنا قلب دفاعات العدو.

قبل ثلاثة آلاف عام من مجيء رومل، وباتون، أدرك فرعون مصري قيمة خطة الهجوم وطور قواته التكتيكية على أساسها. قام ثلاثة ملوك محاربين هم أحمس، وأمنحتب الأول، وتحتمس الأول، بتوسيع إمبراطوريتهم إلى سوريا ومن هناك إلى الفرات. يذهب بعض المؤرخين إلى القول إن حملاتهم لم تكن سوى غارات عملاقة تم فيها تجريف مناطق عدة، وحرق المدن، وذبح السجناء واستعباد القبائل.

عندما جرت هذه الأحداث، في مايو (أيار) من عام 1479 ق. م تقريباً، كان الفرعون تحتمس الثالث يجلس سعيداً على عرش مصر. كان شخصاً مميزاً منذ ولادته. وامتلك في سن مبكرة الحكمة، وكذلك النضج الروحي والعسكري، مما أثار إعجاب الفرعون الحاكم، وهي عمته، الملكة حتشبسوت، التي عينته قائداً لجيوشها.
وعلى رغم أن حتشبسوت برهنت على أنها تدير إمبراطوريةً في النيل بكفاءة كبيرة، فقد ظلت غير نشيطة عسكرياً في مقاطعاتها النائية، الأمر الذي شجع على اندلاع تمرد مكشوف في المناطق التي غزاها أسلافها.
وكان من الطبيعي أن يرتقي تحتمس الثالث عرش مصر بعد وفاة عمته حتشبسوت، لا سيما بعد تمادي ملك قادش في التمرد ودعوته ملوك المدينة المحليين إلى تكوين جيش، وكانوا جميعهم متحمسين للإنضمام إلى تمرده.

بلا شك، لم تكن مهمة تحتمس الثالث سهلة أو يسيرة، فقد كان عليه ملاقاة الكنعانيين القساة للغاية، والمسلحين بشكل جيد بالسيوف البرونزية، والرماح ذات الرؤوس المعدنية وعدد كبير من العربات الحربية في مدينة مجدو، التي تشكل مفترق الطرق الحيوي في الطرف الشمالي من سلسلة جبال الكرمل، الواقعة عبر طريق التجارة الممتدة من مصر إلى الفرات.

في الطريق إلى المعركة الفاصلة

ما إن علم الفرعون تحتمس الثالث، الموجود في مدينة طيبة الواقعة على نهر النيل جنوب مصر، بالاضطرابات المتزايدة في أرض كنعان، حتى قام برد فعل سريع وجمع جيشاً من عشرين ألف مقاتل. كانت هذه هي المرة الأولى في التاريخ التي يُستدعى فيها تشكيل يتكون بالكامل من وحدات مهنية مدربة تدريباً عالياً. قسّم قواته بنفسه إلى أربع فرق مكونة من خمسة آلاف فرد نظامي للفرقة الواحدة، تحت إمرة قائد فرقة يمكن تمييزه بواسطة درعه الملون. كان مفتاح قوة الفرعون في قوته الضاربة المتنقلة. وتم تعزيز فرق المشاة بواسطة السلاح الذي كان فائقاً في أيامه، وهو العربة الحربية، التي يجرها حصانان ويقودهما سائس مع إثنين إلى ثلاثة من الرماة يمثلون مدفعية متنقلة.

وكانت وحدات الانتشار السريع هذه مدربة تدريباً عالياً ومدارة بشكل جيد، وكانت العربات حتى ظهور عبقرية المحارب تحتمس الثالث، تعتبر مجرد وسيلة نقل تمكن النبلاء من الدخول إلى المعركة بأناقة.
كان تحتمس أول من أدرك أهمية ما تقدمه تلك العربات من دعم، إذ سمحت له وسائل النقل والإمدادات وبناة الجسور بأن يقطع المسافة من مصر إلى غزة في غضون عشرة أيام فقط. بعد فترة راحة قصيرة، انتقل إلى مدينة باحام الواقعة على المنحدر الجنوبي لسلسلة جبال الكرمل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

