ملخص
كيف يمكن تفسير اهتمام زعماء مصر ببناء المدن وتشييد العواصم البديلة لترتبط باسمهم على الدوام؟
في عناوين الأخبار عن نشاط الدولة المصرية خلال الأشهر الأخيرة، ربما يكون ذكر مدينة العلمين الجديدة أكثر من العاصمة القاهرة، فالمدينة المستحدثة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط تحولت إلى ما يشبه المقر الصيفي للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، يلتقي فيها الوزراء والمسؤولين، كما يستقبل ضيوفه من قادة العالم.
المنطقة الساحلية التي شهدت قبل 80 عاماً أحد أعنف معارك الحرب العالمية الثانية، مما خلف نحو خمس الألغام الموجودة في العالم، بحسب إحصاءات رسمية مصرية، تحولت في غضون أعوام قليلة إلى مدينة جديدة تضم قصراً رئاسياً ومقراً للحكومة، إضافة إلى مناطق سكنية وجامعة ومنطقة ترفيهية، وظهورها بهذه الصرة يعيد للأذهان الحديث عن المدن التي ارتبط اسمها دوماً بالرؤساء المصريين على مدى الحقب السياسية المختلفة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عاصمة بديلة وأخرى صيفية
وبدأ اهتمام الرئيس المصري بالعلمين عبر تدشين المدينة الجديدة في مارس (آذار) 2018 التي صممت لتستوعب 3 ملايين نسمة على مساحة 50 ألف فدان، وتعددت بعد ذلك زياراته واجتماعاته لتفقد سير الأعمال.
وفي يوليو (تموز) 2021 أدى السيسي صلاة عيد الأضحى في مسجد مدينة العلمين الجديدة، لكن في الوقت نفسه تتعدد المدن التي تحظى باهتمام رئاسي في هذه الفترة، ومنها أيضاً العاصمة الإدارية الجديدة، وهي إحدى أبرز مدن الجيل الرابع في مصر، وتبلغ مساحتها نحو 700 كيلو متر مربع، حيث تتعدد اجتماعات الحكومة بها باعتبارها العاصمة المستقبلية للبلاد، وقد أنشئت عام 2015 بهدف تخفيف الضغط عن المدينة العريقة حيث تبعد عنها نحو 60 كيلومتراً، وقد استقبل فيها الرئيس عبدالفتاح السيسي وفوداً عدة بينهم وزراء المالية والبيئة والاقتصاد الأفارقة في منتدى مصر للتعاون الدولي والتمويل الإنمائي الذي عقد في سبتمبر (أيلول) 2022، وترأس عدداً من المؤتمرات فيها ومن بينها افتتاح فعاليات المؤتمر العالمي للسكان والصحة قبل أيام.
كما تشارك الرئيس مع بعض العاملين فيها وجبة السحور خلال رمضان الماضي، وتعتبر المدينة من أهم المشاريع المعمارية في البلاد خلال الأعوام الأخيرة، لكن أستاذ العمارة والتخطيط العمراني إسلام رأفت يشير إلى أن التفكير في هذا المشروع ربما يعود لأعوام أطول من ذلك، وتحديداً قبل وقت قصير من ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011، لافتاً إلى أن العاصمة الإدارية تحظى باهتمام رئاسي رفيع.
ويلفت رأفت إلى أن إنشاء تلك المدينة بصورة عامة لا يشكل عبئاً على موازنة الدولة، إذ قدم الدعم لها في البداية فقط من طريق بعض البنى التحتية مثل خطوط الكهرباء، لكنها في ما بعد باتت مشروعاً مربحاً وأسهمها في ارتفاع.
ويوضح أن "مشروع العاصمة يتمتع باستقلالية ولا يرهق موازنة الدولة، ففي البداية نال الدعم والاهتمام المؤسسي، لكنه الآن أصبح مقصداً للشركات الاستثمارية الكبرى"، وحتى هذه اللحظة لم يتم إطلاق اسم الرئيس السيسي على أي من المدن الكبرى التي تؤسس في عهده عكس عدد من الحكام السابقين.