نبّه القرويون حاكم سوريا، ملك قادش، إلى ظهور سحابة كبيرة من الغبار ترتفع من وسط الصحراء. وهذا ليس له سوى معنى واحد وهو أن هناك جيشاً يتحرك نحوهم.
أرسل ملك قادش دوريات استطلاع على الطريقين الرئيسين، أبلغته بوجود تحركات للقوات المصرية على كلا الطريقين. بناءً على هذه المعلومات، أنشأ موقعين دفاعيين على الطريقين الشمالي والجنوبي المؤديان إلى مجدو، ووضع كل عرباته الحربية التي يملكها، وكانت بحدود 600 إلى 700 عربة، في موقع خلف التل.
من هناك ستكون قادرة على التقدم إلى الأمام والهجوم على أي من الطريقين، لكنه فضّل تغطية الطريق الثالث، ذلك الذي يخترق وادي عارة الضيق.

قام تحتمس بحيلة ماكرة، إذ أمر كتيبتين صغيرتين بالتقدم على طول الطريق الرئيس وإحداث كمية كبيرة من الغبار عن طريق سحب حزم من الأغصان المقطوعة خلف مركباتهم من أجل خداع وحدات استطلاع العدو.

انطلق تحتمس مع قوات جيشه، من ياحام، واندفع من دون مراقبة إلى سهل أرونا.

دفع تحتمس بجيشه بالكامل عبر الممرات الضيقة الخطرة، وربما كان قد فوجئ بأن قواته لم تواجه أي مقاومة، ذلك أن ملك قادش لم يضع حراساً على المنحدرات التي تصطف على جانبي النهر.
حقق تحتمس مفاجأة المعركة، ليجد ملك قادش نفسه أمام جيش الفرعون الذي انتشر من مضيق عاره نزولاً إلى مرج ابن عامر (ويسمى أيضاً بالعبرية عيمق يزراعيل) ليفصل بين فرقتي جيشه الكنعاني.

وضع تحتمس الذي كان يواجه صراعاً شاقاً فرقة مشاته في الوسط مدعومة بـ 100 عربة حربية، وهو جزء صغير من العربات التي كانت بحوزته... فأين بقية مركباته وعجلاته الحربية؟

حكماً كان ينوي استخدامها في مناورة منسقة على جناحيه. لقد وضع هذه العربات في مدى يمكن منه توجيه ضرباتها بسهولة، وأخفاها بشكل جيد عن العدو وراء أوراق الشجر الكثيفة التي كانت حافاتها تطل على غدير ماء يدعى كوينا.

مجدو عندما يحين موعد القتال

بدأت المعركة مثلما تبدأ كل معركة في العصور القديمة، بالطقوس المعتادة والتي تتضمن ذبح الأضحية. أخذ ملك قادش فأساً ذات رأس مزدوج وذهب إلى المذبح، حيث تم ربط كبش هناك. رفع الملك الفاس عالياً حتى يتمكن كل واحد من آلاف المحاربين الذين كانوا هناك من رؤية الشفرة المتلألئة قبل أن ينزلها بشكل دائري مقوس. قطع رأس حيوان الأضحية بضربة واحدة وقام بغمس الفأس بالدم المتدفق. ثم بدأ يلوح بالفأس ويهتف ورجاله من ورائه، هتافاً امتد منذ بداية ميدان القتال إلى نهايته.
على رغم هذا الجو الأسطوري، كانت سمعة تحتمس الثالث تسبب الرعب للقادشيين، ولهذا لم يعتقد الكثير من مقاتلي الملك أنهم قادرون على هزيمة جيش الفرعون وأن يكونوا على قدم المساواة معه. ثم خيّم صمت على الجميع. لقد انتهى وقت الغناء والصلاة، وحان وقت القتال.

ارتفعت أبواق الحرب في إشارة إلى بدء الهجوم العام. تخلى الكنعانيون عن موقعهم المتفوق في الحقل، وبدأوا يتقدمون تحت وهج أشعة الشمس.

كان الفرعون تحتمس يراقب تقدم العدو من عربته، ويرصد الأخطاء المتزايدة في تشكيلات جيش الكنعانيين، ويستغلها على الفور. اكتسح صوت يشبه أنيناً ضخماً السهل والجبل، وبدأت الأرض تهتز بينما آلاف المحاربين المصريين بدأوا بالتحرك إلى الأمام. وتعالى صوت الرعد بينما كانت صفوف الرجال الهائجين تتقدم نحو بعضها البعض. ومثل النهر الذي يتدفق بسرعة اجتاح الحشدان الضخمان ميدان المعركة.