أما العلمين الجديدة، تلك المدينة الساحلية التي تعد من مدن الجيل الرابع المعتمدة على التكنولوجيا ووسائل التخطيط الحديثة، ومثلها المنصورة الجديدة والجلالة، فقد ظهرت بشدة على خريطة اللقاءات الإقليمية مع استضافتها قمة جمعت السيسي مع رئيس الإمارات محمد بن زايد وملك البحرين حمد بن عيسى وملك الأردن عبدالله الثاني، إضافة إلى رئيس وزراء العراق السابق مصطفى الكاظمي، وخلال الأشهر الماضية تواصل حضور السيسي في مدينة العلمين حيث استقبل رئيس وزراء اليونان ورئيس الإمارات وملك البحرين وكذلك قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان، وغيرهم من المسؤولين العرب والأجانب لتتحول المدينة الوليدة إلى مقر للحكم بعيداً من القاهرة.
بعيداً في سيناء
ولا تعد العلمين المدينة الأولى التي تحظى بهذا الاهتمام والحضور الرئاسي، فقد كان الرئيس الأسبق حسني مبارك يقيم في مدينة شرم الشيخ جنوب سيناء فترات طويلة من العام، بخاصة في العقد الأخير من حكمه الذي امتد لـ 30 عاماً، حتى إنه أقام بها عقب الإطاحة به من السلطة عام 2011.
وعلى رغم قيام مبارك ببناء مدن جديدة عدة وبينها "بدر" و"المنيا الجديدة" و"العبور" و"الشروق" و"القاهرة الجديدة"، لكنه ظل مخلصاً لشرم الشيخ التي تحولت في عهده إلى مدينة المؤتمرات والقمم الكبرى، بدءاً من قمة صانعي السلام حول القضية الفلسطينية عام 1996 بحضور عربي وغربي، وحتى القمة الاقتصادية العربية التي استضافتها "مدينة مبارك" كما كان بعضهم يطلق عليها، في يناير 2011 قبل خمسة أيام فقط من قيام الثورة التي أطاحت به.
ويرى إسلام رأفت أن إنشاء المدن الجديدة بصورة عامة مرتبط بالرؤية السياسية أولاً أكثر منه بالرؤية التخطيطية، ففي حين أن انطلاق تأسيس شرم الشيخ التي تقع في محافظة جنوب سيناء كان منذ نهاية ستينيات القرن الماضي، إلا أن الاهتمام الحقيقي بها وبشبه جزيرة سيناء ككل جاء عقب استردادها من الإسرائيلين في حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، مشيراً إلى أن الهدف الأساس كان تأمين الحدود وخلق حياة متكاملة هناك، إضافة إلى النشاط السياحي وخلق أكثر من ظهير لها وبينها الظهير الزراعي.
وأضاف، "هي مدينة سياحية وستظل كذلك، وأقصى ما يمكن إضافته هو إنشاء بعض الجامعات وتنمية سياحة المؤتمرات بها".
وبالمثل تسير "علمين السيسي" على درب "شرم مبارك" حيث استضافت اجتماعاً لقادة الفصائل الفلسطينية مطلع أغسطس (آب) الماضي، وتبعت ذلك قمة ثلاثية جمعت الرئيس المصري بنظيره الفلسطيني وملك الأردن.
وبينما خططت مدينة العلمين لتكون مقراً صيفياً للحكومة، كانت شرم الشيخ منتجعاً للرئيس مبارك مستفيداً من التأمين المشدد للمدينة التي وضعت على خريطة السياحة العالمية، وبخاصة ما يعرف بـ "سياحة المؤتمرات"، عبر عشرات الفعاليات السياسية والاقتصادية التي حضرها زعماء ومسؤولون دوليين.
وكان لافتاً اختيار المدينة وليس العلمين أو العاصمة الإدارية لإقامة أكثر من مؤتمر على مستوى دولي بها، ومن بينها مؤتمر شباب العالم ومؤتمر المناخ "كوب-27" الذي استضافته مصر في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، إذ لا تزال تحافظ على رونقها، كما أنها كانت الواجهة المثالية لفاعلية قوامها الحفاظ على البيئة بما تتضمنه من بنية تحتية قوية وخدمات متكاملة ومساحات خضراء شاسعة، وكذلك بنايات قليلة الأدوار بخلاف الأبراج الشاهقة الحاجبة للضوء التي لم يعد مرحباً بها في نظم الأبنية الصديقة للبيئة، إضافة إلى طبيعة سكانها المعتادين على الحفاظ على مستوى المدينة ذات الطبيعة السياحية التي تقصدها عشرات الجنسيات سنوياً.
السادات وعزلته الوارفة
والابتعاد من ضجيج القاهرة يبدو أنه إرث انتقل إلى مبارك من سلفه أنور السادات الذي كان يفضل قضاء أوقات طويلة من العام في مدينة أسوان أقصى جنوب مصر، إذ ارتبط الرئيس الراحل بالمدينة منذ افتتاحه مشروع السد العالي في يناير عام 1971، وكان ذلك أول تعزيز لصورته كزعيم للبلاد بعد رحيل سلفه صاحب الشعبية الطاغية جمال عبدالناصر.
واستمر ارتباط السادات بالمدينة الجنوبية طوال أعوام حكمه، ففي عام 1974 ذكرت صحيفة "الأهرام" أن الرئيس اختار الذهاب إلى أسوان لإجراء مشاورات سياسية مع وزرائه ومعاونيه، وأنه اختار المدينة لرغبته في الابتعاد من ضغوط العمل اليومي بالقاهرة، وفق تعبير الصحيفة المصرية.
كذلك خاطب السادات الشعب المصري من أسوان بعد تجديد الثقة فيه رئيساً للجمهورية باستفتاء شعبي في الـ 14 من سبتمبر عام 1981، أي قبل ثلاثة أسابيع من اغتياله في عرض عسكري لمناسبة ذكرى الانتصار على إسرائيل في حرب السادس من أكتوبر عام 1973.
وقد فضل السادات استقبال ضيوفه من كبار القادة في أسوان، مثل الرئيس الأميركي جيمي كارتر عام 1978، وحينها قال السادات لكارتر إنه اختار الابتعاد من القاهرة إلى الريف لأنه يكره العيش في توتر ولا يستطيع التفكير إلا في هدوء على عكس سابقه عبد الناصر، وفق ما أورده وزير الخارجية وقتها محمد إبراهيم كامل في كتابه "السلام الضائع".
وفي حين أن السادات اختار مدينة عريقة وراسخة مثل أسوان لقضاء وقته واستقبال الضيوف من مختلف البلدان، فإنه كعادة غالبية الرؤساء الذين يحكمون مصر أصدر قرارات بتأسيس مدن جديدة عدة لمواجهة الزيادة السكانية، من بينها "السادس من أكتوبر" تخليداً لذكرى النصر حين اتخذ القرار عام 1979، وهو العام الذي ظهرت فيه هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة التابعة لوزارة الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية المسوؤلة عن إنشاء المدن الجديدة والتنمية العمرانية بصورة عامة، إضافة إلى مدينة "السادات" التي حملت اسمه، وهي مدينة صناعية تقع في محافظة المنوفية بدأ العمل فيها عام 1976.
ويرى المتخصص في العمارة والتخطيط العمراني إسلام رأفت أن اهتمام حكام مصر ببناء المدن يعبر عن فلسفة مرتبطة بتاريخ البلاد العميق في البناء، فقد ارتبط في الأذهان منذ آلاف الأعوام أن القائد يجب أن يبني، مشيراً إلى أن عاصمة البلاد كانت تتغير وفقاً لتفضيلات الحاكم في العصر الفرعوني، فثقافة البناء مرتبطة لدى المصري منذ فجر التاريخ بفكرة التميز، وهذا ما يسعى إليه عادة القائد والزعيم.
ويواصل أستاذ العمارة أنه "حتى في ما يتعلق بالعبادات في الدولة القديمة كان كل حاكم ينشئ معبداً مستقلاً بذاته ولا يكتفي بإنجازات من سبقه بهذا الصدد"، ويفسر استمرار هذا التوجه بأن المصريين توارثوه أجيالاً ورأء أجيال، إذ إن أفكارهم دوماً تذهب ناحية شراء العقارات لأنه تصرف يشعرهم بالأمان، وبالتالي فإن أي مستأجر يسعى طوال الوقت إلى التملك وأن يصبح لديه بيت خاص يتركه لأبنائه.
وما يقوله أستاذ التخطيط والعمارة يتماشى مع فكرة الاستمرارية بعد الرحيل والخلود التي ارتبطت بصورة وثيقة بثقافة ملوك مصر القديمة، وهو ما تتحدث عن نقوش المعابد الباقية على مدى الأعوام وتحكي قصص زعماء عاشوا وشيدوا وصنعوا حضارة ارتبطت باسمهم.
عبد الناصر والمعمورة
أما في ما يتعلق بالرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر فإنه لم يكن دائماً يعيش وسط التوتر مثلما قال السادات عنه، فعلى رغم الاجتماعات والأحداث المتلاحقة التي عرف بها عصره، كان يجد لنفسه بعض الوقت لقضاء الإجازة في منطقة المعمورة بالإسكندرية على ساحل البحر المتوسط وممارسة هواية التصوير الفوتوغرافي التي كان يحبها، بخاصة أن الإسكندرية هي مسقط رأسه.
وكانت استراحة المعمورة في بعض الأوقات مركزاً للحكم خلال عهد عبدالناصر، إذ كان يجري اجتماعات مع كبار المسؤولين وبخاصة في فترة ما بعد الاحتلال الإسرائيلي لسيناء عام 1967، بحسب ما ذكر سكرتير عبدالناصر الخاص للمعلومات سامي شرف، والذي خصص فصلاً في مذكراته باسم "أحاديث المعمورة" يروي فيها بعضاً من تلك الاجتماعات التي جرت عام 1970 قبل أسابيع من وفاة عبدالناصر.
وعلى رغم اختياره مدينة عميقة الجذور مثل الإسكندرية فإن الزعيم المصري الذي تميز عن أقرانه بأن مريديه في العالم العربي لا يزالون مخلصين لذكراه وأفكاره النضالية والقومية حتى اليوم، فقد سار على النهج نفسه في ما يتلعق بإنشاء المدن، ولعل أبرزها مدينة نصر التي لا تزال صامدة حتى وإن أصابها بعض الإهمال.
وبدأ العمل على المشروع عقب ثورة 1952 ليكون امتداداً راقياً حديثاً لمدينة القاهرة ويضم سفارات عدة وبعض الوزارات والمراكز الرياضية، ويعتبر بعضهم أن اسم "نصر" هنا مشتق من انتصارات القوات المسلحة، لكن آخرين يرونها رمزاً يشير إلى اسم ناصر نفسه، في حين تم إطلاق اسم مبارك على عدد من المشاريع والمراكز والمدن العلمية، بينها مدينة مبارك للأبحاث العلمية التي تم تغيير اسمها بعض ثورة يناير إلى مدينة الأبحاث العلمية والتطبيقات التكنولوجية بناء على قرار المجلس الأعلى للقوات المسلحة، والأمر نفسه بالنسبة إلى قرينته السيدة سوزان مبارك، فقد تم تعديل أسماء عدد من المؤسسات التي كانت تحمل اسمها.