بدت السماء وكأنها ترسل إشارات سيئة لملك قادش وجيشه من خلال سرب من الطيور كان يحوم في السماء منطلقاً من الشجيرات الموجودة على طول غدير كوينا، قبل أن تندفع مجموعة ضخمة من العربات الحربية لقوات الفرعون بشكل مفاجئ وتسبق رجاله من كلا الجانبين.
اندفعت العربات مباشرةً باتجاه الكتلة المشتبكة من المحاربين المقاتلين، مما جعل سحابة كبيرة من الغبار ترتفع وسط الميدان.
لم يكن مقاتلو ملك قادش يعرفون عدد العربات التي هاجمتهم، هل كانت خمسمئة أو ستمئة، وربما كانت أكثر، فأسرعوا بجنون ليجتازوا المنطقة الحرام. وعندما أصبحت العربات في مرمى السهام، انقسمت وتدفقت نحو جناحيه، وأطلق الرماة الراكبون على العربات موجة مميتة من السهام المصنوعة من القصب توجهت مباشرة إلى ظهور الكنعانيين.

وسط الضباب والتراب وفوضى المعركة، كانت هناك مجموعات منفردة من الكنعانيين تحاول الصمود، كان ملك قادش يرفع سيفه ليحشد مجموعة من رجاله عندما هجم عليهم المصريون بالرماح والسيوف البرونزية. اندفع المصريون إلى الأمام وجعلوا الكنعانيين يلوذون بالهزيمة.

أطلق الفرغون قواته الاحتياطية في هجوم أخير بالعربات التي برهنت أنها الأكثر تدميراً. تقدم تحتمس على رأس 300 عربة مع شفراتها المنجلية الملتفة الشريرة، وقدع بذلك الفجوة التي تفصل بين قوات قادش وقلعة التل.

مع خمسين أو ستين عربة تسير جنباً إلى جنب، تقدمت آلة الحرب المصرية للاندفاع عبر الميدان. لا شي يمكنه أن يوقف اندفاع المئات من الخيول المحمية وهي تتسابق أمام العربات.

حقق تحتمس انتصاراً باهراً على ملك قادش، ومن خلال انتصاره في معركة مجدو، أنهى تحتمس الثالث لمئات السنين أي تحد لحكم مصر على فلسطين وسوريا ووادي الأردن والفرات. وعلى مدى القرون الثلاثة التالية، حكمت إمبراطورية الفراعنة بلا منازع.

هل تحتمس فرعون موسى؟

 في تاريخ مصر القديمة قلة قليلة من الفراعنة العظام الذين كتبوا أسماءهم في سجلات التاريخ الخالدة، وقد كان تحتمس الثالث من دون شك أحدهم.

تعلم تحتمس من درس تمرد ملك قادش أمراً مهماً وهو مسألة الولاء والانتماء، ولهذا استدعى أبناء أمراء الأقاليم الآسيوية إلى طيبة، عاصمة مصر في ذلك الوقت، ليتعلموا في مدارسها لضمان عدم تمردهم إذا عادوا إلى بلادهم وتولوا الحكم فيها. على أن أحد أهم الأسئلة التي لا تزال حائرة في شأن تحتمس الثالث هي: "هل كان فرعون موسى أو فرعون الخروج؟".

هناك تشكيك تاريخي في الأمر، وذلك استناداً إلى فقرة في التوراة تقول إن الملك سليمان قد بنى بيت الرب في العام 480 من خروج بني إسرائيل من مصر، والعام الرابع لحكمه، وبتحديد العام الرابع لحكم سليمان وإضافة 480 سنة سيقودنا هذا إلى نهاية تاريخ حكم تحتمس الثالث.

غير أن هذا الافتراض مشكوك بصحته نظراً لاختلاف هذا الرقم في نسخ ترجمات التوراة حتى أن بعضها يجعل هذه الفترة 500 عام مما يدل على أن هذا الرقم كان تخميناً من كتبة التوراة ومن المعروف أن الملك سليمان حكم في فلسطين بين عامي 970 و 928 قبل الميلاد.

وفي كل الأحوال يبقى الحديث عن تحتمس الثالث ومعركة مجدو علامة في كتب المعارك التاريخية القديمة، والتي سبقت معارك الإغريق.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات